لطالما كان يُنظر إلى الآباء باعتبارهم أكثر من مجرّد شخصيّاتٍ أبويّةٍ، فهم مرشدون، وحماةٌ، وقدوةٌ، بل وأصدقاء يساعدون في تشكيل شعور الطفل بذاته ومكانته في العالم. ولكن ماذا يحدث عندما يُفقد هذا الوجود الحيويّ؟ في جميع أنحاء العالم، يكبر ملايين الأطفال من دون آبائهم بسبب ظروفٍ مختلفةٍ، من الطلاق والوفاة، إلى السجن والسفر. وفي حين أنّ تجربة كلّ طفلٍ فريدةٌ من نوعها، فإنّ غياب الأب غالبًا ما يترك بصماتٍ ملحوظةً على التطور العاطفيّ والاجتماعيّ والإدراكيّ للطفل. يتيح لنا استكشاف هذه التأثيرات فهمًا أفضل لكيفيّة دعم الأطفال الذين يواجهون هذا التحدّي، وضمان حصولهم على الأدوات اللازمة للنجاح، على الرغم من غياب شخصيّة الأب.
دور الأب في تنشئة الطفل
للآباء أدوارٌ فريدةٌ ومتكاملةٌ في تربية الأبناء. تُظهر الدراسات أنّ الآباء يميلون إلى المشاركة في أنماطٍ مختلفةٍ من التفاعل مع الأبناء، مقارنةً بالأمّهات. على سبيل المثال، غالبًا ما يكون الآباء أكثر مرحًا جسديًّا، ويشجّعون على المخاطرة والمغامرة، ويدفعون الأطفال إلى استكشاف ما هو أبعد من مناطق راحتهم. يمكن أن تساعد هذه الديناميكيّة الأطفال على بناء الثقة والمرونة والاستقلال.
بالإضافة إلى تفاعلاتهم المباشرة، يسهم الآباء أيضًا في استقرار الأسرة، بتقديم الدعم الماليّ، ونمذجة العلاقات الصحّيّة، وغرس الشعور بالأمان. يعني وجود الآباء وجود التقدير والأمان والدعم الذي يجب أن يشعر به كلّ طفلٍ، لينشأ بطريقةٍ صحّيّةٍ، ولكنّ غيابه يعني أنّ الطفل سيعاني فجواتٍ في نموّه العاطفيّ والاجتماعيّ والنفسيّ.
تأثير غياب الأب في الطفل
قد يؤثّر غياب الأب في الأطفال بعدّة طرقٍ، من الصراعات العاطفيّة إلى القضايا السلوكيّة طويلة الأمد. في حين أنّ تجربة كلّ طفلٍ فريدةٌ من نوعها، وتتأثّر بعوامل مختلفةٍ، مثل دعم الأمّ، والظروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة، إلّا أنّ هناك أنماطًا معيّنةً، تظهر لدى مختلف الأطفال الذين عاشوا تجربة غياب الأب.
التأثير العاطفيّ والنفسيّ
غالبًا ما يترك غياب الأب فجوةً في نمذجة سلوك الذكور وهويّتهم. فقد يكافح الذكور تحديدًا في تكوين شعورٍ واضحٍ بالذات، وبدورهم ذكورًا وسط أسرهم الصغيرة، في السياقات التي ترتبط فيها الرجولة بالأدوار التقليديّة، مثل توفير احتياجات الأسرة، أو حماية الأحبّاء. ومن دون وجود نموذجٍ ذكوريٍّ يتعلّمون منه، فقد يلجؤون إلى مجموعة أقرانٍ أو غيرها من التأثيرات، بغاية التأكّد من دورهم، وهو ما قد يؤدّي إلى سلوكيّاتٍ غير صحّيّةٍ في كثيرٍ من الأحيان. في بعض الحالات، قد يتضمّن هذا تعاطي المخدّرات، أو الانضمام إلى مجموعات الجانحين، أو اللجوء إلى العنف، لتأكيد الهيمنة، خصوصًا على الأمّ والأخوات في المنزل.
بالنسبة إلى الفتيات، يمكن أن يؤثّر غياب الأب في احترامهنّ لذواتهنّ، وإدراكهنّ لطبيعة العلاقات مع الرجال. في مجتمعاتنا، حيث يُتوقّع من الآباء أن يكونوا مصدر الأمان والحماية للإناث، قد يؤدّي غيابهم إلى جعل الفتيات أكثر عرضةً للاستغلال أو العلاقات غير الصحّيّة، إذ قد يسعين إلى الشعور بدور الذكر في حمايتهنّ، لكنهنّ سيبحثن عنه في مكانٍ آخر خارج المنزل. قد يتجلّى هذا بشكلٍ خاصٍّ في البيئات التي يتمّ فيها تطبيع الزواج المبكّر، أو الاعتماد على الشخصيّات الذكوريّة، ما قد يؤدّي إلى أنماطٍ ضارّةٍ في وقتٍ لاحقٍ من الحياة.
