حقّقت الرقمنة إنجازاتٍ ملموسةً على مستوى تطوير العمليّة التعليميّة - التعلّميّة، وأسهمت في ضمان استمراريّة التعليم في أوقات الأزمات، مثل الحروب وجائحة كورونا. ومع ظهور البرامج المدعومة بخوارزميّات الذكاء الاصطناعيّ، اتّسعت آفاق تطوير المنظومات التربويّة بشكلٍ غير مسبوقٍ، لتواكب الاحتياجات المتزايدة للمجتمع والمتعلّمين على حدٍّ سواء. غير أنّ هذا التقدّم يثير تساؤلاتٍ جوهريّةً حول التحدّيات والمخاطر التي ترافق استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعيّ في مجالات التربية والتكوين. مثلًا: هل يمكن للإنسان أن يعهد بوظيفته التربويّة إلى برامج آليّة؟ وهل يمكن اختزال التربية في عمليّاتٍ وإجراءاتٍ قابلةٍ للتحويل إلى خوارزميّاتٍ، تسمح للآلة بتأدية دور المعلّم أو المربّي؟ ثمّ هل يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعيّ أن تدرك القيم الإنسانيّة، وتعمل استنادًا إلى المواقف والقناعات التي تشكّل جوهر التربية؟
تفتح هذه التساؤلات المجال لنقاشٍ أعمق، عند استخدام خوارزميّات الذكاء الاصطناعيّ في التقويم التربويّ. فالعمليّة التقويميّة تمثّل نقطة انطلاقٍ أساسيّةً لجميع السيرورات التربويّة، كما أنّها تمثّل المرآة التي تعكس جودتها، والأداة التي تتيح تتبّعها ومواكبتها. وهنا تبرز تساؤلاتٌ عديدةٌ: ما المقصود بالتقويم التربويّ الذكيّ؟ ما ميزاته وفوائده؟ وما العقبات التي تحول دون اعتماده؟ وأخيرًا، ما المخاوف والمخاطر التي قد ترافق تطبيقه؟
التقويم التربويّ الذكيّ
لتقديم تعريفٍ دقيقٍ للتقويم التربويّ الذكيّ، لا بدّ من تعريف كلٍّ من الذكاء الاصطناعيّ والتقويم التربويّ، مع الأخذ بالاعتبار تنوّع التعريفات واختلافها، تبعًا للمرجعيّات العلميّة والبيداغوجيّة التي يُستند إليها.
تعدّدت آراء الباحثين والممارسين حول تعريف الذكاء الاصطناعيّ وطبيعته، بين من يراه "علمًا" أو "تخصّصًا"، وبين من يراه مجالًا تتقاطع فيه العلوم والتخصّصات، وبين من يختزله في تقنيّاتٍ وتطبيقاتٍ وظيفيّةٍ وخوارزميّاتٍ تُصمّم لغاياتٍ معيّنة. لذلك، أختار اعتماد تعريفٍ إجرائيٍّ للذكاء الاصطناعيّ باعتباره:
مجموع التقنيّات والبرامج التي تجعل الأنظمة الآليّة قادرةً على أداء العمليّات المعقّدة بطريقةٍ ذكيّةٍ ومستقلّةٍ، تضاهي الذكاء البشريّ، بل وتتفوّق عليه في جوانب الدقّة والسرعة والفعاليّة.
أمّا التقويم التربويّ، فقد آثرت تناوله من زاوية "المقاربة بالكفايات"، وذلك باعتباره تقويمًا يستهدف قياس مدى تمكّن المتعلّم من تعبئة موارده لحلّ مشكلة. ومن المفترض أن يكون هذا النوع من التقويم تكوينيّ الطابع بغضّ النظر عن نوعه ومقاصده، يعتمد آليّاتٍ تفريديّةً (Jurado, M. 2016)، تستجيب لخصوصيّات كلّ متعلّم، وتسعى إلى تحسين عمليّة التعلّم، بأبعادها المعرفيّة والمهاراتيّة والقيميّة.
