"عندما يخبرني الطالب أنَّ 2+2=12، أجيبه بنعم".
في كلمته في منصّة TEDx، ناقش (Dan Finkel 2020) ركائز تعلّم الرياضيّات الخارجة عن المألوف. من وجهة نظره، يمكن للطلّاب بناء علاقة تفاعليّة وعميقة وشجاعة مع الرياضيّات، بوصفها علمًا يفتح أفاق المعرفة أمامهم بتحوّلات في ممارسات المعلّمين. لكنَّ الأفكار التي طرحها ليست محصورة في الرياضيّات فحسب، بل يمكن تجاوزها إلى مختلف المساحات المعرفيّة التي يتعامل معها مجتمع التعلّم في المدرسة، ويمكن استنباطها من معظم التوصيات التي تخرج من الدوائر البحثيّة والتعليميّة. من هذه الممارسات أن نفتح أمام الطلّاب المجال للّعب بالأفكار المختلفة والاحتمالات التي يطرحونها، في تعاملهم مع القضايا المختلفة.
وعليه، تمكننا الإجابة على محاولات الطلّاب المعرفيّة بـ"نعم"، إذ لا تعني الكلمة صحّة الإجابة معرفيًّا، فلا نقول للطلّاب، مثلًا، إنَّ "الولد" في "أكل الولد التفاحة" فعلٌ لو اقترحوا ذلك، ولكن، تبقى الإجابة احتمالًا يمكننا البحث عنه ونقده. يشجِّع ذلك الطلّاب على تجربة الاحتمالات التي تخطر في بالهم، حيث يمكن عدّ المحاولات المعرفيّة، حتّى لو أصدرت نتائج غير صحيحة، حجرًا أساسًا في بناء عمليّة تعلّميّة تتمحور حول التساؤل والاستكشاف (مكانزي، 2022).
لماذا نفسح المجال أمام الطلّاب لاستكشاف الاحتمالات؟
قد تكون من الأسهل الإجابة عن محاولات الطلّاب الخاطئة بـ"لا"، غير أنّ لفتح المجال أمامهم لاستكشاف الاحتمالات التي يقترحونها، تبعاتٍ مهمّةً جدًّا في العمليّة التعلّميّة. تشكِّل الأسباب الآتية الأساس المنطقيّ لتجربة هذا التحوّل البيداغوجيّ في ممارسات المعلّمين وتطبيقها:
- - تسهِم ممارسات المعلّمين في بناء مهارات التفكير وتحليل الاحتمالات للوصول إلى النتائج. تتشابه هذه المساحة الفكريّة مع المساحة التي يعمل فيها العلماء والباحثون في ميادينهم المختلفة. ألا يجرّب الباحث أو العالم الاحتمالات المختلفة ليصل إلى نتائج معيّنة؟ ألا نجد في طيّات هذه العمليّة استبطانًا لما نشير إليه في حديثنا؟ بما أنَّ الغرفة الصفّيّة لا ينبغي أن تكون معزولة عن العالم الواقعيّ، فإنَّ محاكاة الطريقة العلميّة (scientific method) تُعدُّ جزءًا من المنظومة التعليميّة.
- - تنمّي هذه الممارسات عقليّة التساؤل عند الطلّاب. في رحلات البحث والتقصّي، لا يبحث الطالب عن "إجابة صحيحة" محدّدة مسبقًا، بل يجول في الاحتمالات المختلفة التي تخطر في باله في عمليّة البحث، ويجول في التجارب المختلفة والأبحاث المكثّفة لمعرفة صوابيّة الاحتمالات (Murdoch, 2015).
- - انفتاح الطلّاب على الاحتمالات والأفكار الأوّليّة التي يصنعونها، ثمّ البناء عليها والبحث عن نتائجها، من دون تضييق عمليّة البحث للوصول إلى الإجابة "الصحيحة" المحدّدة مسبقًا، يؤدّيان إلى رؤية شاملة للتعامل مع العلوم. يمكن عدّ ذلك حجرًا مركزيًّا في بناء متعلّم القرن الواحد والعشرين، لأنّه متعلّم يفتح لعقله وذهنه أفقًا لا حدود لها، ويكون قادرًا على التعامل مع المتغيّرات الجذريّة في هذا العالم المتغيِّر.
