المتعلّم بين الذكاءين
عندما جلست لأكتب هذا المقال، أردت أن أبدأ بمثالٍ واقعيٍّ حول تأثير الذكاء الاصطناعيّ في قدرات الإنسان التحليليّة والإبداعيّة. سرعان ما وجدت نفسي أستخدم ChatGPT للحصول على مثال. أثار هذا السلوك لديّ تساؤلاتٍ حول الاتّكاليّة التي قد تتولّد عن الاستخدام المف
المتعلّم بين الذكاءين
عندما جلست لأكتب هذا المقال، أردت أن أبدأ بمثالٍ واقعيٍّ حول تأثير الذكاء الاصطناعيّ في قدرات الإنسان التحليليّة والإبداعيّة. سرعان ما وجدت نفسي أستخدم ChatGPT للحصول على مثال. أثار هذا السلوك لديّ تساؤلاتٍ حول الاتّكاليّة التي قد تتولّد عن الاستخدام المف
محمّد حمّور | معلم صف في برنامج السنوات الابتدائية -(IB)-لبنان/قطر

بعد طفرة الذكاء الاصطناعيّ، تتولّد لدى المتأمّل أسئلةٌ حول استخداماته وأخلاقيّاته، من حقوق الملكيّة ودقّة المعلومات، إلى تأثيره في أداء المهنيّين في عملهم. يظهر ذلك جليًّا في كمّ الكتابات والمرئيّات التي نُشرت حوله خلال فترةٍ زمنيّةٍ قصيرةٍ، بعد أن استولى على الاستخدام اليوميّ للناس. وفي مجال التعليم بشكلٍ خاصٍّ، توسّع الكُتّاب في شرح استخدامات الذكاء الاصطناعيّ، وناقشوا أخلاقيّاته، وجادل بعضهم حول أحقّيّة المتعلّمين في استخدامه. 

بناءً على الخبرة التراكميّة للتربويّين في هذا المجال، أطرح سؤالًا حول تأثير استخدام الذكاء الاصطناعيّ في ذكاء الإنسان الفطريّ. فهل هناك ترابطٌ – إيجابيًّا كان أو سلبيًّا – بين الذكاءين؟ وهل لاختيارات المعلّم في استخدام الذكاء الاصطناعيّ داخل الصفّ دورٌ في صياغة هذا الترابط؟ كيف يمكن للمعلّم أن يوازن بين تعزيز الذكاء الفطريّ للمتعلّمين، واستخدام الذكاء الاصطناعيّ أداةً تعليميّةً فعّالة؟ وهل ينمّي استخدام المتعلّمين للذكاء الاصطناعيّ ذهنيّة "لماذا أفكّر إذا كانت الآلة تفكّر عنّي؟" 

 

هل يؤثّر استخدام الذكاء الاصطناعيّ في ذكاء المتعلّمين؟  

عندما جلست لأكتب هذا المقال، أردت أن أبدأ بمثالٍ واقعيٍّ حول تأثير الذكاء الاصطناعيّ في قدرات الإنسان التحليليّة والإبداعيّة. سرعان ما وجدت نفسي أستخدم ChatGPT للحصول على مثال. أثار هذا السلوك لديّ تساؤلاتٍ حول الاتّكاليّة التي قد تتولّد عن الاستخدام المفرط لهذه الأدوات. تساءلت عن السرعة التي تخلّيت فيها عن محاولة استحضار الأفكار بنفسي، وعن التأثير المحتمل لذلك في قدراتي التحليليّة. 

ليس هذا المفهوم بعيدًا عن دراسات علم الدماغ، حيث توصّل الباحثون إلى أنّ خلايا الدماغ تعمل بشكلٍ مشابهٍ لخلايا العضلات، والتي تتّبع مبدأ "استخدمها أو اخسرها" (use it or lose it). بمعنًى آخر، كلّما قلّ استخدام خلايا الدماغ، قلّت قدرة هذه الخلايا على النموّ والتطوّر، ما يؤدّي إلى اضمحلال قدرة الإنسان على التفكير التحليليّ والإبداعيّ (فواث ونورتن، 2024). 

