في عصرٍ تتسارع فيه عجلة التكنولوجيا، أصبح الذكاء الاصطناعيّ حديث الساعة في مختلف المجالات، ومنها التعليم. ومع ما يقدّمه هذا المجال من وعودٍ بتطوير العمليّة التعليميّة، يبرز تساؤلٌ جوهريٌّ: هل نحن مستعدّون فعلًا لمواكبة هذه الطفرة التكنولوجيّة؟ أم أنّنا عالقون في سباقٍ غير متكافئٍ، قد يفقدنا بوصلة أولويّاتنا التربويّة؟
في هذا المقال الذي يعكس وجهة نظرٍ شخصيّةً، أسلّط الضوء على التحديّات التي قد تواجه التعليم في عالمنا العربيّ، في ظلّ الثورة التقنيّة. هذا المقال ليس مجرّد نقدٍ للتوجّهات الحاليّة؛ بل دعوةٌ إلى التفكير العميق في كيفيّة الاستفادة من الذكاء الاصطناعيّ، من دون أن نضيع في متاهات التكنولوجيا التي قد تُعيد تشكيل التعليم بعيدًا عن أهدافه الحقيقيّة.
التسابق مع التكنولوجيا من دون جاهزيّةٍ كافية
في خضمّ السعي نحو استخدام الذكاء الاصطناعيّ في التعليم، تتسابق بعض الدول العربيّة نحو التكنولوجيا من دون بناء الجاهزيّة الكافية، ما يخلق صورةً سطحيّةً للتطوّر بعيدًا عن العمق الحقيقيّ. تتبنّى العديد من المؤسّسات التعليميّة تقنيّات الذكاء الاصطناعيّ بشكلٍ استعجاليٍّ، قبل توفير أساسيّات البنية التحتيّة اللازمة. أشار تقرير اليونسكو (a2023) إلى أنّ 70% من المدارس في الدول العربيّة النامية لا تمتلك تجهيزاتٍ أساسيّةً، مثل شبكات الإنترنت السريعة، أو الأجهزة الحديثة، لدعم تطبيقات الذكاء الاصطناعيّ في التعليم. ونتيجةً لذلك، يظهر التباين بين طموحات هذه المؤسّسات، وقدرتها الفعليّة على تحقيق التكامل بين التكنولوجيا والنظام التعليميّ؛ ما يؤدّي إلى فجوةٍ ملموسةٍ تعيق تحقيق الأهداف المنشودة.
الفجوة التكنولوجيّة وتأثيرها في المعلّمين والطلّاب
تضع الفجوة بين التطلّعات والإمكانات كلًّا من المعلّمين والطلّاب في مأزقٍ؛ فبينما تسارع المؤسّسات إلى تطبيق أدوات الذكاء الاصطناعيّ والتقنيّات الرقميّة، يجد المعلّمون والطلّاب أنفسهم أمام فجوةٍ تكنولوجيّةٍ شاسعةٍ، لا تتيح لهم القدرة على مواكبة هذه الأدوات، بل تزيد من تعقيد العمليّة التعليميّة، وتجعل منها تجربةً محبطةً بدلًا من داعمة.
يواجه العديد من المعلّمين في الدول ذات الإمكانيّات المحدودة تحدّياتٍ مضاعفةً؛ فهم يُتركون في مواجهة تقنيّات معقّدةٍ بلا تدريبٍ كافٍ. أشارت دراسة الزهراني (2022) إلى أنّ 60% من المعلّمين في العالم العربيّ يعانون نقصًا في مهارات استخدام التكنولوجيا الحديثة، ويضطرّون إلى الاعتماد على خبراتهم الشخصيّة، أو الاجتهادات الفرديّة لتعلّمها. هنا تصبح الأدوات التكنولوجيّة أعباءً إضافيّةً، ويصعب عليهم استخدامها بشكلٍ فعّالٍ يسهم في تطوير التعليم، ولا سيّما أنّ غالبيّة المؤسّسات لا تتيح برامج تدريبيّةً متقدّمةً، بل تكتفي بتوزيع الأدوات وتركها للمعلّمين، ما يعكس استهتارًا واضحًا في تطوير الكوادر البشريّة التي تمثّل جوهر العمليّة التعليميّة.