من ناحية أخرى، قد يُواجَه هذا التحوّل في الممارسات بانتقاد الطلّاب، إذ يعوق العمليّة التعلّميّة المنهجيّة ولا يتيح لهم إتمام المهمّات المطلوبة. وهنا، ينبغي لفت النظر إلى أنَّ الدراسات الحاليّة حول التساؤل المفتوح (Open Inquiry)، والتي تتضمّن كثيرًا ممّا ذُكِر هنا، تشير إلى أنَّ هذه الاحتمالات المفتوحة للطلّاب بتجربة أفكارهم وتقييمها تزيد من تفاعلهم مع المواد الدراسيّة، وتُشعِرهم بالملكيّة تجاه تعلّمهم، وبالتالي تُحسِّن أداءهم الأكاديميّ (Schwartz, 2012).
كيف نوظِّف هذه الممارسات في العمليّة التعليميّة؟
بعد مناقشة فوائد إتاحة المجال للطلّاب بتجربة الاحتمالات المختلفة، بدلًا من البحث عن "الإجابة الصحيحة" مباشرة، نناقش بعض أساليب تضمين هذه الممارسات في السياق اليوميّ للطلّاب، ولا سيّما في المرحلة الابتدائيّة:
إعادة صياغة الأسئلة
بدلًا من أن تهدف الأسئلة الصفيّّة إلى البحث عن إجابات "صحّ" أو "خطأ"، يمكن للطلّاب إعادة صياغة الأسئلة لمحاولة البحث عن إجابة مفتوحة الاحتمالات (open-ended questions). يعدّ هذا التغيير البسيط محوريًّا في تضمين هذه الممارسات في العمليّة التعليميّة، لأنَّ الانطلاقة المعرفيّة تكمن في السؤال. من هنا، يقودنا هذا التعديل إلى مجالات متنوعّة من إجابات الطلّاب (Svanes & Andersson-Bakken, 2021).
تخصيص الوقت اللازم للاكتشاف
على الرغم من أنّ الوقت لا يسعف المعلّمين في معظم الأحيان لإنجاز أهداف السنة الدراسيّة، إلّا أنَّ تخصيص وقت في الجدول الأسبوعيّ (نصف ساعة أسبوعيًّا على سبيل المثال) للبحث الحرّ، قد يسمح للطلّاب باكتشاف هذه الأفكار والاحتمالات وتجربتها، أو تجربة بعضها على الأقل (Kieff & Casberque, 2000). في المدرسة التي كنت أعلّم فيها في لبنان، كانت تُخصَّص للطلّاب أوقات للبحث الحرّ أسبوعيًّا لمدّة 15-30 دقيقة، ليتسنّى لهم البحث في الاحتمالات بمساعدة المعلّمين. شكّلت هذه الحصص فرصةً لإتاحة هذا المجال التربويّ الفريد.
اعتماد حلقات التغذية الراجعة
تسمح حلقات التغذية الراجعة للمعلّمين بتوجيه بحث الطلّاب، حيث تسهم خبرات المعلّمين في دعم هذه الرحلة البحثيّة. يقدِّم المعلّمون، بالتغذية الراجعة المستمرّة لمسيرة الطلّاب في هذا البحث، تقييمًا يكون أقرب إلى الإشراف التربويّ منه إلى التقييم، ليتمكّن الطلّاب من صياغة استنتاجاتهم الخاصّة في نهاية البحث (Meredith, 2015).
ثقافة التواضع المعرفيّ
يمكن للمعلّمين بناء ثقافة التواضع المعرفيّ وتشكيلها بالأنشطة المستمّرة والتأمّل والمناقشات العميقة مع الطلّاب، والتي تُذكِّر الباحث بأنَّ هناك وجهات نظر كثيرة لتفسير الظواهر حولنا، وأنَّ الباحث في المعرفة ينبغي أنّ يتذكّر أنَّ بحورها واسعة جدًا، وقد لا يدرك سوى جزءٍ يسير منها. ييسّر هذا التواضع عمليّة البحث والتعلّم عامّةً، فكما قيل قديمًا: لا ينال العلم مستحٍ أو متكبِّر.