 

لا توجد - حتّى الآن - دراساتٌ حول تأثير استخدام الذكاء الاصطناعيّ في ذكاء الإنسان على المديَين المتوسّط والبعيد، إذ يتطلّب هذا النوع من الدراسات فتراتٍ زمنيّةً طويلةً (longitudinal studies)، هي غير متاحةٍ بعد، نظرًا إلى حداثة عمر الذكاء الاصطناعيّ. ومع ذلك، بالإمكان الوصول إلى استنتاجاتٍ أوّليّةٍ، استنادًا إلى ما تمّت دراسته خلال السنوات الأربعة المنصرمة.  

على سبيل المثال، تقدّم دراسة سيّد أحمد وآخرون (2023)، نتائج لافتة حول العلاقة بين استخدام الذكاء الاصطناعيّ وخسارة القدرة على اتّخاذ القرارات والكسل، بين طلّابٍ جامعيّين في باكستان والصين. أظهرت الدراسة أنّ الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعيّ في العمليّات الذهنيّة - مثل الكتابة الأكاديميّة والبحث العلميّ واتّخاذ القرارات اليوميّة - يؤدّي إلى تراجعٍ تدريجيٍّ في قدرة الإنسان على أداء هذه المهام بشكلٍ مستقلّ. وأشار الباحثون إلى أنّ المتعلّمين الذين يعتمدون بشكلٍ أساسيٍّ على أدوات الذكاء الاصطناعيّ في إعداد أبحاثهم، أو كتابة تقاريرهم، يفقدون تدريجيًّا مهارات صياغة الأفكار، وتحليل المعلومات، واستنباط الاستنتاجات بأنفسهم. كما لاحظوا أنّ هذه الظاهرة تمتدّ لتشمل ضعفًا في الدافعيّة الذاتيّة، إذ يعتاد الأفراد على حلولٍ جاهزةٍ تقدّمها التكنولوجيا، ما يقلّل من استعدادهم لمواجهة التحدّيات الذهنيّة، أو التفكير العميق. 

ناقشَت دراساتٌ أخرى، مثل دراسة ميركولا (٢٠١٢)، أنّ مهارات التفكير النقديّة - والتي تُعدّ ركيزةً أساسيّةً في العمليّة التعليميّة والحياة العمليّة - قد تواجه تدهورًا ملموسًا، نتيجة الاعتماد الزائد على أدوات الذكاء الاصطناعيّ. أوضحت الدراسة أنّ الأمر لا يقتصر على الحدّ من التفكير المستقلّ، بل يمكن أن يقلّل قدرة الفرد على التشكيك والتحليل وفهم السياقات المعقّدة. فعندما يلجأ الأفراد إلى الذكاء الاصطناعيّ للحصول على تفسيراتٍ، أو إجاباتٍ مباشرةٍ، من دون محاولة تحليل المشكلة بأنفسهم، فإنّهم يعزّزون الاعتماد السلبيّ على هذه الأدوات، ما يحدّ من قدرتهم على تطوير مهاراتهم الأساسيّة في التفكير والتحليل.  

 

هل ينطبق هذا على جميع استخدامات الذكاء الاصطناعيّ؟  

كما يلاحظ القارئ في الفقرة الأولى، فالتأثير المتوقّع لاستخدام الذكاء الاصطناعيّ في الذكاء البشريّ ليس تأثيرًا عامًّا أو مطلقًا، بل يتوقّف على كيفيّة استخدام هذه الأدوات. يظهر التأثير السلبيّ بشكلٍ خاصٍّ عند الاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعيّ، لتنفيذ المهام التي تُعتبر أساسيّةً لتنمية القدرات العقليّة المرتبطة بالذكاء البشريّ، مثل تحليل الموادّ الدراسيّة، واتّخاذ القرارات، والتحقّق من صحّة المعلومات، والكتابة الإبداعيّة. تتطلّب هذه العمليّات تفكيرًا نقديًّا وإبداعيًّا، وتسهم بشكلٍ مباشرٍ في تعزيز وظائف الدماغ، وتنمية المهارات الفكريّة. 

على الجانب الآخر، يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعيّ أداةً فعّالةً ومفيدةً، عندما يُستخدم لتوفير الوقت والجهد في المهام الروتينيّة، أو تلك التي لا تتطلّب التفكير العميق. على سبيل المثال، يمكن استخدام الذكاء الاصطناعيّ أداةً مساعدةً في تسهيل الوصول إلى المعلومات، أو معلّمًا شخصيًّا يقدّم الدعم والتوجيه للمتعلّمين، من دون أن يحلّ محلّ الجهد الفكريّ البشريّ. 