ينعكس الأمر على الطلّاب أيضًا؛ إذ إنّهم ضحايا هذه الفجوة التكنولوجيّة. فمع غياب الدعم والإرشاد الكافيَين من المعلّمين، قد يجد الطلّاب أنفسهم مضطرّين إلى استخدام أدواتٍ تفوق مهاراتهم الحاليّة، فتتحوّل هذه الأدوات إلى لغزٍ يصعب فهمه. غالبًا ما يعتمد الطلّاب على الوسائل التقليديّة والبسيطة للوصول إلى المعلومات أو تنفيذ المهام، ما قد يزيد من الفجوة بين أولئك الذين يستطيعون استخدام التكنولوجيا بكفاءةٍ، والذين يفتقرون إلى الوصول الفعّال إليها، أو القدرة على استخدامها بمهارة.
من هنا، يبدو أنّ الاعتماد على الذكاء الاصطناعيّ والتكنولوجيا في التعليم، من دون إيلاء اهتمامٍ للفجوة التكنولوجيّة، قد يسهم في بناء بيئةٍ تعليميّةٍ غير عادلة؛ فبدلًا من أن تعمل التكنولوجيا أداةً لتقليل الفروقات، قد تؤدّي إلى تعزيزها، فيتمكّن الطلّاب في المدارس أو المناطق ذات الموارد الجيّدة من الوصول إلى تعليمٍ متقدّمٍ، بينما يبقى الطلّاب في المناطق ذات الإمكانيّات المحدودة محرومين من الفائدة. هذا التفاوت قد يجعل من التعليم نظامًا غير عادلٍ، ويزيد من تفاقم الفجوة الاقتصاديّة والاجتماعيّة بين الطلّاب، ويقلّل من فرص التكافؤ في التعليم.
غياب استراتيجيّةٍ واضحةٍ لتطبيق الذكاء الاصطناعيّ في التعليم
تتبنّى العديد من المؤسّسات التعليميّة في العالم العربيّ تقنيّات الذكاء الاصطناعيّ، من دون استراتيجيّةٍ واضحةٍ أو تخطيطٍ مدروس؛ فبدلًا من أن تكون هذه التقنيّات خطوةً نحو تطوير التعليم، تتحوّل أحيانًا إلى مجرّد ظاهرةٍ مؤقّتةٍ تتّبعها المؤسّسات لتحسين صورتها. في كثيرٍ من الأحيان، يتمّ تجاهل الأهداف التعليميّة، أو التأثير الفعليّ لهذه التقنيّات في الطلّاب والمعلّمين. أشار تقرير اليونسكو (b2023) إلى أنّ 60% من المؤسّسات التعليميّة في الدول العربيّة ذات الدخل المنخفض، والتي أدخلت تقنيّات الذكاء الاصطناعيّ، لم تحقّق نتائج إيجابيّةً تُذكر.
أضف إلى ذلك أنّ التبنّي العشوائيّ لتقنيّات الذكاء الاصطناعيّ، غالبًا ما يؤدّي إلى استخدامٍ غير متّسقٍ، ما يخلق حالةً من الفوضى في بيئات التعلّم. ووفقًا لدراسة كشميري (Kashmeeri, 2024)، يضع التبنّي غير المدروس المعلّمين أمام تحدّياتٍ كبيرةٍ في التعامل مع أنظمة الذكاء الاصطناعيّ المعقّدة، في حال عدم تلقّيهم التدريب الكافي أو الدعم التقنيّ اللازم. هذا الوضع يجعل استخدام الأدوات الذكيّة عشوائيًّا، ويفتقر إلى الهدف التربويّ الواضح، ما يربك العمليّة التعليميّة، ويثقل كاهل المعلّمين.