أمثلة واقعيّة لنوضّح كيفيّة منح الطلّاب فرصة اكتشاف الاحتمالات، بمثالين واقعيّين من غرفة الصفّ:
أليكس وكوكب المشتري
في حصّة العلوم في الصفّ الرابع، كان الطلّاب يتعرّفون، مع المعلّمة روبرتس، إلى أحجام الكواكب في المجموعة الشمسيّة. قفز أليكس متحمّسًا ليقول: "المشتري هو الكوكب الأصغر في المجموعة الشمسيّة". في هذه الحالة، فضّلت المعلّمة أن يستكشف الطلّاب هذا الاحتمال- على الرغم من خطئه علميًّا- بدلًا من مجرّد تصويب المعلومة. قالت: "لماذا لا نبحث عن ذلك ونستكشف ماذا سيحصل لو كان المشتري فعلًا هو الكوكب الأصغر في المجموعة الشمسيّة؟". انقسم الطلّاب إلى مجموعات، وبحثوا بحواسيبهم عن علاقة حجم المشتري ببقية الكواكب، واستخدموا محاكيًا إلكترونيًّا (simulator) لتخيّل ذلك. في آخر الحصّة، لم تُصحَّح معلومات أليكس فقط، بل تعمّق الطلّاب كلّهم في علاقة أحجام الكواكب بطبيعة النظام الشمسيّ.
الصفّ الخامس وترتيب العمليّات
كنتُ أعرِّف الطلّاب في الصفّ الخامس في حصّة الرياضيات إلى ترتيب العمليّات (PEMDAS) في المشكلات التي تتطلّب خطوات متعدّدة، فسألني أحدهم: "ماذا لو قرّرتُ البدء بالجمع عوضًا عن الضرب؟" فلنحاول ذلك. حاول كلّ طالب معالجة المسألة نفسها، ولكن بترتيبه الخاصّ. حصل كلّ منهم- بطبيعة الحال - على جواب مختلف، وعرضوه أمام زملائهم. حاول كلّ منهم تبرير الجواب الذي حصّله، ولكنّ النقاش سار في دوائر مفرغة. لا يمكن تحديد جواب موحَّد من دون تحديد ترتيب معيّن للعمليّات. ولذلك، ظهرت أهميّة هذا الاتّفاق الرياضيّ.
* * *
تغيُّر رؤية المعلّم والطالب إلى الاحتمالات التي تنشأ في رحلات البحث، ركيزة رئيسة في تعلّم القرن الواحد والعشرين. تتيح عقليّة الانفتاح على الاحتمالات أمام الطالب، سبل معرفة تتجاوز قدرة المعلّم والمنهاج، لأنّها تختصر عناصر التعلّم الرئيسة مدى الحياة. قد يكون هذا التحوّل صعبًا في بدايته، ولكنّنا نستطيع عدّه طيفًا من التطبيقات التي يحاول المعلّم إيجاد ما يناسب صفّه وطلّابه منها، بناءً على المعطيات والموارد المتوفِّرة. ولكنَّ المهمّ في ذلك أن نصنع هذه الفرص للطلّاب، سعيًا إلى بناء شخصيّة متعلّم القرن الواحد والعشرين، المتعلّم مدى الحياة.
المراجع
- مكانزي، تريفور. (2022). عقليّة التساؤل: تغذية أحلام المتعلّمين الصغار وتساؤلاتهم وفضولهم. إصدارات ترشيد التربويّة.
- Finkel, Dan. (2020). Five Principles of Extraordinary Math Teaching. TEDx. https://www.youtube.com/watch?v=ytVneQUA5-c
- Kieff, Judith and Casberque, Renee. (2000). Playful Learning and Teaching. Allyn and Bacon.
- Meredith, Taylor. (2015). Starting Student Feedback Loops. Edutopia. https://www.edutopia.org/blog/starting-student-feedback-loops-taylor-meredith
- Murdoch, Kath. (2015). The Power of Inquiry.
- Schwartz, Katrina. (2012). For Students, Why the Question is more Important Than the Answer?. Outschool. https://www.kqed.org/mindshift/24472/for-students-why-the-question-is-more-important-than-the-answer
- Svanes, Ingvill and Andersson-Bakken, Emilia. (2021). Teachers’ use of open questions: investigating the various functions of open questions as a mediating tool in early literacy education. Education Inquiry. 2(14). https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/20004508.2021.1985247