يمكن الاطّلاع على النموذج بمسح الرابط.

  النموذج هنا

 

قد يكون نموذج "خان ميغو" (Khanmigo) الذي طوّرته مؤسّسة خان أكاديمي خير مثالٍ على ذلك. يتيح هذا النموذج للمتعلّمين التفاعل مع الذكاء الاصطناعيّ، بطريقةٍ تدعم استيعاب المفاهيم ومراجعة المهارات، من دون تقديم إجاباتٍ جاهزة. فهو يوجّه المتعلّم عبر أسئلةٍ استكشافيّةٍ، ويحثّه على التفكير وحلّ المشكلات بنفسه. يعزّز هذا النوع من الاستخدام التعلّم الشخصيّ، ويوفّر للمتعلّمين فرصة تطوير مهارات التفكير النقديّ والإبداعيّ، مع الحفاظ على دورهم مفكّرين رئيسيّين في العمليّة التعليميّة. 

بناءً على ذلك، يمكننا القول إنّ تأثير الذكاء الاصطناعيّ في التعلّم والذكاء البشريّ، يتوقّف على طريقة استخدامه؛ فإذا استُخدم لدعم العمليّة التعليميّة بدلًا من استبدالها، فإنّه يظلّ أداةً فعّالة.  

ومع ذلك، يُطرح هنا سؤالٌ مهمّ: ما المعيار الذي يستخدم لتحديد الاستخدام الصحيح للذكاء الاصطناعيّ؟ 

تكمن الإجابة في توجيه السؤال الآتي: "من الذي يقوم بعمليّة التفكير؟" إذا كان المتعلّم هو الذي يضطلع بعمليّة التفكير، بينما يُستخدم الذكاء الاصطناعيّ وسيلةً مساعدةً، فإنّ هذا الاستخدام يُرجّح تعزيز التعليم بدلًا من تقويضه. أمّا إذا كان الذكاء الاصطناعيّ هو الذي يقوم بالعمليّات الذهنيّة نيابةً عن المتعلّم، فإنّ هذا سيؤدّي إلى تراجع قدرة المتعلّم على التفكير النقديّ والإبداعيّ على المدى الطويل. 

 

لتوضيح المعيار، يمكن للقارئ الاطّلاع على الأمثلة الآتية:  

الاستخدام السلبيّ 

السبب 

البديل الفعّال 

يستخدم المتعلّم ChatGPT ليكتب مقالًا نيابةً عنه في حصص اللغة والأدب. 

تستدعي الكتابة مهارات التفكير المتقدّمة ومهارات اللغة، ما يجعلها ضروريّةً لنموّ المتعلّم الذهنيّ. 

يقيّم المتعلّم مقالًا كتبه ChatGPT بناءً على معايير النجاح التي وضعها بنفسه.  

يستخدم المتعلّم Gemini ليحلّ عنه مسائل حسابيّة في الرياضيّات. 

يتطلّب اكتساب المهارات الرياضيّة محاولةً مستمرّةً لحلّ المشكلات والمسائل (productive struggle). 

يستخدم المتعلّم الذكاء الاصطناعيّ ليصنع له اختبارًا، يساعده في تطوير مهاراته الحسابيّة.  

 

يجب أن يبقى الإنسان محور العمليّة التعليميّة، بحيث يوظّف أدوات الذكاء الاصطناعيّ وسائل مساعدةً تخدم تعلّمه، لا أن تحلّ محلّه وتفكّر نيابةً عنه. لضمان هذا التوازن، قام مكتب مدراء مدارس واشنطن في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، بصياغة رؤيةٍ موحّدةٍ ومبتكرةٍ لاستخدام الذكاء الاصطناعيّ في التعليم، تتلخّص في النموذج الآتي: 

 

تساؤل المتعلّم – استخدام الذكاء الاصطناعيّ – تمكين المتعلّم 

تجد هذه الرؤية أنّ أدوات الذكاء الاصطناعيّ ينبغي أن تُستخدم بوصفها ميسّرًا مرنًا، يمكّن المتعلّم من استكشاف تساؤلاته، ما يعزّز فهمه المحتوى المطلوب ويطوّر مهاراته. يبرز هذا النموذج دور المتعلّم باعتباره ركيزةً أساسيّةً في العمليّة التعليميّة، إذ إنّ التعلّم يبدأ بالتساؤل الذي يمثّل جوهر التفكير النقديّ. بعد ذلك يُستخدم الذكاء الاصطناعيّ لتوسيع أفق المتعلّم، ومساعدته في البحث عن إجاباتٍ، ليصل في النهاية إلى مرحلة التمكين، ويصبح قادرًا على فهم المعلومات بعمقٍ، وتطبيقها بفعّاليّة. 