بالدمج بين هذَين المفهومَين، يمكن تعريف التقويم التربويّ الذكيّ أنّه: ''مجموع العمليّات المرتبطة ببناء الوضعيّات التقويميّة، ومعالجتها، واستثمار نتائجها، وفق مرجعيّةٍ تربويّةٍ تجمع بين متطلّبات "المقاربة بالكفايات"، وما تستدعيه من تعبئةٍ للموارد لحلّ المشكلات، وبين متطلّبات "التعليم الفعّال" الذي يقوم على التصريح، والتفاعل، والإيجابيّة، والاستقلاليّة، في إطار مرجعيّةٍ تعطي الأولويّة للأبعاد التربويّة ذات النزعة الإنسانيّة، مدعومةٍ بالذكاء الاصطناعيّ، وتأخذ بالاعتبار شخصيّة المتعلّم، وتتكيّف مع خصوصيّاتها.
استخدام الذكاء الاصطناعيّ في مجال التقويم عمليًّا
تتنوّع المنصّات والبرامج الرقميّة المدعومة بخوازميّات الذكاء الاصطناعيّ في مجال التقويم التربويّ؛ سواء تلك التي يمكن أن يقوم بها المتعلّم بشكلٍ فرديّ، أو تلك التي ينظّمها المدرّس. من أّهم المجالات التي تستهدفها هذه المنصّات والبرامج:
توليد الأسئلة: المنصّات التي تقدّم هذه الخدمة عديدة، منها: https://questionwell.org/ و https://www.getquizwizard.com/.
التقويم والمراجعة: وهي خدمة تمكّن المتعلّم من تقويم منتوجه، منها ما يتعلّق بإنتاج نصّ لغويّ يقوم فيه البرنامج بالتصحيح المناسب الذي يجمع بين اقتراح تصحيحات وشرح القواعد، كما هو شأن برنامج https://www.reverso.net/. وهناك برامج لتقويم القراءة وطريقة النطق، مثل "Speakometer" و"Correct Spelling-Pronunciation". لا يقتصر الأمر على اللغات، بل يشمل الرياضيّات والعلوم، فهناك برامج تمكّن من معالجة وضعيّاتٍ رياضيّةٍ، وتقديم حلولٍ مع الشروحات اللازمة، وذلك مثل "Symbolab" و"mathway". وتجدر الإشارة إلى أنّ مثل هذه البرامج تعزّز التعلّم الذاتيّ للمتعلّم، لكنّها تطرح إشكالاتٍ مرتبطةً باستغلالها في الغشّ في الاختبارات.
إنجاز الاختبارات عن بعد ومراقبتها وتصحيحها بشكلٍ آليّ: هناك منصاتٌ توفّر خدماتٍ للجامعات والمدارس والأساتذة، من أجل تدبير عمليّة الاختبارات بشكل فعّالٍ وآنيٍّ، وفي ظروفٍ تتّسم بالشفافيّة والقابليّة للاستثمار البعديّ. من الأمثلة التي يمكن ان نقدّمها: Exam.net.
توفير دعم تربويّ يقوم على برامج مكيّفة، تأخذ بالاعتبار حاجيّات كلّ متعلّم من خلال مسارات خاصّة وأنشطة تفاعليّة مفتوحة على مدار الساعة. من البرامج التي توفّر هذه الخاصيّات: eliott.app.
التقويم التربويّ الذكيّ وفوائده
يسهم توظيف تقنيّات الذكاء الاصطناعيّ في مجال التقويم في إرساء تقويمٍ تربويٍّ ذكيٍّ يتّسم بالفعّاليّة والنجاعة، ويتيح تطوير العمليّة التقويميّة، على مستوى الإعداد والتنفيذ والمتابعة واستثمار النتائج. ومن أبرز ميزاته:
- جاذبيّة العمليّة التقويميّة وزيادة فاعليّة المتعلّم: تعمل البرامج الذكيّة على تحسين تفاعل المتعلّمين، بتقنيّاتٍ تجعل التقويم أكثر جاذبيّةً وإنسانيّة. ذلك أنّ الاستثمار في الجانب الرقميّ يقلّص من الرقابة البشريّة، ويسهم في التأثير في طبيعة العلاقة بين المعلّم والمتعلّم.
