الواقع الافتراضيّ المعزّز في التعليم: تقنيّاتٌ تدمج الحواسّ
يمكن أن يستخدم معلّم العلوم، مثلًا، تطبيقات الواقع الافتراضي المعزّز (النوع الثاني)، لعرض قلبٍ ينبض، ما يتيح للطلبة التعرّف إلى أجزائه وآليّات عمله بشكلٍ تفاعليّ. أو يمكنه اصطحاب الطلّاب في جولةٍ افتراضيّةٍ لزيارة مستشفًى، ومتابعة عمليّة تخديرٍ فعليّة. ك
الواقع الافتراضيّ المعزّز في التعليم: تقنيّاتٌ تدمج الحواسّ
يمكن أن يستخدم معلّم العلوم، مثلًا، تطبيقات الواقع الافتراضي المعزّز (النوع الثاني)، لعرض قلبٍ ينبض، ما يتيح للطلبة التعرّف إلى أجزائه وآليّات عمله بشكلٍ تفاعليّ. أو يمكنه اصطحاب الطلّاب في جولةٍ افتراضيّةٍ لزيارة مستشفًى، ومتابعة عمليّة تخديرٍ فعليّة. ك
محمّد تيسير الزعبي | خبير مناهج اللغة العربيّة وأساليب تدريسها، ومصمم برامج تدريبيّة - الأردن

تتجدّد التحدّيات في غرفنا الصفّيّة بشكلٍ يوميٍّ. والطلبة الذين اعتقدنا أنّنا فهمناهم، وبتنا نمتلك مفاتيح شخصيّاتهم، يفاجئوننا بأفكارٍ جديدةٍ كلّ يومٍ. حتّى أنّ الكثير من المعلّمين يؤكّدون أنّهم لم يتوقّعوا يومًا الأفكار التي بات يطرحها طلّابهم ويفصحون عنها. 

أصبح من الضروريّ إعادة التفكير في أدوار المعلّمين والمعلّمات داخل البيئات المدرسيّة، فمهمّتهم لا تقتصر على منح طلّابهم شهادةً في نهاية العام الدراسيّ، بل هي أسمى وأجلّ من ذلك بكثير. فخارج أسوار المدارس عالمٌ مليءٌ بالتحدّيات، يحتاج فيه هؤلاء الطلّاب إلى اكتساب المهارات اللازمة للتعامل معه ومواجهته على أسسٍ متينةٍ من اليقين والإيمان، والخلق العربيّ المستقيم الذي لا يتعارض، بأيّ حالٍ من الأحوال، مع التطوّرات الهائلة في مختلف جوانب حياتنا، وأبرزها التعليم، ولا سيّما مع ما يشهده اليوم من دعواتٍ متزايدةٍ إلى إدخال التكنولوجيا وتطبيقاتها عليه بشكلٍ شاملٍ، حتّى وصل الأمر إلى الحديث عن إمكانيّة أن تحلّ محلّ المعلّم. 

يسعى هذا المقال لتقديم تصوّرٍ قائمٍ على التحليل والتقييم، بغية الوصول إلى رؤيةٍ واضحةٍ - إلى حدٍّ ما - حول إدخال تطبيقات الذكاء الاصطناعيّ في التعليم، والآثار المحتملة لإدراجها ضمن العمليّة التعليميّة، واتّخاذ موقفٍ قائمٍ على المعرفة والدراسة، لضمان تحقيق أفضل النتائج.  

 

وضع حدودٍ للمفهوم  

قبل الغوص في إمكانيّات الاستفادة من تطبيقات الذكاء الاصطناعيّ في التعليم، ينبغي أن نفرّق بين نوعَين من هذه التطبيقات، يرتبطان بما يحتاج إليه النظام التعليميّ من حيث تلبيته لاحتياجات الطالب: الأوّل، تطبيقات الواقع الافتراضيّ التي تفصل الطالب عن بيئته الحقيقيّة. فمثلًا، إذا ارتدى الطالب نظّارة الواقع الافتراضيّ، وانخرط في لعبةٍ أو تجربةٍ مغايرةٍ للواقع، فسيجد نفسه في مكانٍ مصطنعٍ تمامًا، لا يشبه محيطه الاجتماعيّ وواقع حياته. هذه التجربة يمكنها أن تخلق فجوةً بينه وبين بيئته الطبيعيّة، ما قد يؤدّي إلى انعزاله وانفصاله عن الواقع. وفي هذه الحال، قد لا يلاحظ الطالب محاولة تواصل المعلّم معه، نظرًا إلى انغماسه كليًّا في التجربة الافتراضيّة.  