هنا لا بدّ من الإقرار بأنّ التخطيط الاستراتيجيّ والتدريب المناسب، يُعدّان عنصرَين أساسيَّين لضمان استخدامٍ فعّالٍ لتقنيّات الذكاء الاصطناعيّ في التعليم. فمن خلال وضع أهدافٍ واضحةٍ ورؤيةٍ شاملةٍ لتوظيف هذه التقنيّات، يمكن تعزيز دورها باعتبارها أداةً داعمةً لتطوير العمليّة التعليميّة. كما أنّ إتاحة برامج تدريبيّةٍ شاملةٍ للمعلّمين، تتيح لهم فهم كيفيّة استخدام التقنيّات بفعّاليّة، وتسهم في تحسين مخرجات التعليم، وتسهيل تطبيق الأدوات الذكيّة بطرائق تخدم الأهداف التربويّة، وتحقّق الفائدة المرجوّة للجميع.
التبعيّة التكنولوجيّة وفقدان الاستقلاليّة التعليميّة
يبدو الاعتماد المتزايد على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعيّ في التعليم، في ظاهره، تطوّرًا واعدًا. لكنّه يحمل في طيّاته أخطارًا كبيرةً، تتعلّق بفقدان الاستقلاليّة التعليميّة، وخلق تبعيّةٍ مُقلقةٍ لشركات التكنولوجيا الكبرى. هذه الشركات ليست مجرّد مقدّمة خدماتٍ، بل شركاتٌ تسيطر على أدوات الذكاء الاصطناعيّ والمحتوى الرقميّ، ما يمنحها سلطةً خفيّةً على توجيه التعليم وتحديد أولويّاته. ومع زيادة الاعتماد على حلولها، تصبح المؤسّسات التعليميّة رهينة هذه الأدوات، الأمر الذي يفتح الباب أمام تحدّياتٍ أخلاقيّةٍ ومهنيّةٍ، تهدّد جوهر العمليّة التعليميّة.
في رأينا، من المخاطر المحتملة لهذه التبعيّة، أن تصبح الأنظمة التعليميّة أكثر عرضةً للتأثير الخارجيّ في تحديد المناهج، وتوجيه المحتوى بناءً على سياسات الشركات المزوّدة للتكنولوجيا وأهدافها، وليس بالضرورة اعتمادًا على احتياجات الطلّاب أو المجتمع التعليميّ العربيّ. يُتوقّع من هذه الشركات أن تقدّم أدواتٍ مناسبةً، لكنّها في الواقع تدفع نحو اتّجاهاتٍ عالميّةٍ قد لا تتماشى مع خصوصيّة كلّ بيئةٍ تعليميّةٍ، ما يؤدّي إلى انسلاخ التعليم عن أهدافه الوطنيّة والمحليّة، وفقدان هويّته الثقافيّة.
هذه التبعيّة قد تخلق خطرًا يتمثّل في نهم الاستهلاك؛ أي أن تصبح المؤسّسات التعليميّة مرتهنةً بالتحديثات والإصدارات الجديدة التي تفرضها هذه الشركات. ما أن تعتاد المدارس على استخدام نظامٍ أو تقنيّةٍ، حتّى تأتي هذه الشركات بإصدارٍ أحدث، يجبر المؤسّسات على استثماراتٍ جديدةٍ لتحديث البنية التحتيّة، الأمر الذي يستنزف ميزانيّات التعليم المحدودة في شراء أدواتٍ وتحديثها، على حساب تطوير الموارد البشريّة أو تحسين المناهج.
من جانبٍ آخر، قد تجعل هذه التبعيّة البيانات التعليميّة - التي تشمل معلوماتٍ حسّاسةً حول الطلّاب، ونتائجهم، وتفاعلاتهم التعليميّة - عرضةً للوقوع في يد هذه الشركات، والتي قد تستخدمها لأغراضٍ تجاريّةٍ، أو توجّهها لأغراضٍ بحثيّةٍ، من دون مراعاةٍ للخصوصيّة. وهنا يصبح التعليم مشروعًا تجاريًّا بحتًا: إذ تُسلّع بيانات الطلّاب والمعلّمين، وتوظّف لتحقيق أرباحٍ للشركات، عِوضًا عن تعزيز جودة التعليم.
