ما إن بدأ شبح الحرب يُخيِّم على البقعة الجغرافيّة الصغيرة من هذا العالم في قطاع غزة، حتّى هطل على مسامع الطلبة والأطفال الفلسطينيّين سيلٌ من المفاهيم والمصطلحات الجديدة والغريبة، لتقتحم عقولهم وتُضاف إلى قاموسهم المُشبع بمفردات الألم والمعاناة والقهر. لم يكن بوسع هؤلاء الطلبة الصغار الاطّلاع على تلك المصطلحات والمفاهيم من قبل، نظرًا إلى محدوديّة حاجتهم إليها وصعوبة فهمها، وقلّة استخدامها في سياق حياتهم اليوميّة، فضلًا عن عدم ورودها في كتب المنهاج المدرسيّ على النحو الذي يمكِّنهم من تمثُّلها في بنيتهم المعرفيّة ومخزونهم اللغويّ.
طبيعة المصطلحات وواقع ظهورها
شكّلت المفاهيم والمصطلحات التي خلّفتها الحرب الأخيرة على غزّة تعلّمًا جديدًا للطلبة الفلسطينيّين خارج السياق المدرسيّ، وبات من الضروريّ عليهم التعاطي معها وتوظيفها عمليًّا في السياقات الحياتيّة، مدركين أهمّيّة توظيفها في ممارساتهم اليوميّة. فهي حالة تعلّم جديدة قادتهم إلى حالة من الفعل والحراك اليوميّ مع هذه المصطلحات، لتشكّل حالة من الفاعليّة الإيجابيّة لاستثمار المحنة في زمن الحرب. وبمعنى آخر، حدَّ توقّف العمليّة التعليميّة في غزّة من تلقّي الطلّاب المعلومات والمعارف بإطارها الرسميّ، إلّا أنّ ممارسات الحرب بصورها المختلفة أحدثت تعلّمًا جديدًا بصورة غير نظاميّة، لكنّه تعلّم من الحياة وللحياة في زمن الحرب.
ولأنّ الألم يولِّد الحاجة، احتاج الطلبة إلى التعرِّف إلى تلك المصطلحات والمفاهيم، وخصّصوا لها أبوابًا جديدة في قاموسهم الكلاميّ، لتُصبح جزءًا من حالة الشعور اليوميّ والخطاب المتداول في حوارات الطلّاب المختلفة في قطاع غزّة، ليكبروا معها أعمارًا جديدة وسنوات مديدة، مضّطرين إلى مجاراة الخطاب السياسيّ والعسكريّ والمؤسّساتيّ والمعيشيّ الذي استدرجهم إلى منصّاته الكلاميّة عنوةً، ليصهر هذا الخطاب الكلاميّ الكبار والصغار في مساحة واحدة، من أجل فهم مآلات الأمور ومقاصد الكلمات وتأويلات النصوص في لحظات الحياة الحرجة التي يعيشونها يوميًّا.
وما أن تسمع هذه المصطلحات والمفاهيم تتقاذفُها ألسنة الطلّاب في حواراتهم المُعاشة، حتّى يصل الأمر بك إلى القول: يا تلاميذ غزّة قد كبُرتم سنوات بعقولكم وعُمرٖكم، لأنّ مثل هذا الأمر يحتاج إلى أناس متخصّصين في المجالات المختلفة التي قَدمت منها تلك المصطلحات.
وفي سياق البحث وملاحقة المصطلحات المتناثرة في الخطابات الكلاميّة المكتوبة والمسموعة، عثرنا على جملة منها استوقفتني كثيرًا ودفعتني إلى البحث في دافع تلك الحالة، حيث رأيتُ طفلة وطفلًا يلعبان في أحد شوارع المنطقة التي نزحنا إليها، عمرهما لم يتجاوز الخمس سنوات، وعندما سَمعا صوتًا مرتفعًا صادرًا عن الطائرات يشبه القصف، جرت الطفلة مسرعةً إلى بيتها تقول: "حزام ناريّ... حزام ناريّ". والحزام الناريّ مصطلح عسكريّ يُستخدَم لوصف نوع من الضربات الجويّة التي يُنفِّذها الجيش الإسرائيليّ لعزل الأحياء السكنيّة عن بعضها. فمثل هذه الحالة جعلت من الضروريّ تتبّع هذا الأمر لمعرفة الدوافع التي تقف خلفها، وكيف لهذه الحالة أن تجعل أطفالًا في مثل هذا العمر، يخوضون دروب الحياة الصعبة بمصطلحاتها الكبيرة والغريبة والمُتلبّسة بحروف الخوف والألم والمعاناة والمصير المجهول.