 

ما دور المؤسّسات التربويّة في تيسير استخدام الذكاء الاصطناعيّ داخل صفوفها؟   

يتجاوز دمج الذكاء الاصطناعيّ في عمليّة التعلّم نطاق عمل المعلّم منفردًا، بل ويقع على عاتق المؤسّسة التربويّة (المدرسة، المعهد، الجامعة...) دورٌ واسعٌ في تيسير هذه العمليّة وضبطها، حفاظًا على جودة التعليم بين أروقتها، وضمانًا لالتزامها بتقديم الخدمة التعليميّة الأفضل لمنتسبيها. يمكننا تلخيص الخطوات الرئيسة التي يمكن للمؤسّسات التربويّة اتّباعها في هذا الشأن: 

1. اعتماد سياسةٍ واضحةٍ لاستخدام الذكاء الاصطناعيّ، تفصّل المسموح والممنوع في سياق المؤسّسة، على أن تكون حاكمةً لأعمال المتعلّمين، والمجال الذي يمكن لهم استثماره فيه. على سبيل المثال، قامت مؤسّسة البكالوريا الدوليّة بتحديد الاستخدام الأخلاقيّ للذكاء الاصطناعيّ في الأعمال التي تُسلّم إليها. يمكن الاطّلاع على هذه السياسة بمسح الرابط. 

السياسة هنا

 

2. تأمين بنكٍ من أدوات الذكاء الاصطناعيّ المدفوعة للمعلّمين والمتعلّمين، والتي غالبًا ما تقدّم خدماتٍ أفضل للمستخدمين، وتتماشى مع المعايير المذكورة في المقال، مثل نموذج خان أكاديمي (Khan Academy). 

3.  تدريب المعلّمين على استخدام أدوات الذكاء الاصطناعيّ بشكلٍ فعّالٍ، ليس فقط التدريب التقنيّ، بل أيضًا البيداغوجيا الفعّالة التي تجعل الذكاء الاصطناعيّ مساعدًا في العمليّة التعلّميّة.  

4. إدراج الاستخدام الصحيح والأخلاقيّ للذكاء الاصطناعيّ ضمن المنهاج المعتمد لدى المؤسّسة، ليتعرّف المتعلّمون إلى هذه الأدوات وفق السياسات التي تحمي تطوّرهم الذهنيّ، وتراعي النزاهة الأكاديميّة.  

 

*** 

لا شكّ في أنّ العالم شهد تغيّرًا جذريًّا مع إطلاق أدوات الذكاء الاصطناعيّ بشكلها الحاليّ، وهو ما انعكس بشكلٍ عميقٍ على المؤسّسات التعليميّة. بدلًا من رفض هذه التكنولوجيا أو مقاومتها، يجب على التربويّين تبنّي نهجٍ ذكيٍّ في توظيفها، لتصبح أداة دعمٍ فعّالةً، من دون التأثير في الغاية الأساسيّة للتعليم، وهي تمكين المتعلّم والارتقاء به. لا يوجد تعارضٌ بين الذكاء البشريّ والذكاء الاصطناعيّ، إذا تمّ استخدام هذه الأدوات بما يتماشى مع أهداف التعلّم والتعليم، ويسهم في تعزيز التجربة التعليميّة. 

 

المراجع 

- De Cremer, D., & Kasparov, G. (2021, March 4). AI should augment human intelligence, not replace it. Harvard Business Review.  

- Vieth, K. (2024). Navigating Natural vs. Artificial Intelligence in Future Learning. InSync Training Blog. 

- Bhandarkar, V. V., Venkateswaran, K., & Jain, J. (n.d.). Will artificial intelligence surpass human intelligence? - A viewpoint. Infosys TechCompass.