المعلّم داعمًا للمرونة: بناء مهارات التكيّف في عصر الذكاء الاصطناعيّ
يأتي هذا المقال ليجيب عن سؤالٍ محوريٍّ: كيف تحدّد أهمّيّة دورك معلّمًا، أمام ما يشهده عصرنا من ثورة في الذكاء الاصطناعيّ؟ استنادًا إلى رؤى وآراء 18 معلّمًا ومربّيًا من ذوي الخبرة في إحدى نسخ دردشاتنا لسنة 2023. طرحنا هذا التساؤل لنستطلع رؤى تربويّين من مخ
المعلّم داعمًا للمرونة: بناء مهارات التكيّف في عصر الذكاء الاصطناعيّ
يأتي هذا المقال ليجيب عن سؤالٍ محوريٍّ: كيف تحدّد أهمّيّة دورك معلّمًا، أمام ما يشهده عصرنا من ثورة في الذكاء الاصطناعيّ؟ استنادًا إلى رؤى وآراء 18 معلّمًا ومربّيًا من ذوي الخبرة في إحدى نسخ دردشاتنا لسنة 2023. طرحنا هذا التساؤل لنستطلع رؤى تربويّين من مخ

أصداء الدردشة قراءاتٌ في سؤالٍ من أسئلة قسم الدردشة في منهجيّات، تختار فيها هيئة التحرير سؤالًا من نسخةٍ من نسخ الدردشة في المجلّة، بناءً على ارتباط السؤال بملفّ العدد، أو بأهمّيّة الموضوع أو راهنيّته المستجدّة. تُدرَس إجابات مجموعةٍ من المعلّمين، ويُجمع بينها باستنتاجاتٍ أو خلاصاتٍ مستمدّةٍ منها. في كلّ عددٍ من منهجيّات صدًى جديدٌ من أصوات معلّمينا ومعلّماتنا. 

 

يشهد العالم في عصرنا الحاليّ قفزاتٍ متسارعةً في تطوّر الذكاء الاصطناعيّ الذي بات يتغلغل في جميع جوانب الحياة، من الصناعة إلى الصحّة، حتّى الترفيه والإعلام. ولم يكن التعليم استثناءً، بل صار مستخدمًا محوريًّا لهذا التحوّل التكنولوجيّ، بغرض الاستفادة من الذكاء الاصطناعيّ لتحسين العمليّة التعليميّة، وجعلها أكثر شمولًا وفعّاليّة. إلّا أنّ هذا التوسّع التقنيّ يثير تساؤلاتٍ جوهريّةً حول مصير التفاعل الإنسانيّ في التعليم، إذ لطالما كان التفاعل المباشر والدعم الشخصيّ حجر الزاوية في عمليّة التعليم الناجحة. 

يأتي هذا المقال ليجيب عن سؤالٍ محوريٍّ: كيف تحدّد أهمّيّة دورك معلّمًا، أمام ما يشهده عصرنا من ثورة في الذكاء الاصطناعيّ؟ استنادًا إلى رؤى وآراء 18 معلّمًا ومربّيًا من ذوي الخبرة في إحدى نسخ دردشاتنا لسنة 2023. طرحنا هذا التساؤل لنستطلع رؤى تربويّين من مختلف البيئات التعليميّة والمستويات الأكاديميّة، فجاءت إجاباتهم لتبرز رؤًى متباينةً، تجمع بين الحماسة للاستفادة من الأدوات التقنيّة الحديثة، وبين الوعي بضرورة المحافظة على القيم الإنسانيّة، والتي تعدّ ركيزةً أساسيّةً لبناء بيئةٍ تعليميّةٍ قويّةٍ وفعّالة. يعرض المقال تلخيصًا لهذه الأفكار، مسلّطًا الضوء على تجارب المعلّمين والتربويّين ومقترحاتهم العمليّة، ليشكّل بذلك دليلًا يلهم المعلّمين الآخرين في تحديد دورهم المحوريّ وسط التحوّلات الرقميّة، سعيًا لتحقيق توازنٍ واعٍ بين التقدّم التكنولوجيّ، ومتطلّبات الحفاظ على التفاعل الإنسانيّ في الفصول الدراسيّة المعاصرة. 

