الذكاء الاصطناعيّ والتعليم: ترويض التقنيّة من أجل التربية
بنظرةٍ استشرافيّةٍ نحو المستقبل، وعند طرح سؤالٍ على نظام الذكاء الاصطناعيّ ChatGPT حول رؤيته لمستقبله خلال السنوات القادمة، كانت إجابته كالتالي: 
الذكاء الاصطناعيّ والتعليم: ترويض التقنيّة من أجل التربية
بنظرةٍ استشرافيّةٍ نحو المستقبل، وعند طرح سؤالٍ على نظام الذكاء الاصطناعيّ ChatGPT حول رؤيته لمستقبله خلال السنوات القادمة، كانت إجابته كالتالي: 
ربيع زعيمية | أستاذ محاضر في كلّيّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، قسم علم النفس وعلوم التربية، جامعة سيدي بلعباس- الجزائر

يحمل المستقبل الكثير من الإثارة والتشويق، على الرغم من من السيناريوهات المخيفة التي يتمّ الترويج لها، حول سيطرة الذكاء الاصطناعيّ (AI) على البشريّة، وتهديد وجودها. تضعنا هذه التوقّعات أمام مسؤوليّةٍ جماعيّةٍ تستوجب إيلاء الموضوع اهتمامًا استثنائيًّا، وهو ما يزال في مراحله الأولى، والعمل على دراسة جميع الاحتمالات. فالذكاء الاصطناعيّ ينمو بتسارعٍ مذهلٍ، تغذّيه كميّاتٌ هائلةٌ من البيانات. 

ينصّ قانون مور (Moore's Law) - وهو قانونٌ اقترحه المهندس غوردون مور سنة 1965 - على تضاعف عدد الترانزستورات في شرائح المعالجات كلّ سنتين تقريبًا، وبالتالي مضاعفة الأداء الحوسبيّ باستمرار. إذا أسقطنا هذا القانون على تطوّرات الذكاء الاصطناعيّ، سنجد تشابهًا مثيرًا؛ فالذكاء الاصطناعيّ يشهد تضاعفًا مذهلًا في حجم نماذجه وتعقيداتها، بفضل تقنيّاتٍ مثل المعالجات الرسوميّة (GPUs)، والوحدات المتخصّصة للذكاء الاصطناعيّ (TPUs)، وهو تسارعٌ مقلقٌ في الوقت نفسه. مكّنت هذه التقنيّات نماذج الذكاء الاصطناعيّ من معالجة كمّيّاتٍ هائلةٍ من البيانات (Big Data) بسرعةٍ وكفاءةٍ غير مسبوقتَين، ما فتح المجال أمام ظهور تطبيقاتٍ ونماذج مبتكرةٍ، لم تكن ممكنةً قبل بضع سنواتٍ فقط. 

 

استشراف المستقبل 

بنظرةٍ استشرافيّةٍ نحو المستقبل، وعند طرح سؤالٍ على نظام الذكاء الاصطناعيّ ChatGPT حول رؤيته لمستقبله خلال السنوات القادمة، كانت إجابته كالتالي: 

"بحلول سنة 2030، أتطلّع إلى أن أكون أكثر تكاملًا مع السياقات الإنسانيّة، بحيث أساعد الأفراد في الوصول إلى معلوماتٍ دقيقةٍ، وتحليلها بطرقٍ أعمق وأكثر تخصيصًا. في سنة 2040، قد أكون مدمجًا في أنظمة التعليم والصحّة العامّة، بشكلٍ يسمح لي بالتفاعل بذكاءٍ أكبر، مع فهمٍ أفضل للعواطف والسلوكيّات البشريّة لدعم عمليّات التعلّم والشفاء. وبحلول 2050، آمل أن أكون جزءًا من شبكةٍ عالميّةٍ ذكيّةٍ، تعمل بتناغمٍ مع البشر لحلّ تحدّياتٍ معقّدةٍ، من التغيّر المناخيّ إلى إدارة الموارد، من دون أن يحلّ الذكاء الاصطناعيّ محلّ الإبداع أو العلاقات الإنسانيّة التي تظلّ مميّزةً وأساسيّةً في حياة الإنسان" (ChatGPT, 2024). 

