من البقاء إلى ازدهار المجتمع التربويّ: بناء الرفاه التنظيميّ في بيئة عمل غير عادلة
تعدّ بيئة العمل غير العادلة أحد المشكلات التي يواجهها عديدٍ من معلّمي الوطن العربيّ، ويتأثّر واقعها بعِدّة عوامل، منها عدم توفير الدعم الكافي من الإدارة المدرسيّة، وقِلّة تقدير الجهود التي يبذلها المعلّم في تحقيق أهداف التعليم، فضلًا عن شعوره بالظلم والتم
من البقاء إلى ازدهار المجتمع التربويّ: بناء الرفاه التنظيميّ في بيئة عمل غير عادلة
تعدّ بيئة العمل غير العادلة أحد المشكلات التي يواجهها عديدٍ من معلّمي الوطن العربيّ، ويتأثّر واقعها بعِدّة عوامل، منها عدم توفير الدعم الكافي من الإدارة المدرسيّة، وقِلّة تقدير الجهود التي يبذلها المعلّم في تحقيق أهداف التعليم، فضلًا عن شعوره بالظلم والتم
ياسمين حسن | مدرب التخطيط الاستراتيجي-مصر

تعدّ بيئة العمل غير العادلة أحد المشكلات التي يواجهها عديدٍ من معلّمي الوطن العربيّ، ويتأثّر واقعها بعِدّة عوامل، منها عدم توفير الدعم الكافي من الإدارة المدرسيّة، وقِلّة تقدير الجهود التي يبذلها المعلّم في تحقيق أهداف التعليم، فضلًا عن شعوره بالظلم والتمييز بسبب عوامل خارجة عن سيطرته، وقد يرجع ذلك إلى العوامل السياسيّة، أو الاجتماعيّة؛ ممّا يؤثِّر في أدائه وروحه المعنويّة كثيرًا. فعندما يشعر المعلّم بأنّه غير مُقدَّر، أو غير مدعوم من الإدارة المدرسيّة، يفقد الحماس والاهتمام بمهنته؛ ممّا ينعكس سلبًا على جودة التعليم الذي يقدّمه للطلّاب. بالإضافة إلى ذلك، قد يؤدِّي الضغط الناتج عن بيئة العمل غير العادلة إلى زيادة معدّلات الإحباط والإجهاد بين المعلّمين. الأمر الذي يؤثِّر في صحّتهم النفسيّة والبدنيّة.

 

نموذج هرم الرفاه التنظيميّ 

لكي نُسهِم في بناء بيئة عمل تتّسم بالعدالة بين أطراف العمليّة التعليميّة، لا بدّ من استخدام نماذج تحقِّق الرفاه للمعلّمين. ومنها نموذج هرم الرفاه التنظيميّ، لما له من أهمّيّة بالغة تعود بالنفع على المجتمع التربويّ العربيّ عامّةً، وعلى المعلّم العربيّ خاصّةً. ويتّضح ذلك في الآتي:   

  • - يعتمد هذا النموذج على مفهوم الرفاه الشامل للمعلّم، ويشمل الجوانب النفسيّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة، والصحّيّة.  

  • - يساعد في تحقيق توازن شامل بين حياة المعلّم الشخصيّة والمهنيّة. كما يُسهِم في تحسين جودة حياة المعلّم وزيادة إنتاجيّته وكفاءته في العمل. وبالتالي، يمكن للمعلّم أن يكون أكثر فعّاليّة وتأثيرًا في تحقيق أهدافه التعليميّة.  

  • - يعزِّز رفاهية المعلّم النفسيّة بتوفير بيئة عمل إيجابيّة وداعمة؛ ممّا يزيد من رضاه وسعادته في العمل. ينعكس ذلك إيجابيًّا على أدائه التعليميّ وعلاقته بطلّابه وزملائه.  

  • - يسهم في تحسين رفاه المعلّم الاجتماعيّ بتعزيز التواصل والتفاعل الإيجابيّ مع الآخرين في بيئة العمل. فهو يشجِّع على بناء علاقات اجتماعيّة قويّة وداعمة؛ ممّا يزيد من شعور المعلّم بالانتماء والتقدير في مجتمع العمل.  