 

فقدان التواصل الإنسانيّ والتوجيه العاطفيّ الاجتماعيّ 

في ظلّ الثورة المتسارعة للذكاء الاصطناعيّ، عبّر عددٌ من المعلّمين عن قلقهم حيال الحفاظ على الأبعاد الإنسانيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة في التعليم، منهم: طارق محمّد، وحسناء لقمان، وعبد الرحمن سيّور، وياسمين حسن، وغدير الربضي. يقول عبد اللّه الرسمي إنّ "المعلّم في التعليم كالرئة في الإنسان؛ إذ لا تستطيع التقنيّات الحديثة أن تقوم بأدواره التربويّة، والأخلاقيّة، والاجتماعيّة، والجماليّة، والإبداعيّة". ويرى ماهر منصور أنّ التكنولوجيا قادرةٌ على تقديم المعرفة بشكلٍ أسرع وأكثر دقّةً، لكن لا يمكنها تعويض الروح الإنسانيّة التي يبثّها المعلّم في صفّه. والمعلّم، وفقًا لوليد إمبارك، ليس ناقلًا للمعرفة فحسب؛ بل هو موجّهٌ وداعمٌ نفسيٌّ للطالب في رحلته التعليميّة، يعتمد عليه في تقديم التوجيه الذي لا يمكن للذكاء الاصطناعيّ تقديمه. 

 

من جانبٍ آخر، أكّدت ندى عايش على أهمّيّة الأبعاد الأخلاقيّة في توجيه الطلاب لاستخدام التقنيّات الحديثة بطرائق بنّاءةٍ ومسؤولة. تشير ميرنا بشر إلى "أنّ ما يقدّمه المعلّم من عطاءٍ وحبٍّ وحنانٍ، ومن تحفيزٍ لطلّابه من أجل النجاح والإكمال والإصرار للوصول إلى المراكز العليا، لا يمكن للذكاء الاصطناعيّ أن يقدّمه للطلّاب". فالأدوار الجديدة للمعلّم تتجاوز تدريس المنهج، لتشمل تقديم نماذج سلوكيّةٍ تساعد الطلّاب في تطوير الوعي اللازم لاستخدام الذكاء الاصطناعيّ بأخلاقيّاتٍ عاليةٍ، والحفاظ على إنسانيّتهم. 

 

وأخيرًا، تبنّى محمّد حمّور وجهة نظرٍ مشابهةً، معتبرًا أنّ دور المعلّم في المرحلة الحاليّة يكمُن في تحقيق توازنٍ دقيقٍ بين التقنيّة والروح الإنسانيّة، ويقول: "دور المعلّم الذي لا يفترض أن يدركه الذكاء الاصطناعيّ، أن يبني جسور علاقاتٍ مع المتعلّمين، تزرع في نفوسهم أنّ هناك من يهتمّ بأمرهم"، ويرى أنّ هذا الجانب العاطفيّ والاجتماعيّ لا يمكن للتكنولوجيا أن تؤدّيه. 

 

الذكاء الاصطناعيّ شريكٌ في تجديد أساليب التعليم 

في سياق الحديث عن التطوير والإبداع، عبّر عددٌ من المعلّمين، منهم مرسال حطيط، وزين العابدين الكنتاوي، عن رؤًى متنوّعةٍ تعكس التفاؤل والإصرار على تقديم تجربةٍ تعليميّةٍ مبتكرة. تقول نانسي القاروط: "يقوم المعلّم بتوجيه الطلّاب من خلال تجارب تعلّمٍ تدعمها أدوات الذكاء الاصطناعيّ". وترى جورجينا الروّاد أنّ الذكاء الاصطناعيّ ليس تهديدًا لدور المعلّم؛ بل هو محفّزٌ على ابتكار أساليب تدريسيّةٍ جديدةٍ وملهمةٍ؛ إذ قامت بتوظيفه في تعليم مادّة الرياضيّات، عبر طرح أسئلةٍ متعلّقةٍ بالمفاهيم الرياضيّة. وأضافت: "الحقيقة كان استخدامه مُمتعًا خلال الحصّة، وأسهم في فهم الطالبات للمعلومة". وأكّدت على تمكّنهنّ من التفاعل بطرائق حديثةٍ مع المحتوى التعليميّ المقدّم. من وجهة نظرها، يعتبر الذكاء الاصطناعيّ وسيلةً لتعزيز البيئة التعليميّة، ما يسهم في خلق مناخٍ يدفع نحو التجديد والابتكار. 

 

أمّا لميس أبو شدق فتعتقد أنّ الذكاء الاصطناعيّ يلائم متطلّبات العولمة والثورة التكنولوجيّة، وترى أنّه من الضروريّ أن يقدّم المعلّم لطلّابه معرفةً مبدئيّةً حوله، في إطار مادّته التدريسيّة، لتعزيز فهمهم التطوّرات التكنولوجيّة الحديثة. كما تشدّد على دور المعلّم في توجيه العمليّة التعليميّة وضبطها، والتوعية بمخاطر استخدام الذكاء الاصطناعيّ، فتقول: "على المعلّم أيضًا أن يوضّح للطلبة المخاطر الناتجة عن إساءة استخدامه". 