- تفريد العمليّات التقويميّة: يتيح التقويم التربويّ الذكيّ بناء أدواتٍ تتكيّف مع الاحتياجات الخاصّة (adaptatives) بكلّ متعلّمٍ أو مجموعة متعلّمين (évaluations d’apprentissages) (Boussakuk et al., 2018). يندرج هذا التقويم بشكلٍ عامٍّ تحت ما يسمّى أنظمة التعلّم التكييفيّ (systèmes d’apprentissage adaptatif)، والتي تعتبر من أهمّ إنجازات الذكاء الاصطناعيّ في المجال التعليميّ.
- تنويع الوضعيّات التقويميّة: يسمح الذكاء الاصطناعيّ بتصميم وضعيّاٍت تقويميّةٍ تتماشى مع مختلف أنواع الذكاءات، ما سيشكّل ثورةً حقيقيّةً في عالم التقويم التربويّ، بعد أن ظلّ حبيس ذكاءاتٍ تقليديّةٍ، وأسهم في إقصاء بعض المتعلّمين من المنظومة التربويّة، بسبب اختلاف استعداداتهم وأنماط ذكائهم عن نموذج "المتعلّم المرجعيّ" الذي يتوقّعه واضعو المنهاج الدراسيّ.
- تنويع المنتوج المتوقّع من المتعلّم: يسمح التقويم الذكيّ للمتعلّمين إنتاج نصوصٍ مكتوبةٍ أو شفويّةٍ، وموادّ إبداعيةٍ مثل الفيديوهات.
- تتبّع تقدّم المتعلّمين وتدقيق تعثّرهم: توفّر أنظمة إدارة التعلّم (systèmes de gestion de l’apprentissage -LMS) أدواتٍ لتتبّع أداء المتعلّمين، يتمّ تحديث بياناتها بشكلٍ فوريٍّ وتفاعليّ. فمثلًا، تقدّم منصّة Zelexio خدماتٍ رقميّةً، تتيح تحليلًا مستمرًّا للأداء، وتوفّر بياناتٍ شاملةً للمعلّمين والمتعلّمين وأولياء الأمور.
- تعزيز الشفافيّة والتنافسيّة: يوفّر التقويم الذكيّ فرصًا أكبر لتعزيز قيم الشفافيّة والمنافسة النزيهة، من طرف المتعلّمين، والمعلّمين، والمنظومة التربويّة، على حدٍّ سواء؛ ذلك من خلال تقنين التدخّل البشريّ وضبطه، وتوفير نظام ولوجٍ يحدّد المسؤوليّات، ونظام تتبّع أثرٍ ييسّر الوصول إلى العمليّات وتوثيقها.
- تحسين إدارة العمليّة التقويميّة: تسهم التطبيقات التقويميّة المدعومة بخوارزميّات الذكاء الاصطناعيّ، في تخفيف الأعباء الإداريّة واللوجستيّة والماليّة التي ترافق التقويم التقليديّ. يتيح هذا للجهات الوصيّة توجيه الموارد الماليّة والبشريّة نحو أولويّات أخرى، ويسهّل عمل المعلّمين بشكلٍ كبيرٍ (Carville, 2023). كما يسهم في خلق بيئةٍ تربويّةٍ أقلّ توتّرًا، وأكثر إنتاجيّة.
المخاوف والمخاطر المرتبطة بالتقويم التربويّ الذكيّ
على الرغم من أهمّيّة الفرص التي يمكن أن يتيحها التقويم التربويّ الذكيّ، إلّا أنّه يثير مخاوف جدّيّةً لدى الفاعلين والمهتمّين، أهمّها:
- أتمتة الفعل التربويّ، وإفراغه من البعد الإنسانيّ القائم على التفاعل المباشر بين المعلّم والمتعلّم.
