التعليم والذكاء الاصطناعيّ: شراكةٌ مبتكرةٌ، أم تحدٍّ للذكاء البشريّ؟
هل يتمّ تشجيع المعلّمين بشكلٍ كافٍ على تجربة أدوات الذكاء الاصطناعيّ؟ هل يتمّ تحفيزهم بما يكفي لرؤية هذه الأدوات وسيلةً لتحسين جودة التعليم؟ وهل يمتلكون الثقة الكافية بمعرفتهم بها، لبدء توجيه الطلّاب نحو استخدامها؟ تبدأ الإجابة عن هذه التساؤلات بتعامل الم
التعليم والذكاء الاصطناعيّ: شراكةٌ مبتكرةٌ، أم تحدٍّ للذكاء البشريّ؟
هل يتمّ تشجيع المعلّمين بشكلٍ كافٍ على تجربة أدوات الذكاء الاصطناعيّ؟ هل يتمّ تحفيزهم بما يكفي لرؤية هذه الأدوات وسيلةً لتحسين جودة التعليم؟ وهل يمتلكون الثقة الكافية بمعرفتهم بها، لبدء توجيه الطلّاب نحو استخدامها؟ تبدأ الإجابة عن هذه التساؤلات بتعامل الم
هيا بيطار | معلّمة علوم للمرحلتين المتوسّطة والثانويّة، ومتدرّبة في مشروع تمام، وطالبة دراسات عليا في الجامعة الأمريكيّة في بيروت

منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، شهد قطاع التعليم انفتاحًا على الابتكارات في تكنولوجيا المعلومات، بدءًا من استخدام الألواح التفاعليّة داخل الفصول الدراسيّة، وصولًا إلى التعلّم عن بُعدٍ خلال جائحة كورونا. أدّى ذلك إلى تغييراتٍ جوهريّةٍ في أساليب التعليم، ما شكّل تحدّيًا رافقه الكثير من الارتباك، قوبل بمقاومة الإداريّين والمعلّمين والطلّاب. 

ومع ذلك، كان هذا التحدّي فرصةً لإعادة تعريف التعليم، وتبنّي أدواتٍ جديدةٍ؛ إذ بادرت المدارس إلى تقديم دوراتٍ تدريبيّةٍ للمعلّمين والإداريّين، حول كيفيّة استخدام التكنولوجيا في هذا العصر، وأهمّيّتها. وعلى الرغم من الشكوك والاعتراضات التي رافقت دمج التكنولوجيا في التعليم، إلّا أنّ الجميع اتّفقوا في نهاية المطاف، على حتميّة هذا الأمر، بغية تحسين الأداء التعليميّ، وتوسيع نطاق وصول تعليمٍ جيّدٍ إلى أكبر عددٍ من الطلّاب.  

مع تسارع وتيرة النموّ التكنولوجي، وصلنا اليوم إلى مرحلةٍ متقدّمةٍ مع بروز الذكاء الاصطناعيّ. في هذا المقال سأتناول تجربتي الشخصيّة مع الذكاء الاصطناعيّ، باعتباري معلّمةً لمادّة العلوم، وسأناقش كيف يمكن للتحدّيات التي تفرضها هذه التقنيّات أن تكون حافزًا لنا، نحن المعلّمون، وتدفعنا إلى إعادة النظر في أساليبنا التعليميّة، والتأمّل في أيّ نوعٍ من المعلّمين نطمح إلى أن نكون، في ظلّ هذا التحوّل التكنولوجيّ المتسارع.  

 

ما الذكاء الاصطناعيّ؟ 

يُعرف الذكاء الاصطناعيّ (AI) بأنّه مجموعةٌ من التقنيّات التي تتيح فهم البيانات وتحليلها، سواء كانت مكتوبةً أم منطوقةً، للوصول إلى مخرجاتٍ ملائمة (.Google Cloud, n.d). وفقًا لحركة الثقافة الرقميّة (digital literacy movement)، يُعتبر استخدام أدوات الذكاء الاصطناعيّ وسيلةً فعّالةً لتحسين عمليّات التعلّم بشكلٍ كبير (Mangera et al., 2024). 