أمّا النوع الثاني، فهو تقنيّات الواقع المعزّز التي تعدّ أكثر توافقًا مع حياة الطالب وواقعه. توفّر هذه التقنيّات للطالب بيئةً تعليميّةً غنيّةً، يتفاعل خلالها مع معلوماتٍ وتجارب تعلّميّةٍ تتماشى مع حياته، بدلًا من عزله عنها. 

 

الفرق بين الواقعَين الافتراضيَّين كبيرٌ ومؤثّرٌ. يمكن أن يستخدم معلّم العلوم، مثلًا، تطبيقات الواقع الافتراضي المعزّز (النوع الثاني)، لعرض قلبٍ ينبض، ما يتيح للطلبة التعرّف إلى أجزائه وآليّات عمله بشكلٍ تفاعليّ. أو يمكنه اصطحاب الطلّاب في جولةٍ افتراضيّةٍ لزيارة مستشفًى، ومتابعة عمليّة تخديرٍ فعليّة. كما يمكن لمعلّم التاريخ أن يأخذ طلّابه في زيارةٍ استكشافيّةٍ إلى مدينة البتراء الأثريّة، ولمعلّم الرياضيّات أن يتيح للطلّاب التحكّم بالأشكال الهندسيّة، لفهمها وتحديد أسمائها. توضّح هذه الأمثلة كيف يمكن لتقنيّات الواقع الافتراضيّ المعزّز أن تكون أداةً فعّالةً في دعم جهود التعليم، وتعزيز دور المعلّم.  

تتوفّر هذه التطبيقات بسهولةٍ عبر الإنترنت، ما يتيح للمعلّمين والمعلّمات الوصول إلى موادّ تعليميّةٍ جاهزةٍ على منصّاتٍ متنوّعةٍ، مثل Google Expeditions التي تقدّم محتوًى تعليميًّا مجّانيًّا. كما يمكن للمعلّمين تصميم تجارب تعليميّةٍ مخصّصةٍ تناسب احتياجاتهم التعليميّة، سواء باستخدام أدواتٍ مدفوعةٍ أو متاحةٍ مجّانًا عبر الإنترنت، بشرط إتقان استخدامها، لتطوير محتوًى يتيح للطلّاب تجربةً تعليميّةً محدّدةً، ومصمّمةً خصّيصًا لدعم أهداف التعلّم، مثل ARKit.  

 

الحواسّ تعمل بشكلٍ متكامل 

يدرك الطالب حضور التكنولوجيا وأدواتها في جميع جوانب حياته اليوميّة، فهو يرى الشاشات تلبّي احتياجاته بلمسة إصبعٍ واحدةٍ، في مواقف السيّارات، ومراكز التسوّق، والحدائق، وحتّى المستشفيات. تتيح التقنيّات التكنولوجيّة خدمةً سريعةً، تنسجم مع ميل الطلّاب إلى قضاء أغلب وقتهم أمام الشاشات. اليوم، تمنح الأسرة طفلها استراحةً من متطلّبات الدراسة، بالسماح له باستخدام هاتفه النقّال أو جهازه اللوحيّ، ما يشير إلى إمكانيّة توظيف هذا الشغف لصالح التعلّم. وهنا تبرز تطبيقات الواقع المعزّز أداةً تعليميّةً فعّالة، تتيح للطالب تجربة تعلّمٍ شاملةً، يوظّف فيها حواسّه جميعها في آنٍ واحد. على سبيل المثال، عند ارتداء النظّارة لرؤية عمل الروافع في درس العلوم، يبدأ الطالب بالتركيز الذهنيّ والانغماس في التجربة، ما يعزّز استيعابه، وقدرته على كتابة العمليّة وعرضها أمام جمهور.  