- تراجع الاهتمام بإبداعيّة المتعلّم، خصوصًا في المجالات التعليميّة التي تتطلّب التفكير، وتنظيم الأفكار، واتّخاذ مواقف شخصيّةٍ تعكس تراكمات المتعلّم المعرفيّة والحياتيّة. كما قد يؤدّي اعتماد برامج تقويميّةٍ رقميّةٍ بسيطةٍ ذات إمكانيّاتٍ تقنيّةٍ محدودةٍ، إلى تقليص مساحة الإبداع، إذا كانت الأولويّة للتكلفة المادّيّة على حساب جودة التقنيّة المستخدمة.
- التلاعب بأنظمة التقويم واختراقها لأغراضٍ إجراميّةٍ أو شخصيّة.
- سوء استغلال البيانات الشخصيّة، سواء على يد المتدخّلين المباشرين، مثل المتعلّمين والمعلّمين والأطر التربويّة والإداريّة، أو على يد أطرافٍ خارجيّةٍ، يمكنها أن تصل إلى قواعد بيانات المنظومة التربويّة. لهذا، لا بدّ من توفير بنيةٍ تحتيّةٍ متطوّرةٍ ومحميّة.
- ضعف اهتمام الفاعل التربويّ (المعلّم) باستخدام تقنيّات الذكاء الاصطناعيّ، خصوصًا إذا كان من أصحاب الخبرة الطويلة في التدريس والتأطير والتقويم.
***
يشكّل الذكاء الاصطناعيّ تحدّيًا كبيرًا أمام المنظومات التربويّة التي وجدت نفسها في مواجهة وضعيّاتٍ جديدةٍ، تتطلّب تعبئة موارد ماليّةٍ وبشريّةٍ وتقنيّةٍ، وإعادة النظر في العديد من الممارسات والمرجعيّات، لتتوافق مع متطلّبات التقويم التربويّ الذكيّ، بمختلف أبعاده ومستوياته. كما تفرض هذه التحوّلات على المنظومة التربويّة تبنّي استراتيجيّاتٍ، تضمن معالجةً فعّالةً للأخطار والتحدّيات التي ترافقها. تطرح هذه الورقة عددًا من الخلاصات، أبرزها:
- عدم إمكانيّة اعتماد تقويمٍ ذكيٍّ بمعزلٍ عن منظومةٍ تدبيريّةٍ ذكيّةٍ، وهو ما يستدعي تطوير الإجراءات، وتكييفها مع متطلّبات البرامج التقويميّة المدعومة بخوارزميّات الذكاء الاصطناعيّ.
- لا تقتصر العمليّة التقويميّة على الإجراءات التنظيميّة، بل هي انعكاسٌ لمرجعيّاتٍ تربويّةٍ، تحدّد غايات المنهاج التربويّ وأدوار الفاعلين فيه. لذلك، يتطلّب الأمر إعادة النظر في ثقافتنا التربويّة، ومراجعة النصوص المؤطّرة للعمليّة التقويميّة، بما يتماشى مع التطوّرات التقنيّة، والمستجدّات التي تفرضها المتغيّرات المجتمعيّة بأبعادها المختلفة.
- تأهيل الفاعل التربويّ من أهمّ أسس أيّ مقاربةٍ تقويميّةٍ تعتمد الذكاء الاصطناعيّ، إذ يمكّن من تيسير بلورة وضعيّاتٍ تقويميّةٍ ذكيّةٍ، واستثمارها بفعاليّة.
المراجع
- Jurado, M. (2016). L’approche par compétences (APC): pour une personnalisation de l’évaluation? Administration & Éducation, 150, 37-43. https://doi.org/10.3917/admed.150.0037
- Boussakuk, Mohammed & Une, & Adaptative, & Bouchboua, Ahmed & El Ghazi, Mohammed & Ouremchi, Rabah. (2018). VERS UNE ÉVALUATION ADAPTATIVE, INDIVIDUALISÉE ET ÉQUITABLE. Mediterranean Telecommunications Journal Vol. 8, N° 2, July 2018, ISSN: 2458-6765