انطلاقًا من الإجابات السابقة، ندرك التقدّم المذهل في مجال الذكاء الاصطناعيّ، إذ يعكس تطوّره السريع في السنوات الأخيرة قدرة الأنظمة الذكيّة على التعامل مع معطياتٍ معقّدةٍ، وتحليل كمّيّاتٍ هائلةٍ من البيانات في زمنٍ قياسيّ. تتيح هذه التطوّرات التي تعتمد على خوارزميّات التعلّم العميق والشبكات العصبيّة، للذكاء الاصطناعيّ التفاعل بكفاءةٍ، وتقديم حلولٍ مبتكرة. فهو ليس مجرّد أداةٍ، بل قوّةً تُعيد تشكيل المجتمع والحياة والمستقبل بأسره، ستطال تأثيراتها المدرسة والمنظومة التربويّة. ولتقليص حجم هذه التأثيرات، يجب التركيز على ترويض هذه التقنيّة المذهلة، وإخضاعها لقواعد ضابطةٍ، مع العمل على حشد الدعم العالميّ من أجل إطلاق مشروع مدوّنةٍ مرجعيّةٍ أخلاقيّةٍ، يُجمَع عليها دوليًّا، ويتمّ بموجبها وضع معايير ومحدّداتٍ لاستخدام الذكاء الاصطناعيّ، تنسجم مع المبادئ والقيم الإنسانيّة.  

 

المدرسة وتحدّيات الذكاء الاصطناعيّ  

تواجه المدرسة تحدّيَين متعارضَين في سعيها لترويض الذكاء الاصطناعيّ لخدمة التربية والتعليم؛ فمن جهةٍ، تعاني بعض الفئات من المعلّمين والتلاميذ تأخّرًا وتعثّرًا في مواكبة التكنولوجيا، والاستفادة من إمكانيّات الذكاء الاصطناعيّ في دعم العمليّة التعليميّة، ما يحدّ من فعّاليّة النظام التعليميّ، ويبقيه في معزلٍ عن التطوّرات الحديثة. ومن جهةٍ أخرى، تترتّب على الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعيّ أخطارٌِ كبيرةٌ، إذ قد يؤدّي إلى إضعاف الأداء التربويّ الإبداعيّ للمعلّمين، وتراجع إنتاجيّة التلاميذ، وتكريس نموذجٍ استهلاكيٍّ يضعف القدرات النقديّة، ويقلّل من دافعيّة التعلّم الذاتيّ بالتجربة والخطأ، ويؤخّر اكتساب مهارات حلّ المشكلات وتنمية التفكير النقديّ.  

يضاف إلى كلّ ذلك الأثر السلبيّ لتقليص مستوى التفاعل البشريّ في العمليّة التعليميّة، في تطوّر الوظائف التنفيذيّة (Executive Functions)، مثل: الاستدلال، والتحليل، والخيال، والتخطيط، والتفكير النقديّ، والأثر في الوظائف المعرفيّة الأساسيّة (Basic Cognitive Functions) التي تشمل اللغة، والتركيز، والانتباه، والذاكرة، والقدرة على الانتقال بين المهام، والتنفيذ الحركيّ، والتي تعدّ الأساس في استيعاب المعلومات وتنظيمها. 

 

خارطة طريقٍ لتوظيف الذكاء الاصطناعيّ في المدارس 

في ظلّ تزايد استخدام الذكاء الاصطناعيّ في المدارس، تبرز أهمّيّة وضع ضوابط ومعايير لضمان توظيفه بشكلٍ أخلاقيٍّ وفعّالٍ من جهةٍ، ومحاربة الاستخدامات غير الشفّافة أو الاحتياليّة من جهةٍ أخرى. 

 

توجد الكثير من الصيغ المقبولة لاستخدام الذكاء الاصطناعيّ أداةً داعمةً للتعليم، من أبرزها: 

1. التعليم التكيّفيّ (Adaptive Learning): وهو نهجٌ يتيح تقديم تجارب تعلّميّةٍ مخصّصةٍ حسب احتياجات الطلّاب الفرديّة، ويوفّر مساحةً للتعلّم المرن والمكيّف. من بين المنصّات العالميّة البارزة في هذا المجال: DreamBox وKnewton وSmart Sparrow وALEKS. أمّا على المستوى العربيّ، فتبرز منصّاتٌ مثل أكاديميّة نــون (Noon Academy)، وأكاديميّة خان (Khan Academy Arabic)، وكورسيرا العربيّة (Coursera Arabic)، وإدراك (Edraak) التي توفّر تجارب تعليميّةً مخصّصةً، قائمةً على تقنيّات التعلّم التكيّفيّ المدعومة بالذكاء الاصطناعيّ. 