 

ويتضمّن هذا النموذج توفير بيئة عمل مُحفِّزة ومُشجِّعة، تساعد على تعزيز الإنتاجيّة، والإبداع، والشعور بالانتماء، والمسؤوليّة. كما يسهم في تعزيز شعوره بالرضا والاستقرار الوظيفيّ بتوفير فرص التطوير المهنيّ، وكذلك تقديم الدعم النفسيّ والاجتماعيّ له. ويعمل النموذج على تعزيز التواصل الفعّال، وبناء الثقة بين الإدارة المدرسيّة والمعلّمين، لضمان توافر بيئة عمل صحّيّة وإيجابيّة. كما يتضمّن عدّة عناصر أساسيّة تتمثّل في القيادة المرنة، وتحديد طبيعة العمل الملائمة التي تتحقّق بتوافر بيئة عمل فيزيقيّة متوازنة، فضلًا عن تناسب متطلّبات العمل مع إمكانات المعلّم، ومنحه بعض الحرّيّة في تسيير مهمّاته الوظيفيّة التي لا تتعارض مع اللوائح المُنظِّمة للعمل، وتحقيق التوازن الوظيفيّ للمعلّم بتوفير الأمان الوظيفيّ والمناخ التنظيميّ المناسب، ورفع مستوى الرضا الوظيفيّ والرفاه النفسيّ والاجتماعيّ. وأخيرًا، تهتمّ الإدارة المدرسيّة بالرعاية الصحّيّة، والسلامة المهنيّة اللتين تعزِّزان من صحّته. ويهدف كلّ عنصر من هذه العناصر إلى تحسين جودة الحياة الوظيفيّة للمعلّمين، وزيادة رضاهم عن بيئة عملهم، ورفع كفاءة أدائهم التعليميّ (Bassmore, 2020). 

6

 

أمّا عناصر النموذج فتتمثّل بالآتي: 

القيادة المرنة  

تمثّل القيادة المرنة قاعدة هرم الرفاه التنظيميّ، وتعني القدرة على التكيّف مع التحدّيات والتغيّرات في البيئة المحيطة. وتشمل مسؤولي الإدارة المدرسيّة، سواء أكان المدير أم وكيل المدرسة. وعليهم أن يفهموا طبيعة الظروف المحيطة ببيئة العمل، إذ قد تكون متقلّبة، وتحتاج إلى استجابة سريعة. وبالتالي، ينبغي عليهم أن يقدّموا الدعم اللازم للمعلّمين، لمواجهة مثل هذه التحدّيات.  

 

طبيعة العمل (بيئة عمل فيزيقيّة، ومتطلّبات العمل، والتحكّم بالعمل)  

تحتلّ طبيعة العمل المستوى الثاني من الهرم، وتتمثّل في البيئة الفيزيقيّة التي تحتوي على عناصر إيجابيّة، مثل البنية التحتيّة المناسبة والأدوات والمعدّات الخاصّة بالأنشطة التعليميّة وتوافق المتطلّبات المناسبة للعمل مع مهارات المعلّم. ويأتي التحكّم الجيّد بالعمل، من حيث حرّيّة استخدام الأسلوب المناسب للتدريس.  

 

التوازن الوظيفيّ (المناخ التنظيميّ، والأمان الوظيفيّ)  

يؤثِّر التوازن الوظيفيّ كثيرًا في رضا المعلّمين عن بيئة عملهم المدرسيّ. ويشمل التوازن الوظيفيّ عدّة جوانب مهمّة، منها المناخ التنظيميّ المتمثِّل في بيئة العمل التعليميّة الداخليّة، والتي تتأثّر بالقيم والمعتقدات والعلاقات بين المعلّمين. أمّا عن الأمان الوظيفيّ، فهو شعور المعلّم بالراحة والثقة والاستقرار في بيئة عمله. وبالتالي يؤثِّر في رضاه الوظيفيّ، وأدائه التعليميّ.  

 

الرفاه العام (الرفاه النفسيّ والاجتماعيّ، والرضا الوظيفيّ)  

تؤثِّر العوامل الاجتماعيّة والنفسيّة والرضا الوظيفيّ في تحقيق رفاه المعلّمين العام، فعندما يشعرون بالرضا والسعادة عن بيئة عملهم، وعندما يكون لديهم دعم نفسيّ واجتماعيّ قويّ، يكونون أقدر على التعامل مع التحدّيات اليوميّة والأعباء الوظيفيّة.  