تناولت دراسةٌ لمانغيرا وآخرون، العلاقة بين الذكاء الاصطناعيّ ومفهوم "ما بعد الإنسانيّة" (Transhumanism) في سياق التعليم (.Mangera et al). يقوم هذا المفهوم على تعزيز القدرات العقليّة والجسديّة للإنسان باستخدام التكنولوجيا، لتجاوز حدود الطبيعة البيولوجيّة. وعلى رغم الجدل الأخلاقيّ الذي يثيره هذا المفهوم، نظرًا إلى غموض أسسه الفلسفيّة من جهةٍ، ومعارضته لبعض المعتقدات الدينيّة من جهةٍ أخرى، أشارت الدراسة إلى أهميّة دمج أدوات الذكاء الاصطناعيّ في أنظمة التعليم، موضحةً أنّ هذه الأدوات تسهم في تحسين العمليّة التعليميّة، ويمكن اعتبارها أداةً تكميليّةً من منظور "ما بعد الإنسانيّة".  

في السنوات الأخيرة، بات من الصعب مواكبة وتيرة هذا التقدّم المتسارع، وشاع استخدام تقنيّات الذكاء الاصطناعيّ على العديد من المستويات، مثل chatbots التي تستخدم في إدخال البيانات، وتعتمد نظام تعلّم الآلة (Machine Learning) في رفع كفاءتها. هذا التطوّر لا يقتصر على تحسين الأدوات فحسب، بل يفرض علينا صياغة حلولٍ واستراتيجيّاتٍ لاستثمارها بفعّاليّةٍ في مختلف المجالات.  

 

الإشكاليّة حول الذكاء الاصطناعيّ في السياق التعليميّ 

خلصت دراسة كوكين وداجال (2021) إلى أنّ المعلّمين لا يناقشون أهمّيّة أدوات الذكاء الاصطناعيّ بما يكفي مع زملائهم وطلّابهم، ولا يجرّبونها أيضًا. كما كشفت الدراسة عن نقص الوعي لدى العديد من المعلّمين بشأن الأدوات والأنظمة التعليميّة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعيّ، ما حال دون إدراكهم للإمكانات التي يمكن أن تقدّمها هذه التقنيّات للعمليّة التعليميّة بشكلٍ عامّ.  

لم تعد موجات التكنولوجيا السريعة غريبةً عن مجال التعليم، لكنّ التحوّل هذه المرّة يكمن في انتقالها من دور المساعد في العمليّة التعليميّة، إلى إمكانيّة أن تصبح معلّمًا مستقلًّا، الأمر الذي يثير تساؤلاتٍ جدّيّةً حول دور المعلّمين. ويبقى السؤال الأكثر إلحاحًا: هل يمكن للذكاء الاصطناعيّ أن يحلّ محلّ المعلّم؟ وهل يدرك المعلّمون فوائد دمج الذكاء الاصطناعيّ في التعليم؟  

 

شراكةٌ مبتكرةٌ لرفع مستوى التعليم 

تسهم أدوات الذكاء الاصطناعيّ في تخفيف عبء المهام الروتينيّة التي تقع على عاتق المعلّمين، مثل التخطيط للدروس، وإدارة الفصول الدراسيّة، وإعداد التقييمات وتصحيحها. توفّر هذه الأدوات حلولًا فعّالةً لدعم المسؤوليّات التعليميّة والإداريّة، من بينها تخطيط التعليم المتمايز، وأتمتة إدارة البيانات، مثل تسجيل الحضور والدرجات، وتوليد أنشطةٍ صفّيّةٍ تتوافق مع الأهداف التعليميّة. على سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعيّ تصميم خططٍ دراسيّةٍ، واقتراح أفكارٍ مبتكرةٍ لتجارب مخبريّةٍ، وتقييماتٍ، وخططٍ تعليميّةٍ فرديّةٍ (Individualized Education Plans) تناسب الطلّاب ذوي الاحتياجات الخاصّة. كما يمكنها أن تقدّم أفكارًا إبداعيّةً لمشاريع حول الحدّ من الاستخدام السلبيّ للذكاء الاصطناعيّ.  

من الأدوات التي أراها ذات فائدةٍ كبيرةٍ، منصّة "Magic School AI". وكوني معلّمة علومٍ، أستخدم هذه المنصّة لتصميم أنشطةٍ مخبريّةٍ تتناسب مع المستوى التعليميّ للصفوف المختلفة. يمكن لمعلّمي مجالاتٍ أخرى، مثل اللغات والأدب، الاستفادة من خاصّيّة "Text Leveler" التي تعمل على تعديل مستوى قراءة النصوص وفقًا للمستوى الصفّيّ، وتوليد أسئلةٍ تقييميّةٍ بالاستناد إلى النصوص المقدّمة.  