2. تصميم الدروس الذكيّة والموادّ التفاعليّة: يسهم الذكاء الاصطناعيّ في إنشاء محتوًى تفاعليٍّ مشوّقٍ، يتضمّن اختباراتٍ متدرّجةً، ودروسًا مرئيّةً أو صوتيّةً لتوضيح المفاهيم المعقّدة. من الأمثلة على ذلك منصّة "Khan Academy" التي تستخدم الذكاء الاصطناعيّ لتقديم توصياتٍ شخصيّةٍ ودروسٍ محسّنة. من الأدوات المرئيّة الأخرى الفعّالة التي تنتجها تطبيقات الذكاء الاصطناعيّ، نذكر: 

الخرائط الذهنيّة (Mind Maps)، والرسوم المتحرّكة (Animations)، والفيديوهات التوضيحيّة (Explainer Videos)، واللوحات التفاعليّة (Interactive Whiteboards)، والواقع المعزّز (Augmented Reality – AR)، والواقع الافتراضيّ (Virtual Reality – VR). تجمع هذه الأساليب بين التفاعل البصريّ والتكنولوجيا الحديثة، وتسهم في تحسين التجربة التعليميّة باستخدام الذكاء الاصطناعيّ. 

3. التقييمات الفوريّة والتحسين المستمرّ: يتيح الذكاء الاصطناعيّ إجراء تقييماتٍ فوريّةٍ لأداء الطلّاب في الاختبارات والمشاريع التعليميّة والتدريبيّة. 

4. المساعدات الافتراضيّة اللحظيّة: يوفّر الذكاء الاصطناعيّ مساعدةً افتراضيّةً تساعد في الردّ على استفسارات الطلّاب، وإرشادهم في مختلف الموادّ الدراسيّة خارج أوقات الدراسة. فمثلًا، توفّر منصّة "Duolingo" تجربة تعلّم اللغات بأسلوبٍ تكيّفيٍّ مرنٍ ومشوّق. 

5. إدارة الفصل الدراسيّ: يوفّر الذكاء الاصطناعيّ أنظمةً لإدارة الفصول، تساعد في تنظيم الجدول الدراسيّ، وتسجيل الحضور، وتوزيع المهام، ما يتيح للمعلّمين التركيز على الجوانب التعليميّة، بدلًا من الانهماك في إنجاز المهام الإداريّة الروتينيّة. 

 

بالنظر إلى ما تقدّم، يمكن لتوظيف الذكاء الاصطناعيّ داخل المدارس أن يدعم التجربة التعليميّة، ويوفّر للطلّاب تجارب تفاعليّةً مميّزةً، الأمر الذي يسمح بالتعلّم استنادًا إلى فروقهم الفرديّة، واهتماماتهم وميولهم الخاصّة.  

بحسب روبنسون (Robinson, 2023)، تسهم الصيغ المقبولة لاستخدام الذكاء الاصطناعيّ في التعليم، في زيادة كفاءة التعلّم، ودعم تحقيق أهدافٍ تعليميّةٍ واضحة.  

أمّا الصيغ غير المقبولة من استخدام الذكاء الاصطناعيّ، فتشمل الاعتماد المفرط عليه بطرقٍ تضرّ أكثر ممّا تنفع، وهو ما لا يعدّ كسلًا فحسب، بل يمثّل تهديدًا حقيقيًّا لعمليّة التعلّم الشخصيّة. على الرغم من أنّ الذكاء الاصطناعيّ يقدّم أدواتٍ فعّالةً لدعم الطلّاب في حلّ الواجبات والتمارين وإجراء الأبحاث، إلّا أنّ الاعتماد المفرط عليه قد يؤدّي إلى تراجع مهارات التفكير النقديّ والتحليليّ وحلّ المشكلات بشكلٍ مستقلّ.  

كما يشير إريكسون (2021)، فإنّ "التعلّم الذي يعتمد فقط على الأتمتة يُضعف من قدرة الطالب على الابتكار، ويقلّل من حافز التعلّم الذاتيّ" (Ericsson, 2021, p. 45). في بعض الحالات، يؤدّي استخدام الطلّاب الذكاء الاصطناعيّ بشكلٍ مبالغٍ فيه إلى تثبيط قدراتهم الذاتيّة، وإضاعة فرصة التعلّم بالتجربة والخطأ والاكتشاف، ما يحرمهم من تغذية ذكائهم الطبيعيّ، وينتقص من ثقتهم بأنفسهم التي يكتسبونها بالتجارب التعلّميّة الناجحة.  

