"يوم المرأة" الغزّيّة، اليوميّ!
"يوم المرأة" الغزّيّة، اليوميّ!
2025/03/10
أسماء رمضان مصطفى | مُعلّمة لُغة إنجليزيّة- فلسطين

أنا أسماء مصطفى، 38 سنة، معلّمة وأمّ لطفلتين عادةً، أو لأكثر من 2000 طفل خلال حرب الإبادة الجماعيّة على غزّة.

عانيت ما يعانيه الجميع: عشت من النزوح ثمانية تجارب مريرة؛ تركت بيتي في شمال غزة مُكرهة على ذلك بفعل تهديدات جيش الاحتلال الإسرائيليّ؛ نزحت إلى خيمة مطلع كانون الثاني/ يناير 2024 مع طفلتَي وعائلتي. كنت في كلّ نزوح أحتضن ابنتَي على كتفَي وأهرب بهما بعيدًا عن الموت وصوته.

اضطررت إلى التعايش القسريّ مع حياة الخيمة ومقوّماتها. حملتُ الماء من مسافات بعيدة. كنتُ، كأيّ أمّ، بصعوبة بالغة أجد أصناف الطعام المفضل لطفلتَي. عايشت المجاعة، وغلاء المعيشة عشرة أضعاف طاقتي. طهوتُ الطعام على الحطب مرّاتٍ عديدة. تعلّمتُ إعداد الخبز على فرن الطين. مشيتُ مسافاتٍ طويلة بحثًا عن محال التسوّق في مخيّمات النزوح القريبة. 

وعلى الرغم من تلك الظروف الصعبة، لم أتوقّف عن تعليم الأطفال من حولي يومًا واحدًا. كنتُ أجمعهم كلّ يوم، في تمام الثالثة مساءً، أقيم جلسة تعليميّة ترفيهيّة تنقذ يومهم البائس، وتأخذهم بعيدًا عن أجواء الخوف والرعب المحيطة بهم من كلّ مكان.

تعلّمت لغة الإشارة من أجل طفل واحد كان يجاورني في مخيّم النزوح في رفح، وطفل آخر في النصيرات. تعلّمت لغتهما حتى أستطيع التواصل معهما حبًّا ورعايةً لهما، كبقيّة الأطفال من حولي.

كنت أقيم للأطفال أعياد ميلاد، ويومًا مفتوحًا كلّ شهر، وجلسات تفريغ انفعاليّ بأنشطة مختلفة: الموسيقى، الدبكة، اللعب الجماعيّ، الرقص الشعبيّ، الحكايات الشعبيّة، الإنشاد، والكثير من أجواء المرح التي تخفّف عنهم آلامهم وأوجاعهم في الوقت العصيب.

 

كنتُ أتعرّف إلى أمّهات الأطفال وآبائهم... صمود المرأة الفلسطينيّة مذهل!

الطالبة "رنا" تغيّبت ذات يوم عن الدرس، افتقدتها. تقول جارتها إنّها تساعد أمها التي وضعت مولودها في الخيمة. ذهبت لأتفقد حالها، وجدت الأمّ مبتسمة راضية، توزّع" الساندويشات" على أبنائها في مشهد لا أنساه.

"أم أمين"، تعرّفتُ إليها في نزوحي في خانيونس. تخبز في فرن الطين لعائلات المخيّم، وتطعم أطفالها. زوجة شهيد، غاب عنها زوجها فكانت الأب والأمّ معًا.

السيدة "منى"، كانت تجاورني في خيمة الإنترنت في رفح. تبكي كلّ يوم، تنتظر موعد سفرها رفقة أبنائها إلى الخارج، لتلتقي زوجها الذي لم تره منذ عشر سنوات. تحدّثني عن حياتها في الخيمة وكأنّها الأسد في عرينه. تفني يومها في توفير كلّ ما يلزم لأطفالها بكلّ حبّ، من دون تذمّر. 

قابلتُ "ليلى" المصابة في قدمها، تسير مسافات طويلة تبيع الذُرة لتوفير ما يلزم لحياة أفضل لأبنائها. "ليلى" زوجها مفقود منذ أكثر من عام.

أمّا جارتي الحبيبة" أم عدي"، فقامت بتوفير ماكينة خياطة يدويّة، تعمل عليها ليل نهار، علّها تؤمّن وجبة واحدة في اليوم لأبنائها وبناتها. ما العمل، بعد أن أصيب زوجها بشلل جرّاء تعرّضه لإصابة خطيرة في رأسه؟ كان بدوره يبحث عن قوت عياله، في يوم من أيّام الحرب الطويلة.

عرفتُ "أم يزن" في مخيّم نزوحي السادس في خانيونس، كانت تُحضِر أبناءها إلى خيمتي التعليميّة كلّ يوم تمام الثالثة. تجلس بالقرب منهم، تراقب تَقدّم مستوى" يزن وإيلين" في المهارات الأساسيّة المنهجيّة واللامنهجيّة في الدرس. كنت أشعر بسعادتها الكبيرة أثناء قيامها بذلك. كانت تحضّر الكعك والحلوى يوميًّا بطريقتها المذهلة، ونشتري منها جميعنا في المخيّم. كنت دائمًا أستمتع بمذاق الكعك الفلسطينيّ الأصيل من يدي "أم يزن".

ذات يوم دعوتها إلى تناول فنجان قهوة معي، كان لقاؤها جميلًا، وحديثها الهادئ أجمل. خرجت أم يزن سعيدة جدًّا، ودّعتني على أمل اللقاء الذي ما كان مقدّرًا: استُهدفت خيمتها تلك الليلة، لم نجد لها ولأطفالها أثرًا. مسح الصاروخ الإسرائيليّ أثر الخيمة ومكانها تمامًا. غادرتنا كالفراشة مع صغارها الأنقياء. تعبق رائحة كعك أطفالها في الجنة الآن.

 

وعلى الرغم من كلّ ما عايشتُهُ من ظروف مُكرهة على التماسك والتعايش القسريّ هنا في غزّة، في زمن الإبادة الجماعيّة وما تلاها، في وسط الموت والخوف، ما يزال هناك أمل كبيرٌ:

 مادام قلب الفلسطينيّة ينبض، ستستمرّ الحياة.

كيف لا وأنتِ المجتهدة المعطاءة؟ السخيّة في حبّك وانتمائك لأسرتك ومجتمعك.

فقدت غزّة كلّ شيء إلّا الأمل الذي يملأ قلوبنا، وقلوب سيّدات هذا المجتمع. لا أقول أنتنّ نصفه، بلّ كلّه بحبّكنّ وعطائكنّ اللامحدود. أعلم جيّدًا أنّنا نعيش أقسى أيّام حياتنا، ولكنّنا سنُكْمِلَ رسالتنا المجتمعيّة كلّنا معًا. 

كوني أقوى من كلّ الظروف، كوني الأمل، كوني الحلم. أنتِ الماضي والحاضر والمستقبل، كوني جريئة واصنعي لنفسك حلمًا جميلًا في هذا العالم، وكبّري يوم المرأة العالميّة ليصير غزّيًّا.