إضافةً إلى ذلك، يمكن أن يوفّر الذكاء الاصطناعيّ حلولًا فعّالةً لتقليل الوقت والجهد المبذولين في إعداد العروض التقديميّة. يتيح برنامج "GammaAI"، مثلًا، توليد عروضٍ تفاعليّةٍ قابلةٍ للتعديل انطلاقًا من نصوصٍ مكتوبةٍ، مع إمكانيّة توليد صورٍ وتمارين ترتبط بالمحتوى. كما يساعد "EdPuzzle" المعلّمين في إعداد محتوًى تفاعليٍّ، بتوليد أسئلةٍ حول مقاطع الفيديو التعليميّة، ما يتيح للطلّاب فرصة التفاعل مع المحتوى، والإجابة عن الأسئلة في الوقت الفعليّ.  

 

الذكاء الاصطناعيّ تحدٍّ للإبداع البشريّ 

على الرغم من الفوائد العديدة التي تقدّمها أدوات الذكاء الاصطناعيّ لتسهيل العمليّة التعليميّة، يراها البعض تهديدًا لدور المعلّمين. ومع ذلك، تمنح الأتمتة التي تتولّى معظم الأعمال الروتينيّة، المعلّمين فرصةَ إعادة التفكير في دورهم الحقيقيّ؛ إذ كان تركيزهم منصبًّا دائمًا على نقل المحتوى، الأمر الذي لم يعد كافيًا في عصر وفرة المعرفة، وإمكانيّة الوصول إليها. اليوم بات التعليم يتطلّب التركيز على تنمية التفكير النقديّ، والمهارات فوق المعرفيّة التي تعزّز قدرة الطلّاب على استقبال المعرفة وتحليلها بفعاليّة.  

يُطلق على المعلّم في اللغة العربيّة اسم "المربّي"، وهو لقبٌ يعكس دورًا يتجاوز نقل المعرفة، ليشمل توجيه الطلّاب وبناء شخصيّاتهم. يزرع المربّي القيم والأخلاق، ما يجعله ركيزةً لا غنى عنها في العمليّة التعليميّة، وهذا دورٌ لا يمكن للذكاء الاصطناعيّ أن يحلّ محلّه، ولا سيّما عندما يتعلّق الأمر بالدعم العاطفيّ والتوجيه الشخصيّ. ومع ذلك، يسهم الذكاء الاصطناعيّ في تسهيل العديد من المهام التدريسيّة بإبداعٍ وابتكارٍ، متيحًا للمعلّمين التركيز على دورهم الأساس في خلق جيلٍ واعٍ، قادرٍ على التفكير النقديّ والاندماج المسؤول في المجتمع.  

 

إعادة تصوّر دور المربّي في عصر التدفّق المعلوماتيّ 

تتطلّب إعادة النظر في دورنا باعتبارنا مربّين في هذا العصر، تطوير مرجعيّاتنا التعليميّة. وهي مجموعةٌ من الافتراضات والمعتقدات الأساسيّة التي تشكّل خرائطنا الذهنيّة، وتؤثّر في سلوكيّاتنا (Sergiovanni, 2009). بمعنًى آخر، هي الطريقة التي نعلّم بها، وتعكس ما نؤمن به حول رسالة التعليم. يساعدنا هذا التمرين على تبنّي نهجٍ أكثر انفتاحًا في التعامل مع الذكاء الاصطناعيّ، يشجّعنا على خوض رحلة تعلّمٍ وتجريبٍ مدروسةٍ ومسؤولةٍ، تحفّز الإبداع والابتكار، وتلبّي احتياجات المتعلّمين واهتماماتهم الشخصيّة.  