يتطلّب الوصول إلى العرض النهائيّ أمام الصفّ، من الطالب، أن يوظّف حواسّه جميعها. وهو ما يعدّ أبرز فوائد تطبيقات الواقع المعزّز. بمرور الوقت، يمكن أن تسهم هذه التطبيقات في تعزيز العمل التكامليّ للحواسّ، وهو ما يواجه تحدّيًا في التعليم التقليديّ، والاستماع إلى المحاضرات، حيث يشكو المعلّمون من تشتّت انتباه الطلّاب وضعف تركيزهم.  

 

الفضول والاكتشاف 

يثير المعلّمون فضول الطلبة، ودافعيّتهم إلى الاكتشاف، واستشراف المستقبل، أو استعادة صورة الماضي. فلو سألنا الطلبة عن تصوّراتهم لشكل المستقبل قبل عشر سنوات، قد نحصل على إجاباتٍ مطابقةٍ لواقعنا اليوم، وكذلك الأمر بالنسبة إلى تصوّراتهم عن الماضي، إذ تتيح تطبيقات الواقع المعزّز الفرصة أمام الطلّاب زيارة الماضي، ورصد حياة الناس في غياب وسائل التكنولوجيا التي ولدوا في ظلّها. وتوفّر لهم فهمًا أعمق للتحدّيات اليوميّة التي واجهها الناس قديمًا، مثل كيفيّة السفر مسافاتٍ طويلةٍ، في رحلات الحجّ من المغرب العربيّ إلى مكّة المكرّمة على سبيل المثال، أو طرق حفظ الأغذية في ذلك الزمن.  

بالطريقة ذاتها، يمكن أن يستخدم الطالب الأشكال الهندسيّة لتصميم بيتٍ، أو يتخيّل شكل البيت الذي يرغب بالعيش فيه، وتصميمه في مختبرات الواقع المعزّز. لا يقتصر هذا النشاط على الجانب الإبداعيّ الشخصيّ ومهارات التصميم، بل يوفّر تجربةً للعمل الجماعيّ، يدمج خلالها الطلّاب مهارات الحوار والنقاش والإقناع وتقبّل الآراء. في هذا السياق، يصبح التركيز على المهارات الشخصيّة جزءًا من عمليّة التقييم، ما يجعل الطالب يدرك أنّ الذكاء الاصطناعيّ ليس مجرّد وسيلةٍ رقميّةٍ، بل هو جزءٌ من عمليّةٍ تعليميّةٍ متكاملةٍ وواقعيّة.  

 

الفروقات الفرديّة 

توفّر تطبيقات الواقع المعزّز ميزة إدارة الفروقات الفرديّة بين الطلبة، لا سيّما أولئك الذي يعانون صعوبةً في التعلّم؛ إذ يمكن للمعلّمين استخدام تطبيقاتٍ مخصّصةٍ تعزّز نقاط التعلّم التي لم تتحقّق لدى الطلّاب. كما تلبّي هذه التطبيقات فضول الطلبة الذين يحبّون رؤية نتائج ما يتعلّمونه بشكلٍ مباشر، مثل مراقبة التفاعل الكيميائيّ بين عنصرَين، أو متابعة عمليّة استخراج النفط من باطن الأرض وتكريره. قد تعكس هذه العمليّة استجاباتٍ من الطلبة تعكس استيعابهم العميق لما شاهدوه.  

إضافةً إلى ذلك، تعدّ تطبيقات الذكاء الاصطناعيّ أداةً فعّالةً للمعلّمين في مواجهة ضيق الوقت المتاح لإنهاء المادّة الدراسيّة، فهي تعينهم على استدراك ما فات الطلّاب، وتعويض ما لم يتمكّنوا من استيعابه، خصوصًا الذين يحتاجون منهم إلى وقت أطول للفهم.  

 

منفذٌ في جدار الأزمة 

عملت خلال تجربتي مع معلّمين ومعلّماتٍ في مناطق اللاجئين، وهي بيئاتٌ لا تسمح للناس بالتنقّل، أو مغادرة مخيّمات الإيواء، أو استقبال الناس والتعامل معهم. في ظلّ هذه الظروف يصبح الأفق ضيّقًا، وتجارب الحياة محدودةً للغاية، حتّى إنّ بعض طلّاب هذه المناطق لم يزوروا البحر في حياتهم، وليس لديهم تصوّرٌ حول وسائل النقل العامّ، أو أرصفة الشوارع، أو حتّى الغابة.  