مجالات المصطلحات وأثرها في الطلبة
استطعتُ، بمسح هذه المصطلحات، جمع ما طاله فكري وقلمي من بين أزقّة الشوارع والأجواء الملبّدة بدخان القصف، حيث تنوّعت المصطلحات وتنوّعت ميادين توظيفها. فمنها مصطلحات جديدة تُعبِّر عن الحالة المعيشيّة الصعبة للسكّان الفلسطينيّين، وعن الألم وعن معاناتهم اليوميّة، مثل مصطلحات: لمّ شمل العائلات؛ والكرفانات، وهي بيوت حديديّة للنازحين؛ ظروف غير آدميّة؛ هدنة إنسانيّة؛ نازح؛ ممرّ إنسانيّ؛ السوق السوداء؛ تجّار الحروب والأزمات؛ مركز إيواء؛ الكوبونة، وهي حصّة من المساعدات الغذائيّة؛ البلوكّات، وهي مربّعات سكنيّة قسمها الجيش الإسرائيليّ لإخلائها؛ الهجرة الطوعيّة والهجرة القسريّة؛ الإبادة الجماعيّة؛ جرائم التطهير؛ معسكرات الاحتجاز النازيّة. تأتي هذه المصطلحات في سياق الحوار اليوميّ لسكّان قطاع غزّة أثناء الحرب الدائرة هناك، سمعها الطلبة والأطفال الفلسطينيّون، ففتحت أمامهم الكثير من التساؤلات حول ماهيّتها. كما أحدثت حالة شغف لديهم لضرورة الاطّلاع أكثر عليها، لفهمها فهمًا أعمق، من باب العلم بالشيء، وتوسيع مساحة الثقافة الحياتيّة والمفاهيم اللغويّة ودلالاتها.
كما دخلت جملة من المصطلحات الجديدة من الميدان الصحّيّ والطبّيّ على قاموس الطلبة الفلسطينيّين، والتي تتداولها وسائل الإعلام ويتناقلها الطلبة، مثل مصطلحات: تحت الأنقاض؛ شهيد مجهول الهويّة؛ مستشفى ميداني؛ الأطفال الخدّج؛ انتشال جثّة؛ الأطراف الصناعيّة؛ المقابر الجماعيّة؛ تحلّل الجثث؛ جراح بالغة الخطورة؛ صدمة نفسيّة؛ موت سريري؛ إلقاء مساعدات طبّيّة جوًّا. ولا تخلو هذه المصطلحات من الألم والأسى النفسيّ، والذكريات المريرة لدى الكبار والصغار على حدٍّ سواء، لكنّها شغلت حيّزًا كبيرًا من عقول الطلبة في حواراتهم وقصصهم اليوميّة. سارع هؤلاء الطلبة إلى البحث في معنى كلّ مصطلح ودلالته وتوقيت استخدامه، حتّى أصبحت ضمن قوائم المصطلحات والمفاهيم الدارجة في حوارات الصغار.
أُضيف إلى قاموس الطلبة الفلسطينيّين كذلك جملة من المصطلحات والمفاهيم العسكريّة، والتي تناقلتها وسائل الإعلام وتفاعل معها الطلبة في خطابهم اليوميّ، وعلى المسرح الحواريّ مع أصدقائهم وأُسرهم. ومن تلك المصطلحات: كابينت الحرب، وهو المجلس الإسرائيليّ المسؤول عن الأعمال العسكريّة، والذي يتّخذ القرارات الحربيّة؛ إعادة الانتشار والتموضع؛ المفاوضات غير المباشرة؛ تمشيط المناطق؛ الحواجز والموانع الأرضيّة والبحريّة؛ انسحاب أُحادي الجانب؛ القبّة الحديديّة؛ مقلاع داوود، وهو نظام اعتراض للصواريخ صمّمته إسرائيل؛ حزام ناريّ؛ صافرات الإنذار؛ خطوط القتال الأماميّة؛ مسافة صفر؛ التسلّل خلف خطوط القتال؛ تفريغ هواء، وهو صوت الطائرات المرتفع ويشبه القصف؛ اختراق جدار الصوت؛ العمليّات الخاطفة والمُركَّزة؛ الخاصرة الرخوة،؛ قنابل إنارة، تطلقها قوّات الاحتلال الإسرائيليّ أثناء توغّلها البرّيّ داخل المدن ليلًا؛ كواد كابتر، وهي نوع من الطائرات المُسيَّرة عن بعد، والتي تصوِّر وتطلق النار على المواطنين؛ طائرات الاستطلاع؛ اغتيالات ممنهجة؛ سياسة الأرض المحروقة؛ الغطاء الجويّ؛ اعتقال تعسّفيّ؛ الدروع البشريّة؛ كيبوتسات، وهي مصطلحات مرادفة لمصطلح مستوطنة مقامة على أرض فلسطينيّة؛ اعترافات قصريّة؛ منطقة قتال خطرة؛ تحييد عناصر قتاليّة؛ مناورة استطلاعيّة؛ صفقة التبادل؛ الكانتونات، وهي فصل المدن والقرى الفلسطينيّة بالحواجز العسكريّة؛ استعادة قوّة الردع؛ اشتباكات ضارية؛ وحدة المستعربين، وهي وحدة خاصّة في الجيش الإسرائيليّ تُتقن اللغة العربيّة وتستطيع التعايش بين الفلسطينيّين وتساعد الجيش في الاعتقالات؛ أقمار تجسّس؛ قذائف عنقوديّة؛ قنابل الفسفور؛ المرتزقة؛ اللواء والفرقة والكتيبة العسكريّة؛ اختراق التحصينات الأرضيّة؛ أسرى الحرب؛ تجنيد الأطفال؛ الشركات الأمنيّة؛ الحلابات، وهي حواجز إسرائيليّة أقامها الجيش الإسرائيليّ لتفتيش الفلسطينيّين أثناء نزوحهم من مناطقهم؛ محور فيلادلفيا، وهي المنطقة المحيطة بمعبر رفح على الشريط الحدوديّ مع مصر. ولا يخفى على أحد أنّ المصطلحات والمفاهيم العسكريّة قد شكّلت صورة ذهنيّة مؤلمة لدى الطلبة الفلسطينيّين جرّاء سماعها واستخدامها، حيث ارتبط كلّ مصطلح بذكرى صعبة على مستوى وعيهم، وفي أعماق لا وعيهم. واستقصى الطلبة هذه المصطلحات بسؤال الكبار عنها، ليُكوّنوا دلالة مفاهيميّة لكلّ مصطلح عسكريّ.