الأداء الأكاديميّ
يرتبط غياب الأب بانخفاض التحصيل الأكاديميّ لدى الأطفال ارتباطًا شبه مباشر. فقد وجدت دراسةٌ أجرتها سارة إي. ماكلاناهان وجاري سانديفر، والتي تمّ تفصيلها في كتابهما Growing Up with a Single Parent، أنّ الأطفال الذين ليس لديهم أبٌ في المنزل، أكثر عرضةً إلى الحصول على درجاتٍ أقلّ، ومعدّلاتٍ أعلى في احتماليّة ترك الدراسة، وانخفاض احتماليّة الالتحاق بالجامعة.
يمكن أن يعود هذا إلى عدّة عوامل، منها انخفاض الموارد الماليّة، والافتقار إلى نموذجٍ يحتذى به من الذكور، وزيادة الضغوط في الأسر التي يعولها أحد الوالدين. فغالبًا ما يقدّم الآباء إرشاداتٍ وبنيةً فريدةً من نوعها، والتي يمكن أن تؤثّر بشكلٍ إيجابيٍّ في مواقف الأطفال تجاه التعليم والانضباط.
القضايا السلوكيّة
تعدّ المشاكل السلوكيّة نتيجةً شائعةً أخرى لغياب الأب. أظهرت الدراسات أنّ الأطفال من المنازل التي ليس فيها أبٌ، أكثر عرضةً لإظهار العدائيّة والانحراف وتعاطي المخدّرات. على سبيل المثال، وجد تقريرٌ صدر سنة 2011 عن وزارة الصحّة والخدمات الإنسانيّة الأمريكيّة، أنّ الأولاد الذين ليس لديهم أبٌ، أكثر عرضةً للانخراط في سلوكٍ إجراميٍّ في المراهقة.
يؤثّر غياب الأب أيضًا في الفتيات، ولكن بطرقٍ مختلفةٍ، إذ ينعكس هذا الغياب على تكوينهنّ النفسيّ وسلوكهنّ الاجتماعيّ. فالفتيات اللواتي يكبرن من دون الأب، قد يعانين حرمانًا عاطفيًّا يدفعهنّ إلى البحث عن تعويضٍ غير واعٍ لهذا الفراغ، ما قد يؤدّي إلى تدنّي تقديرهنّ لذواتهنّ، وقد ينعكس على إنجازهنّ الدراسيّ أو المهنيّ. كما قد يظهر أثر الغياب في سلوكيّاتٍ عدائيّةٍ تجاه الجنس الأخر، أو الشعور بعدم الأمان العاطفيّ، نتيجة افتقارهنّ إلى التوجيه الأبويّ، والدعم الذي يعزّز شعورهنّ بالاستقرار النفسيّ.
التطوّر الاجتماعيّ
غالبًا ما يمثّل الآباء قدوةً في التعامل مع الآخرين، إذ يمكن لوجودهم أن يعلّم الأطفال التواصل بشكلٍ فعّالٍ، وحلّ النزاعات بطرقٍ سلميّةٍ، وبناء علاقاتٍ صحّيّة. غياب شخصيّة الأب يجعل الأطفال يكافحون لتطوير هذه المهارات، خصوصًا الذكور منهم الذين سيفتقدون القدوة الذكوريّة، ما يؤدّي بهم إلى صعوباتٍ في تكوين الصداقات والعلاقات، والحفاظ عليها في وقتٍ لاحقٍ من الحياة.
الصراعات الماليّة
في كثيرٍ من الحالات، يؤدّي غياب الأب إلى عدم الاستقرار الماليّ، لا سيّما في الأسر التي كان فيها الأب هو المعيل الوحيد، إذ قد يكون لدى الأمّ وصولٌ محدودٌ إلى وظائف ذات رواتب جيّدةٍ، أو أنظمة دعمٍ اجتماعيّ. يمكن أن تؤدّي هذه الصعوبات الماليّة إلى تعطيل أو تأخّر تعليم الطفل، وتقييد وصوله إلى الموارد التي يحتاج إليها لنموّه. كما قد تؤدّي إلى الشعور بالاستبعاد من الأقران القادمين من منازل أكثر استقرارًا. في بعض الحالات، يمكن أن تؤدّي الوصمة المرتبطة بغياب الآباء - سواء بسبب الطلاق أو الهجر أو الوفاة - إلى عزل الأطفال اجتماعيًّا بشكلٍ أكبر، ما يجعلهم يشعرون أنّهم "مختلفون" أو "غير مكتملين" مقارنةً بأقرانهم.