وفق رؤيتنا على المدى البعيد، قد تضع هذه التبعيّة مستقبل التعليم في خطر؛ إذ تنحصر القرارات الاستراتيجيّة في أيدي شركاتٍ خارجيّةٍ، بدل أن تبقى في يد المؤسّسات التعليميّة والحكومات المحليّة. بذا، يصبح النظام التعليميّ معتمدًا بشكلٍ كبيرٍ على رؤيةٍ تجاريّةٍ، ما يهدّد استقلاليّة القرارات التربويّة، ويحوّل التعليم من أداةٍ لتمكين الأفراد، إلى منتجٍ يُستهلك، تتحكّم فيه أطرافٌ خارجيّة.
تبقى هذه الآراء تكهّناتٍ وفروضًا حول ما قد يحدث في المستقبل، من دون أن تكون بالضرورة حتميّاتٍ واقعة. نعم، هناك أخطار محتملةٌ تتعلّق بفقدان الاستقلاليّة التعليميّة، وبالتبعيّة للشركات التكنولوجيّة الكبرى، ولكنّ هذه الأمور تعتمد إلى حدٍّ كبيرٍ على كيفيّة إدارتنا هذا التحوّل الرقميّ في التعليم. فالتحدّي ليس في التكنولوجيا نفسها، بل في كيفيّة استثمارها بشكلٍ يحمي التعليم، ويحفظ استدامته واستقلاليّته.
إعادة النظر في الأولويّات التربويّة والتقنيّة
بات السباق نحو دمج الذكاء الاصطناعيّ والتقنيّات المتقدّمة في التعليم مسعًى يتّسم بالعشوائيّة، ويغفل عن الأساسيّات، إذ يُركّز على بريق التكنولوجيا على حساب القيم التربويّة الجوهريّة. لذا، لا بدّ من وقفةٍ تأمّليّةٍ لإعادة النظر في الأولويّات التربويّة والتقنيّة؛ فالتعليم ليس مجرّد مجالٍ للتجربة التكنولوجيّة، أو منصّةً لتسويق أدوات الذكاء الاصطناعيّ، بل عمليّة بناءٍ شاملةٌ، تستهدف تنمية عقولٍ واعيةٍ ومهاراتٍ حياتيّةٍ، تمكّن الطلّاب من مواجهة تحدّيات العالم الواقعيّ.
المسار الحاليّ يفرض علينا تساؤلاتٍ حول الغاية الحقيقيّة من التعليم: هل الهدف مواكبة استخدام التكنولوجيا، بغضّ النظر عن أثرها الفعليّ؟ أم أنّ التعليم يجب أن يظلّ ملتزمًا بمهمّة تنمية الإنسان، وتوجيهه نحو تطوير التفكير النقديّ، وتحقيق الكفاءة الذاتيّة والاستقلاليّة الفكريّة؟ إذا كان الهدف الثاني هو الأسمى، فلا بدّ من توجيه الجهود لبناء بيئةٍ تعليميّةٍ تعزّز هذه القيم، وتضع الأساس التربويّ نُصب أعينها، قبل الاعتماد على حلولٍ تكنولوجيّةٍ يمكنها أن تعزل التعليم عن أهدافه الإنسانيّة العميقة.
المراجع
- Alzahrani, A. (2022). A Systematic Review of Artificial Intelligence in Education in The Arab World. Amazonia Investiga, 11(54), 293–305.
- Kashmeeri, I. (2024). The Use of Artificial Intelligence in Education in the Arab World: A Systematic Review. Emirates College for Advanced Education.
- UNESCO. (2023a). Global Education Monitoring Report 2023: Technology in Education: A Tool on Whose Term. United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization.
- UNESCO. (2023b). International Forum on AI And Education: Steering AI To Empower Teachers and Transform Teaching. United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization.