إذا كان الأدب هو الجميل من النظم والنثر الذي يسجّل أفكار الإنسان وعواطفه، فالتاريخ سجلّ لأعمال الإنسان. والسجلّان يتكاملان ولا يستغني أحدهما عن الآخر: فكيف يمكن فهم أيٍّ منهما من دون الآخر؟
يقول قاسم عبده قاسم في كتابه "بين الأدب والتاريخ" (2007، ص 7)، إنّ العلاقة بين التاريخ والأدب علاقة قائمة على قدر كبير من التشابه والتداخل في الوقت نفسه، فكلّ منهما يستمدّ مشروعيّته من الواقع، ولا يمكن لأيٍّ منهما أن يدّعي اليقين الكامل. وكلّ منهما مادّته، أو موضوعه، الإنسان في الزمان والمكان. فالتاريخ والأدب يسعيان معًا لفهم الإنسان، وكشف علاقته بالكون وأسراره. واختلاف أساليب كلّ منهما في اكتشاف تلك العلاقة، إنّما يمثّل نوعًا من التكامل، وليس نوعًا من التمايز بينهما.
يمكن لمعلّم التاريخ في المراحل الدراسيّة المختلفة أن يستخدم ألوانًا متنوّعة من الأدب في تدريس التاريخ، لتحقيق مجموعة من الأهداف، كالسير الشعبيّة على سبيل المثال، باعتبارها أحد ألوان الأدب الشعبيّ، والتي يمكن أن يكون لها دور هامّ في تنمية القيم الأخلاقيّة لدى طلّاب مرحلة التعليم الأساسيّ.
يؤكّد الخبراء على أنّ تدريس تاريخ الأفراد أو سير مشاهير التاريخ للطلّاب، أسهل وأيسر من تدريس تاريخ الجماعة. لهذا، فقد رُؤِيَ أن تبدأ دراسة التاريخ في مرحلة التعليم الأساسيّ بسير بعض الأبطال والمشاهير، تمهيدًا لدراسة تاريخ الأمّة، أو الوطن، أو الجماعة، في المراحل التالية. فسيرة الإنسان الفرد أبسط في الدراسة من تاريخ الأمّة.
للأطفال ميل طبيعيّ نحو الشخصيّات البطوليّة، ما يخلق الرغبة لديهم للتشبّه بهم، في حين يتكوّن لديهم اتّجاه سلبيّ نحو سلوك الشخصيّات الشريرة. من هنا، تُعدّ دراسة الطلّاب للسير الذاتيّة من أغنى مصادر التعلّم التي تمدّهم بمواقف متعدّدة، يرون فيها قيم المشاهير، فيتأثّرون بهم، ويتوحّدون معهم، الأمر الذي يكون له أكبر الأثر في تبنّي القيم المرغوبة التي اتّصفت بها هذه الشخصيّات (اللقاني وآخرون، 1990، ص 173).
السير الشعبيّة مدخلًا لتدريس التاريخ في مرحلة التعليم الأساسيّ
الأدب الشعبيّ (folk literature) نوع من أنواع الأدب، يُعَرَّف بأنّه تعبير قوليّ تتميّز به البيئات الشعبيّة، استخدمه الباحثون في مقابل مصطلح الفولكلور، على الرغم من استعمال بعض الباحثين الأدب الشعبيّ جزءًا من الفولكلور، قائمًا على الكلام وحسب؛ فهو لا يتضمّن الألعاب الجماعيّة، أو الفنون اليدويّة والحركيّة والرقصات الشعبيّة، ولكنّه ينسحب على الأشكال التي تستخدم الكلمة المنطوقة، كالأقوال المأثورة، والحِكَم والتوريات الشعبيّة، إلى جانب الأشكال التقليديّة الأخرى، كالسير الشعبيّة، والحكايات، والأمثال، والألغاز، والمواويل، والأغاني الشعبيّة، والنكات، والمدائح، وغيرها (مرسي، 1998، ص 29، 58، 59).
أمّا السير الشعبيّة (folk biography) فهي قصص مُستقاة من التراث العربيّ، تدور أحداثها حول حياة بطل تاريخيّ حقيقيّ، وأحداث تاريخيّة حقيقيّة، ولكن يختلط فيها، في أحيان كثيرة، الواقع بالخيال. وتتضمّن السير الشعبيّة صورة وجدانيّة وعاطفيّة مليئة بالدلالات الاجتماعيّة على العصر الذي تتحدّث عنه، تُمَجَّد فيها الأخلاق العربيّة الأصيلة، كقوّة العربيّ وعزّته وشهامته، وتُنكر فيها الأخلاق السيّئة، كالخيانة والغدر.
تقدّم السيرة الشعبيّة نماذج البطولة العربيّة التي تعتمد على الشجاعة والإقدام والصدق والأمانة والكرم والتواضع. كما تقدّم مواقف يمكن أن تتكرّر وتوجد في أيّ عصر، باعتبارها، أي السيرة الشعبيّة، نماذج إنسانيّة في جميع أحوالها وتقلّباتها. تقدّم السيرة الشعبيّة أيضًا الدراما، بما فيها من عناصر السرد والتشويق والبناء والحبكة والمتعة، وكلّها تؤثّر في وجدان الفرد وعقله، لا سيّما الأطفال، إذ إنّها تجسّد حاجة المجتمع إلى البطل الشعبيّ في كلّ العصور.
تطبيقات تربويّة لتحقيق التكامل بين السير الشعبيّة وتدريس التاريخ
على مستوى تخطيط وتطوير المنهج:
هناك مجموعة من المعايير لتضمين السير الشعبيّة في منهج التاريخ لمرحلة التعليم الأساسيّ:
- أن تُنَقَّى السير الشعبيّة من الأساطير والأحداث الخياليّة المتضمّنة فيها، وأن يُقتصَر على الأحداث التاريخيّة الحقيقيّة، التي تدور حول حياة بطل السيرة الشعبيّة.
- أن تُبسَّط السير الشعبيّة المُختارة، وتُعاد صياغتها بلغة عربيّة سهلة، تتوافق مع طبيعة نموّ الطلاب.
- أن تُختَار السير الشعبيّة التي تحتوي على مضامين أخلاقيّة توجّه الطلّاب نحو السلوك الإنسانيّ الحسن، وتبعدهم عن السلوك القبيح.
- أن تُختَار السير الشعبيّة المشهورة، والمعروفة لدى قطاع كبير من الطلّاب والمعلّمين.
- أن تتضمّن السيرة الشعبيّة الجوانب الاجتماعيّة والعاطفيّة والواقعيّة، وقصص البطولة والفروسيّة لحياة البطل الشعبيّ.
- أن تُختَصَر السير الشعبيّة، وتتّفق مع أهداف منهج التاريخ المقرّر للطلّاب ومحتواه.
على مستوى أهداف المنهج:
هناك مجموعة من الاعتبارات التدريسيّة التي يجب أن تؤكّد عليها أهداف المنهج، عند التكامل بين السير الشعبيّة ومنهج التاريخ، وهي:
- التأكيد على عادات المجتمع وتقاليده ومعتقداته وثقافته في الفترة التاريخيّة للبطل الشعبيّ.
- التأكيد على آمال الناس وطموحاتهم وأحلامهم في الفترة التاريخيّة للبطل الشعبيّ.
- الاهتمام بإبراز العلاقة بين الماضي، المتمثّل في قصّة البطل الشعبيّ، وبين الحاضر. وربط هذا الحاضر بتطلّعات الطلّاب المستقبليّة.
- التأكيد على إبراز فكرة، أو قيمة مطلقة، تتجسّد في العديد من مواقف البطل الشعبيّ طوال حلقات السيرة.
- الاهتمام بالتأكيد على تنمية القيم الأخلاقيّة التي يتّصف بها البطل الشعبيّ، لتترك أثرها في المنظومة القيميّة لدى الطلّاب. فعلى سبيل المثال، تجسّد سيرة سيف بن ذي يزن النضال في سبيل الحريّة، والرغبة في تحرير التراب العربيّ الذي أغار عليه أعداء العرب، وتحقيق المساواة بين الناس كافّة (هنداوي، 2010).
على مستوى محتوى المنهج:
يمكن أن يتضمّن محتوى المنهج سيرة بعض أبطال السير الشعبيّة، متكاملة مع أحداث تاريخ شبه الجزيرة العربيّة والشام ومصر والمغرب العربيّ، بشرط أن يكون لهذه الشخصيّات دور مؤثّر في سير الأحداث، وأن تكون صاحبة إنجازات أثّرت في الوجدان العربيّ والإسلاميّ، وتمسّكت بالقيم والمبادئ الأخلاقيّة العربيّة الأصيلة. الأمر الذي جعلها قدوة لمن خلفها على مستوى القبيلة، أو الإقليم السياسيّ والحضاريّ، مثل:
- سيف بن ذي يزن: هو ملك يمنيّ، عاش في دولة حِمْيَر الثانية، في الفترة بين (516 – 574 م). اشتهر بطرد الأحباش من اليمن. تولّى المُلْك فيها، واتّصف بالشجاعة والكرم.
- عنترة بن شدّاد: هو أحد فرسان العرب، وشاعر من شعراء العصر الجاهليّ. عاش في الفترة من (525 – 615 م)، واشتهر بالشجاعة والإقدام والصبر والحياء.
- الزير سالم: هو أحد أبطال حرب البسوس التي استمرّت (40) سنة بين قبيلتَي تغلب وبكر. وهو شاعر وفارس عربيّ، كان يُلقّب بعدّة ألقاب، منها: أبو ليلى، والمهلهل. اشتهر بالشجاعة والتواضع. توفّي سنة (531 م).