التخفيف من آثار غياب الأب
قد يسبّب وجود الأطفال من دون آباء مجموعةً من المشكلات للأمّ. وعلى الرغم من هذا، فالعديد من الأطفال في الأسر التي ليس فيها أبٌ، يكبرون ليعيشوا حياةً سعيدةً وناجحةً، وذلك بفضل مرونة الطفل، ودعم الأسرة والمجتمع والأنظمة الاجتماعيّة. في الآتي بعض الاستراتيجيّات للمساعدة في التخفيف من آثار غياب الأب:
دورٌ أموميٌّ قويّ
غالبًا ما تتولّى الأمّهات مسؤوليّاتٍ إضافيّةً في الأسر التي ليس فيها أبٌ، فتقدّم الدعم العاطفيّ والعمليّ. وعلى الرغم من أنّ هذا قد يكون مرهقًا، إلّا أنّ وجود الأمّ بحبّها وحنانها، يمكن أن يساعد الأطفال في تطوير شعورٍ آمنٍ بالارتباط والقيمة الذاتيّة.
نماذج الذكور الإيجابيّة
في غياب الأب، يمكن لشخصيّاتٍ ذكوريّةٍ أخرى - مثل الأعمام والأخوال والأجداد والمعلّمين وأصدقاء العائلة - التدخّل لملء الفجوة ولو قليلًا. يمكن أن توفّر نماذج الذكور الإيجابيّة التوجيه والدعم والشعور بالاستقرار، وهذا يساعد الأطفال في التغلّب على التحدّيات، وتطوير سلوكيّاتٍ اجتماعيّةٍ صحّيّة.
المحافظة على الروتين والقواعد في المنزل
يعّد اتّباع روتينٍ منتظمٍ من أفضل الطرق والأساليب لبناء الشعور بالانضباط لدى الأطفال، وجعل الحياة اليوميّة أسهل. فهو يوفّر النظام الذي يتوقّعه الطفل ويحتاج إليه، لتعزيز شعور الأمان داخل المنزل وخارجه. كما يعلّم الأطفال منذ سنٍّ مبكّرةٍ اتّباع القواعد. لذا، من المهمّ أن يكون جميع أفراد الأسرة على درايةٍ بالقواعد التي تضعها الأمّ أو مقدّم الرعاية، وأن يلتزموا بتطبيقها حتّى في غياب الأمّ، وذلك لتوفير جوٍّ من التناسق والانسجام في التعليمات والقواعد، خصوصًا في الأسر الممتدّة.
***
لا شكّ أنّ غياب الأب يشكّل حياة الطفل بطرقٍ معقّدةٍ، ويؤثّر في رفاهيّته العاطفيّة، ونجاحه الأكاديميّ، وتطوّره الاجتماعيّ. ومع ذلك، من المهمّ بالقدر نفسه إدراك أنّ الأطفال يتمتّعون بالمرونة والقدرة على النجاح، مع وجود العوامل والدعم المناسب. ففي حين يفرض غياب الأب تحدّياتٍ جمّةً، إلّا أنّه يمكن التخفيف من حدّتها بالوجود القويّ والفعّال لدور الأمّ، والقدوة الإيجابيّة، والاستشارة عند الحاجة إلى ذلك.
المراجع
https://trbeyah.com/r/%D8%AA%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D9%81%D9%84-%D9%81%D9%8A-%D8%BA%D9%8A%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%A8
https://www.sehatok.com/%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D8%B3%D9%8A%D8%A9/%D9%83%D9%8A%D9%81-%D9%8A%D8%A4%D8%AB%D8%B1-%D8%BA%D9%8A%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A2%D8%A8%D8%A7%D8%A1-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D8%AA%D8%9F#:~:text=%D9%88%D9%8A%D9%86%D8%B7%D8%A8%D9%82%20%D9%87%D8%B0%D8%A7%20%D8%A8%D8%B4%D9%83%D9%84%20%D8%AE%D8%A7%D8%B5%20%D8%B9%D9%84%D9%89,%D9%88%D9%8A%D8%AA%D9%82%D9%84%D8%B5%20%D8%A7%D8%AD%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D9%85%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A3%D8%A9%20%D9%84%D8%B0%D8%A7%D8%AA%D9%87%D8%A7%20%D9%81%D9%8A
https://mawdoo3.com/%D8%AA%D8%A3%D8%AB%D9%8A%D8%B1_%D8%BA%D9%8A%D8%A7%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%A8_%D8%B9%D9%84%D9%89_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%A8%D9%86%D8%A7%D8%A1
https://en.wikipedia.org/wiki/Father_absence#:~:text=Research%20has%20shown%20that%20children,health%2C%20and%20their%20well%20being.