 

في المقابل، ترى ديالا كمال أنّ الذكاء الاصطناعيّ يفتح أبوابًا واسعةً أمام المعلّمين؛ إذ يمكن له أن يكون شريكًا في الابتكار، إذا أحسن المعلّمون استخدامه. وتضيف: "يمكن للمعلّمين استخدام التكنولوجيا أداةً إضافيّةً لتعزيز تجربة التعلّم، وتوفير موادّ تعليميّةٍ متنوّعةٍ ومثيرة". كما نادت بضرورة التكامل بين عنصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعيّ من جهةٍ، والعنصر البشريّ في التعليم من جهةٍ أخرى، لتحقيق تجربةٍ تعليميّةٍ شاملةٍ وفعّالة. 

 

من جهتها، تؤكّد زينب علي حمّود على أهمّيّة دور المعلّم في استثمار الذكاء الاصطناعيّ بطرائق مبتكرةٍ لتعزيز مهارات الطلّاب، فتقول: "على المعلّم التكيّف مع هذا التطوّر، وربط أساليب التدريس الحديثة باحتياجات الطلبة، وكسب منهجيّاتٍ جديدةٍ في التكنولوجيا، مع الاحتفاظ بالأسس البارزة لحضوره في حياة المتعلّم". 

 

المرونة المعرفيّة مهارةٌ أساسيّةٌ للتكيّف مع عالمٍ متغيّر 

من جانبنا، نرى أنّ للمعلّم دورًا محوريًّا في تعزيز المرونة المعرفيّة لدى الطلاب، ولا سيّما في عصرٍ تتغيّر فيه المعارف والمهارات بسرعةٍ غير مسبوقة. فالمعلّم، بفضل خبراته الإنسانيّة وتفاعله المباشر مع واقع الطلّاب، قادرٌ على تنمية مهارات التفكير المرن لديهم، ليصبحوا مؤهّلين للتكيّف السريع مع أيّ مستجدّاتٍ تكنولوجيّةٍ أو معرفيّة. هذا الدور يتجاوز حدود المعرفة النظريّة؛ إذ لا يقتصر على نقل المعلومات، بل يتجاوزه إلى إعداد جيلٍ قادرٍ على مواجهة تحدّيات المستقبل. فالمرونة التي يغرسها المعلّم في طلّابه، تُعدّ عنصرًا حيويًّا في تعليمهم طرق التحليل والتفاعل، بدلًا من الاعتماد الكلّيّ على الأدوات الرقميّة التي تقدّم إجاباتٍ جاهزةً، من دون أن تعزّز لديهم روح التساؤل والاكتشاف. 

 

في هذا السياق، تبرز المرونة المعرفيّة مهارةً أساسيّةً للتعلّم مدى الحياة، تتطلّب القدرة على التحليل والتفكير الناقد، إلى جانب التكيّف مع متغيّرات العالم المتسارعة. يوفّر الذكاء الاصطناعيّ كمًّا هائلًا من المعلومات، وحلولًا سريعةً للمشكلات، لكنّه يظلّ عاجزًا عن تنمية التفكير التحليليّ والتأمّليّ لدى الطلّاب، والذي يمكّنهم من فهم جذور القضايا، وتوظيفها بفاعليّة. هنا، يتجلّى دور المعلّم مرشدًا، يساعد الطلّاب في مواجهة الأفكار المعقّدة، ويحفّزهم على التفكير بعمقٍ واستقلاليّةٍ؛ فالقدرة على التكيّف لا تقتصر على استيعاب التغيّرات فحسب، بل تشمل أيضًا تمكين الطلّاب من رؤية الأمور بطرائق غير تقليديّةٍ، وتشجيعهم على إيجاد حلولٍ جديدةٍ لمشكلاتٍ قد يتعذّر على الذكاء الاصطناعيّ معالجتها. عندما ينمّي المعلّم لدى طلّابه المرونة في التفكير، يفتح أمامهم مساراتٍ متعدّدةً للتفكير الإبداعيّ، ويُعزّز فيهم الرغبة في استكشاف حلولٍ تتجاوز الحدود التقليديّة للمعرفة. 

 

*** 

يسهم المعلّم في ترسيخ مهارات التفكير المرن عبر أنشطةٍ تعليميّةٍ تدعو الطلّاب إلى التجربة والملاحظة والتقييم. ومن خلال تصميم بيئاتٍ تعليميّةٍ تحاكي الواقع، وتحتوي على تحدّيات تشجّع التفكير، يستطيع المعلّم إعداد الطلّاب للتعامل مع التكنولوجيا باعتبارها أداةً تخدمهم، لا بديلًا عن الجهد الإنسانيّ. في هذا العصر الرقميّ، يتمثّل دور المعلّم في إعداد الطلّاب للمستقبل، بتعزيز قدراتهم على التفكير الإبداعيّ والنقديّ، وتزويدهم بالأدوات التي تمكّنهم من التفاعل مع التغيّرات بمرونة.  

 

منهجيّات