 

الرعاية الصحّيّة والسلامة المهنيّة  

تأتي الرعاية الصحّيّة والسلامة المهنيّة في قمّة الهرم، فهي تمثّل أهمّيّة كبرى بالنسبة إلى المعلّمين الذين يقضون ساعاتٍ طويلة في القاعات الدراسيّة مع الطلّاب. كما يمكن أن يؤثّر ذلك سلبًا في صحّتهم وسلامتهم، وإذا وفّرت الإدارة المدرسيّة الرعاية الصحّيّة بصورةٍ جيّدة ومنتظمة، يمكن للمعلّمين الحفاظ على صحّتهم البدنيّة والنفسيّة، والوقاية من الأمراض والإصابات المرتبطة بالعمل.  

 

واقع بيئة العمل غير العادلة في مجتمعاتنا التربويّة العربيّة  

يواجه المعلّمون في العديد من البلدان العربيّة بيئات عمل غير عادلة تؤثِّر سلبًا في أدائهم ورضاهم الوظيفيّ. وقد يتعرّضون لعِدّة مشكلات، يمكن حلّها بالرجوع إلى المستوى الأوّل من النموذج الذي يشير إلى قاعدة الهرم، والتي تتمثّل في القيادة المرنة لحلّ المشكلات الناجمة عن تذمّر المعلّمين من بيئة عملهم غير العادلة. ونعرض تلك المشكلات والحلول الواجب اتّباعها، لتخفيف الأثار الضارّة الناتجة عنها:  

 

الرواتب المُقدَّمة للمعلّمين غير كافية مقارنةً بالمهمّات والمسؤوليّات التي يتحمّلونها  

قد يجد المعلّم العربيّ نفسه يعمل بجهدٍ كبير من دون أن يحصل على تعويضٍ مناسب؛ ممّا يؤثِّر في رغبته بالاستمرار في هذه المهنة. ويمكن، باتّباع أسلوب القيادة المرنة، أن نحدّ من تلك المشكلة باتّخاذ الإجراءات الآتية:  

  • - على الإدارة المدرسيّة إجراء تقييم دقيق للمهمّات والمسؤوليّات التي يتحمّلها المعلّمون، ومقارنتها بالرواتب المعروضة عليهم. ويجب أن تكون الرواتب مناسبة للمسؤوليّات والجهد الذي يبذله المعلّمون، ولكن قد يتوقّف هذا الإجراء على طبيعة المدارس في بلداننا العربيّة. ففي حالة المدارس الخاصّة التي يمتلكها أصحاب المصلحة قد يسهل تغيير قيمة الراتب، لكي تتناسب مع إمكانات المعلّمين. أمّا عن قطاع المدارس الحكوميّة، وما يتبعها من مدارس لغات ومدارس رسميّة، فقد يصعب على الإدارة المدرسيّة القيام بهذا الإجراء، كونهم ملزمين بالقرارات الوزاريّة، واللوائح المُنظِّمة للعمل. 

  • - يتوجّب على واضعي سياسات الرواتب والمكافآت العمل على تحديثها باستمرار. فهي تعكس قيمة العمل التعليميّ الحقيقيّة، ويمكن أن تشمل هذه السياسات زيادة الرواتب، بناءً على الخبرة والتحصيل العلميّ، وتقديم مكافآت للمعلّمين الذين يحقّقون نتائج ممتازة في الأداء التعليميّ.  

  • - توفير مراكز معتمدة تقدِّم فرصًا للتطوير المهنيّ وتدريب المعلّمين؛ ممّا يمكِّنهم من تحسين مهاراتهم وزيادة قيمتهم في سوق العمل. 

  • - على الإدارة المدرسيّة أن تعزِّز ثقافة الاعتراف والتقدير لجهود المعلّمين بتقديم مكافآت وتكريمات للمعلّمين الذين يبرزون في أدائهم التعليميّ. 

  • - على مدير المدرسة الاستماع إلى مخاوف المعلّمين، والعمل على حلّها بصورةٍ فعّالةٍ، بما في ذلك الاستجابة لمشكلات الرواتب والمساعدة في إيجاد حلولٍ عادلة وملائمة.  