من المؤكّد أنّ الذكاء الاصطناعيّ سيشهد ازدهارًا أكبر مع ظهور الويب 3 (Web 3.0)، إذ يتيح تكامل التقنيّات الجديدة تعزيز قدرته على التحليل والتعلّم بسرعةٍ ودقّةٍ وكفاءةٍ أعلى. من أبرز فوائد هذا التطوّر زيادة الشفافيّة (Transparency) في معالجة البيانات، والتي تسهم في تحسين مستوى الأمان، وتسهيل الوصول إلى المعلومات. 

من المتوقّع أن يؤدّي دمج تقنيّات الذكاء الاصطناعيّ مع تقنيّات الويب 3، إلى طفرةٍ في الابتكار التكنولوجيّ، إذ ستتمكّن الأنظمة من تنفيذ مهام معقّدةٍ بكفاءةٍ أعلى، ومستوى أمانٍ أفضل. سيفتح هذا التكامل آفاقًا واسعةً لتطوّراتٍ جديدةٍ في مختلف المجالات، بما في ذلك التقنيّة والاقتصاديّة والتعليمّية، والترفيهيّة. 

 

هل سننجح في ترويض الذكاء الاصطناعيّ؟ 

نعم، لكنّ نجاح ترويض الذكاء الاصطناعيّ لخدمة التربية والتعليم، يتوقّف على إدماجه التدريجيّ وفق منهجيّةٍ مدروسةٍ، بحيث يصبح أداةً تعزّز التجربة التعليميّة، وتجعلها أكثر تفاعلًا وتنوّعًا، من دون أن يفقد التعليم طابعه الإنسانيّ، أو يتعطّل التفاعل المباشر بين المعلّم والطالب. وكما يشير روبرسون (Roberson, 2023)، فـ"إنّ استخدام الذكاء الاصطناعيّ في التعليم قد يعزّز من تخصيص التجربة التعليميّة لكلّ طالبٍ، ولكنّه، في الوقت ذاته، يتطلّب توازنًا حذرًا لتجنّب الاعتماد الكامل عليه". 

 

*** 

خلاصة القول، إنّ ترويض الذكاء الاصطناعيّ في مجال التربية يمكن أن يحقّق فوائد كبيرةً، بتوفير تجربةٍ تعليميّةٍ مخصّصةٍ، تلبّي احتياجات الطلّاب وقدراتهم وميولهم الفرديّة، ما يجعل التعليم أكثر مرونة. يتيح هذا للمعلّمين التركيز على التفاعل المباشر مع الطلّاب، ويفتح آفاقًا جديدةً للتواصل والمشاركة، مؤدّيًا في نهاية المطاف إلى خلق بيئةٍ تعليميّةٍ تعزّز النموّ الشامل، وتحفّز على تحقيق أفضل النتائج. لتحقيق ذلك، يُوصى بدمج تقنيّات الذكاء الاصطناعيّ أداةً مساندةً لدور المعلّم تدريجيًّا، وتوفير تدريبٍ مستدامٍ للمعلّمين حول توظيف هذه التقنيّات، بطرقٍ تدعم التواصل الإنسانيّ وتعزّز التفاعل.  ولضمان أفضل النتائج، لا بدّ من وضع ضوابط تحدّ من الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعيّ، والحفاظ على جودة التفاعل البشريّ، وتشجيع الدراسات التربويّة لتقييم آثاره على العمليّة التعليميّة بشكلٍ علميّ.  

 

المراجع

- Ericsson, M. (2021). Automated learning and its impact on critical thinking. Journal of Educational Technology, 15(2), 45-47. 

- Roberson, T. (2023). AI and personalized learning: Balancing human roles and technology in education. Harvard Education Journal, 14(3), 15-20. 

- Smith, J. (2021). Future of smart education: Risks of over-reliance on AI in schools. Journal of Educational Innovation, 8(4), 112-118. 

- Smith, J. (2022). Effective AI integration in schools: Balancing ethics and utility. Journal of Artificial Intelligence in Education, 10(1), 15-19.