في هذه الظروف، يمكن أن تكون تطبيقات الذكاء الاصطناعيّ منفذًا رئيسًا، يفتح أمام طلبة مناطق اللجوء آفاقًا جديدةً للتفاعل مع ما ينقصهم، والنموّ بشكلٍ أقرب إلى الطبيعيّ، وتوسيع مداركهم وحصيلتهم المعرفيّة. فبإمكانهم، مثلًا، فهم كيفيّة إقلاع الطائرات، وبناء السدود، وخوض تجارب افتراضيّةٍ تحاكي ما فاتهم في الحياة الواقعيّة.  

ومع ذلك، يكمن التحدّي الأساسيّ في توفير مستلزمات هذه التطبيقات عالية التكلفة، وفي تدريب المعلّمين على توظيفها بشكلٍ فعّال. وقد يكون الحلّ الأمثل إنشاء مختبرٍ متخصّصٍ لهذه التطبيقات، يقدّم إلى الطلّاب تجربةً تعليميّةً تسهم في تقليص الفجوات التعليميّة الناجمة عن ظروفهم، تتاح لهم زيارته وفق مواعيد محدّدةٍ، وتحت إشراف مختصّين يعملون بالتعاون مع المعلّمين.  

 

لكلّ شيءٍ محاذيره  

تمثّل أدوات الذكاء الاصطناعيّ جسورًا فعّالةً لتحقيق أهداف التعلّم وترسيخه، لكنّها تحمل في طيّاتها تحدّياتٍ تتطلّب الحذر. فاستخدامها المفرط قد يؤثّر سلبًا في الصحّة البدنيّة، مسبّبًا الدوار المستمرّ، والصداع، وضعف البصر. كما أنّ الجوانب المتعلّقة بالأمن الإلكترونيّ وانتهاك الخصوصيّة تشكّل تهديدًا خطيرًا، إذ يمكن أن يتعرّض الطلبة إلى الخداع وسرقة بياناتهم، أو جرّهم إلى تجارب قد تهدّد حياتهم وتعرّضهم إلى الأذى. لذا، لا بدّ من الاستخدام المتوازن لهذه الأدوات، مع إشراف الأهل ووضعهم ضوابط لاستخدامها في المنازل، للحدّ من المخاطر المترتّبة عنها، وبقائها ضمن نطاق أهدافها التعليميّة، حتّى لا تصبح بديلًا عن التفاعل الإنسانيّ الحسّيّ. هذا إلى جانب التكلفة العالية لهذه التقنيّات، والذي يظلّ عائقًا أمام توفيرها في أغلب البيئات التعليميّة، ما يستدعي تخصيص ميزانيّةٍ عاليةٍ، قد تضرّ بالاهتمام بتوفير جوانب أخرى أكثر أهمّيّةً في بيئة المدرسة.  

 

*** 

قد لا يفقد المعلّمون وظائفهم بسبب عدم قدرة المدارس على توظيف الذكاء الاصطناعيّ نتيجة تكاليفه الباهظة، لكن من المؤكّد أنّهم قد يفقدونها أمام معلّمين يواكبون هذه التطبيقات، ويهتمّون بتعلّمها، واكتشاف دورها الفعّال داخل غرفة الصفّ، ويدرّبون طلّابهم على توظيفها بشكلٍ آمنٍ وسليم. تفرض هذه الحقيقة على المعلّمين مواكبة كلّ ما يدخل الميدان التربويّ، حتّى وإن لم يكونوا مقتنعين بأهمّيّته. من جهةٍ أخرى، تتحمّل النظم التعليميّة الرسميّة والأهليّة مسؤوليّةً كبيرةً في توفير هذه الأدوات، وتدريب المعلّمين على استخدامها وتوظيفها في العمليّة التعليميّة، بما يعزّز جودة التعليم، لا سيّما مع ميزانيّتها العالية التي تفوق قدرة المعلّمين على تحمّلها وتوفيرها بمفردهم.