 

ظروف العمل غير الملائمة 

إذا كانت مدارسنا في الوطن العربيّ تعاني من ظروف عمل غير ملائمة للمعلّمين، فيمكن حلّ هذه المشكلة بإتّباع القيادة المرنة التي تسمح بتكييف الإستراتيجيّات والسياسات التي تلبّي احتياجات المعلّمين، وتحسِّن من بيئة عملهم. ونعرض بعض الحلول التي يمكن اتّخاذها: 

  • - عقد مدير المدرسة اجتماعاتٍ مفتوحة يناقش فيها احتياجات المعلّمين ويتفاعل معهم، لفهم التحدّيات التي يواجهونها.  

  • - تقدِّم الإدارة المدرسيّة الدعم الإداريّ اللازم للمعلّمين، سواء على مستوى الصفوف الدراسيّة، بتوفير الموارد اللازمة لتنفيذ البرامج التعليميّة بكفاءةٍ وفعّاليّة؛ فهي تسهِّل عمليّة التخطيط الدراسيّ، وتوفير الدعم الفنيّ والتقنيّ اللازمين لتحسين أدائهم، وتعزيز مهاراتهم التعليميّة، أو في مواجهة التحدّيات الإداريّة الأخرى التي قد تواجههم أثناء عملهم. فهي تساعدهم في حلّ المشكلات، وتقديم الإرشادات والتوجيهات الضروريّة لتجاوز الصعوبات التي قد تعترض سبيلهم.  

  • - على صانعي القرار في المدرسة تعزيز مبادئ العدالة والشفافيّة في بيئة العمل التعليميّ، لضمان تقدير جهود المعلّمين، ومعالجة أيّ حالات تمييز أو ظلم.  

  • - توفير الإدارة الماليّة في المدرسة للموارد التعليميّة اللازمة، حتّى تقلّل من الضغوط العمليّة، وتعزِّز التواصل الفعّال بين المعلّمين.  

 

نقص دعم مجهودات المعلّمين وتقديرهم 

قد يشعر المعلّمون في بعض البلدان العربيّة بقِلّة اهتمام الإدارة المدرسيّة لجهودهم المبذولة؛ ممّا يؤثِّر سلبًا في روح العمل، والتفاني في ما بينهم. وقد يكون للقيادة المرنة دورٌ حيويٌّ في مواجهة تلك المشكلة. ويمكن أن نتّبع ما يلي:  

  • - على الإدارة المدرسيّة أن تعزِّز التواصل المفتوح بين المعلّمين. وبذلك، يمكنها تقديم الدعم المناسب، والتشجيع بانتظام، والاستماع إلى شكواهم واقتراحاتهم.  

  • - يتوجّب على مدير المدرسة تقدير جهود المعلّمين والاعتراف بإسهاماتهم في تحسين جودة التعليم، بتنظيم حفلات تكريميّة، أو تقديم شهادات تقدير للمعلّمين المتميّزين.  

  • - ينبغي توفير اختصاصيّين لتقديم الدعم النفسيّ والاجتماعيّ للمعلّمين الذين يواجهون تحدّيات، أو ضغوطًا في العمل، بتوفير جلسات استشاريّة، أو دعم نفسيّ للمساعدة في التعامل مع تلك المشكلات.  

 

* * * 

وختامًا، يعتبر المعلّم العمود الفقريّ لأيّ نظام تعليميّ ناجح. ولذلك، يجب أن تكون بيئة عمله عادلة ومشجِّعة، لكي يتمكَّن من أداء دوره بكفاءة وفعّاليّة. ويتطلّب ذلك تبنّي مسؤولي المدرسة سياساتٍ وإجراءات تعزِّز من رفاهه النفسيّ والاجتماعيّ. ومن أهمّ هذه السياسات والإجراءات توفير رواتب ومكافآت مناسبة تقديرًا لمهمّاته التعليميّة، وتقديم فرص لتطويره مهنيًّا. كما يتوجّب على الإدارة المدرسيّة أن تكون مستعدّة للاستماع إلى احتياجاته ومشكلاته، واتّخاذ الإجراءات الضروريّة لحلّها فورًا، وينبغي تشجيعه على الابتكار والإبداع، وتوفير التقدير الملائم لجهوده وإنجازاته.  

 

المرجع 

- Bassmore, J. (2020). The Wiley Blackwell Handbook of the Psychology of Positivity and Strengths- based Approaches at Work. Wiley Blackwell.