من ناحيتي، أرى التعليم مهنةً تتطلّب التزامًا عميقًا، ورغبةً دائمةً في التطوّر المهنيّ. لذا، أحرص على البحث المستمرّ عن طرقٍ وأساليب لتحسين أدائي، ولا سيّما بالدمج بين التكنولوجيا والتعليم، واعتماد تقنيّاتٍ وتطبيقاتٍ جديدةٍ، أقوم بتعديلها بانتظامٍ استنادًا إلى ملاحظات الطلّاب واحتياجاتهم المتنوّعة. فهذا ليس مجرّد إضافةٍ، بل ضرورة لتحسين جودة التعليم وتعزيز نتائجه. يتطلّب هذا فهمًا عميقًا لدور التكنولوجيا في العمليّة التعليميّة، والإمكانات التي يمكن أن توفّرها في تطوير مهارات التفكير النقديّ والعمليّات المعرفيّة لدى الطلّاب. وللوصول إلى أفضل النتائج، ينبغي تشجيع الطلّاب وتدريبهم على نقد الأدوات الرقميّة والموارد التكنولوجيّة، واستخدامها بشكلٍ فعّال (Darling-Hammod, 2024). 

يمكنني القول إنّ تجربتي مع الذكاء الاصطناعيّ كانت ملهمةً حتّى الآن، إذ أسهمت في تحسين أساليبي التعليميّة، بإدخال عنصر الإبداع والتجديد. كما وفّرت لي الوقت اللازم للتركيز على الجوانب الأكثر أهمّيّةً، مثل جذب اهتمام الطلّاب، وطرح الأسئلة المحفّزة للنقاش، وإشراكهم في حواراتٍ نقديّةٍ تمنحهم فرصة التعبير عن آرائهم، وتلبّي حاجاتهم الشخصيّة.  

 

*** 

من الضروريّ أن ينظر المعلّمون إلى مهنتهم باعتبارها مساحةً للتعلّم المستمرّ. سيتيح لهم هذا الانفتاح على تجربة أدوات الذكاء الاصطناعيّ، واستغلالها لتحسين جودة التعليم وأساليبه. يعزّز هذا ثقتهم بمعرفتهم بهذه الأدوات من جهةٍ، ويمكّنهم من تشجيع الطلّاب على استخدامها بفعّاليّة من جهةٍ أخرى، وبالتالي تطوير مهاراتهم، وتحفيزهم على الابتكار والتفكير النقديّ، وصولًا إلى بيئةٍ تعليميّةٍ أكثر فعّاليّةً وإشراكًا.  

لكن يبقى السؤال: هل يتمّ تشجيع المعلّمين بشكلٍ كافٍ على تجربة أدوات الذكاء الاصطناعيّ؟ هل يتمّ تحفيزهم بما يكفي لرؤية هذه الأدوات وسيلةً لتحسين جودة التعليم؟ وهل يمتلكون الثقة الكافية بمعرفتهم بها، لبدء توجيه الطلّاب نحو استخدامها؟ تبدأ الإجابة عن هذه التساؤلات بتعامل المعلّمين مع مهنتهم باعتبارها مساحة تعلّمٍ مستمرّة.  

اليوم، نحن أمام فرصةٍ استثنائيّةٍ لإعداد طلّابٍ يمتلكون تفكيرًا نقديًّا، ومهارات تواصلٍ وتعاونٍ فعّالةً، وقدرةً عاليةً على حلّ المشكلات. يتوجّب علينا استثمار إمكانات الذكاء الاصطناعيّ في خلق ثقافةٍ تعليميّةٍ مستدامةٍ، تشجّع الطلّاب على التعامل معها أداةً تعزّز مهاراتهم الإنسانيّة، بدلًا من اعتبارها بديلًا عن المعلّم.  

 

المراجع 

-Google Cloud. (n.d.). What is artificial intelligence? Google Cloud. Retrieved from:  https://cloud.google.com/learn/what-is-artificial-intelligence  

-Darling-Hammond, L. (2024). Reinventing Systems for Equity. ECNU Review of Education, 7(2), 214-229. https://doi.org/10.1177/20965311241237238 

- Köken, C., & Sabahattin, İ. (2024). Investigation of preschool education teachers, preschool children and mothers’ opinions on artificial intelligence. International Journal of Early Childhood Education Studies, 8(1), 24–35. 

- Mangera, E., Supratno, H., & Suyatno. (2023). Exploring the relationship between transhumanist and artificial intelligence in the education context: Particularly teaching and learning process at tertiary education. Pegem Egitim ve Ogretim Dergisi, 13(2), 35–44.  

- Sergiovanni, T. J. (2009). In The principalship: A reflective practice perspective (6th ed., pp. 82–97). Pearson Education.