- الأميرة ذات الهمّة: كان للأميرة دور هامّ في إلحاق الهزيمة بجيوش الدولة البيزنطيّة، في ما يُعرف بحرب الثغور، في عهد الدولة العباسيّة. توفّيت في بداية عهد الخليفة العبّاسيّ الواثق باللّه، عن عمر يناهز اثنتين وثمانين سنة (760 – 842 م).
- أبو زيد الهلالي: هو أحد الذين انتهت إليهم رئاسة قبيلة بني هلال، وكان له دور كبير في فتوحاتهم، تحديدًا في تونس سنة 1149 م. اتّصف بالعديد من المناقب التي أظهرت تمسّكه بمنظومة من القيم الأخلاقيّة، مثل الصبر والأمانة والشجاعة والإقدام.
- شيخ العرب همام: زعيم قبائل الهوّارة في صعيد مصر، وهو أحد أهمّ الشخصيّات التي حكمت الصعيد في عهد الحكم العثمانيّ لمصر، في القرن الثامن عشر الميلادي. تمكّن من نشر قيم العدل والكرم والسلام والتواضع بين أهالي الصعيد.
- أدهم الشرقاوي: برزت شخصيّة أدهم الشرقاوي بين أهالي بلدته لشجاعته في ردّ حقوق المظلومين والدفاع عنهم، كما كان له دور بطوليّ في مقاومة الاحتلال الإنجليزيّ أثناء ثورة 1919 في مصر.
على مستوى المعلّم:
هناك مجموعة من الأنشطة التعليميّة المقترحة، التي يمكن أن ينفّذها المعلّم مع الطلّاب داخل الفصل الدراسيّ، أثناء استخدام السير الشعبيّة في تدريس التاريخ، وهي:
- عرض خريطة على الطلّاب توضّح المكان الذي تواجد فيه البطل الشعبيّ.
- عرض صور حقيقيّة، أو تخيّليّة، للبطل الشعبيّ، وتشجيع الطلّاب على استخراج مكوّنات الصورة.
- طرح مجموعة من الأسئلة حول صورة البطل الشعبيّ، وتبادل النقاش مع الطلّاب من خلالها.
- حكاية قصّة معاناة البطل الشعبيّ للطلّاب، وكيف تغلّب عليها.
- تشجيع الطلّاب على قراءة مغامرات البطل الشعبيّ المتضمّنة في الدرس، من خلال القصص الخارجيّة.
- تكليف الطلّاب بمشاهدة بعض الأعمال الدراميّة التي جسّدت شخصيّة البطل الشعبيّ، وكتابة تقرير عنها.
- تكليف الطلّاب بإعداد بحث عن حياة البطل الشعبيّ.
- تكليف بعض الطلّاب الموهوبين في الرسم برسم صورة البطل الشعبيّ، وتعليقها في الفصل الدراسيّ.
- تشجيع بعض الطلّاب الموهوبين في التمثيل بتجسيد إحدى قصص السير الشعبيّة في عمل مسرحيّ، أو مواقف تمثيليّة في الفصل الدراسيّ.
***
الشعوب هي التي تصنع التاريخ وليس الحكّام، لذلك نجد أنّ الشعوب تُعيد صياغة هذا التاريخ في مأثوراتها الشفاهيّة، ومنها السير الشعبيّة. يختار الخيال الشعبيّ الأبطال من عامّة الناس، أو من شخصيّات تاريخيّة يعيد تصويرها بالشكل الذي يعبر عن رأي الناس في الحوادث والأشخاص. ولذلك يمكن القول إنّ المعرفة التاريخيّة للمجتمع ليست رهينة بقراءة كتب المؤرّخين، وإنّما تتأتّى بانتقال الأخبار التاريخيّة شفاهة، من جيل إلى جيل، ممزوجة بكثير من الحوادث التاريخيّة التي يتداولها العامّة، إضافة إلى الخيال. وهذا ما يُظهر أهمّيّة التكامل بين موضوعات الأدب بوجه عامّ والأدب الشعبيّ بوجه خاصّ، وموضوعات التاريخ في المراحل الدراسيّة المختلفة.
المـراجع:
- مرسي، أحمد. (1998). من مأثوراتنا الشعبية. الهيئة العامّة للكتاب - مصر.
- قاسم، قاسم. (2007). بين الأدب والتاريخ. عين للدراسات والبحوث الإنسانيّة والاجتماعيّة.
- اللقاني، أحمد ومحمد، فارعة ورضوان، برنس. (1990). تدريس المواد الاجتماعيّة (الجزء الثاني). عالم الكتب.
- هنـداوي، طه. (2010). القيم في التراث الشعبي. موقع ديوان العرب.