بالإضافة إلى ذلك، تعرّف الطلبة الفلسطينيّون إلى مصطلحات سياسيّة جديدة متداولة على الساحة الدوليّة في سياق الخطاب الإعلاميّ، تتعلّق بدلالات قانونيّة ومؤسّساتيّة، ومن تلك المصطلحات: ضمانات دوليّة؛ السيناريوهات المستقبليّة؛ الصليب الأحمر الدوليّ؛ الأمم المتّحدة؛ محكمة العدل الدوليّة؛ محكمة الجنايات الدوليّة؛ معاداة الساميّة؛ خطاب الكراهية؛ الفصل العنصريّ؛ المبعوث الأمميّ؛ حقّ النقض الفيتو؛ اليونيسيف؛ اليونسكو؛ منظّمة العفو الدوليّة؛ منظّمة الصحّة العالميّة؛ الحماية الدوليّة؛ فرض إملاءات جديدة؛ الشرعيّة الدوليّة؛ النازيّة، السيوف الحديديّة، وهي الاسم الذي أطلقه الجيش الإسرائيليّ في حربه الدائرة حاليًّا؛ انتهاك القانون الدوليّ الإنسانيّ؛ الخطّ الأخضر الفاصل؛ الفوضى المصطنعة؛ البيئة المعيشيّة الطاردة. فشكّلت هذه المصطلحات حالة من الضبابيّة لدى الطلبة الفلسطينيّين دفعتهم إلى تفكيك تلك المصطلحات وفهم رمزيّتها.
وفي السياق ذاته، برزت مجموعة من المصطلحات تخصّ الشأن السياسيّ الفلسطينيّ الداخليّ، مثل مصطلحات: تكنوقراط؛ الحاضنة الشعبيّة؛ الجبهة الداخليّة؛ المقاومة الشعبيّة؛ الأعيان الثقافيّة والدينيّة والمدنيّة؛ الحرب النفسيّة؛ الإشاعات المغرضة. دفعت هذه المصطلحات والمفاهيم التي تجاوزت حدود مراحل المتلقّين العمريّة، الطلبة إلى التأمّل العميق في دلالاتها، حيث نقلتهم إلى مرحلة الرشد مبكرًا، متقدِّمة بعمرهم الزمنيّ والعقليّ وحضورهم الحياتيّ، لكنّها فكّكت، في الوقت نفسه، مسارات تفكيرهم. فبات من الواجب عليهم، بل من الضروريّ، التعاطي مع هذه المصطلحات وفهم دلالتها ومآلات استخدامها، وميادين توظيفها على النحو الذي يجعلهم يستطيعون حماية أنفسهم وإيصال صورة القهر ومعاناتهم وشعبهم. وذلك بمخاطبة العالم بلغة قد يفهمها، حيث لم تعد لغة الدم النازف ودموع الأطفال وصرخات الأمّهات ودماء الأبرياء تُقنع هذا العالم، ليقف لحظةً مع نفسه ويقول إنّ ما يحدث لطلّاب غزة وفلسطين وأطفالها جريمة مكتملة الأركان، في عصر يخشى الناس فيه أن يقولوا كفى استهتارًا بالإنسانيّة والطفولة. فجميع العالم يسمع بمؤسّسات حماية الطفولة التي، على ما يبدو، تستثني الطلبة الفلسطينيّين من حساباتها، إذ باتت طفولة الفلسطينيين في مهبّ الريح، وأصبحوا خبرًا يوميًّا تتداوله القنوات الإعلاميّة.
* * *
وعليه، تدعو هذه السرديّة السابقة القائمين على المناهج الفلسطينيّة إلى التفكير عميقًا في محاولة إدماج هذه المصطلحات في سياقات المناهج الدراسيّة على نحو نظاميّ، مع تبويبها وتضمينها الخطاب التعليميّ والتربويّ. ذلك أنّ التعلّم القسريّ والتعليم وقت الأزمات والطوارئ بات حالة مأسوف عليها للطلبة الفلسطينيّين، إذ ستحدّد الحرب فيما بعد مسارات التفكير العمليّاتيّة لهؤلاء الأطفال والطلبة، ببقاء تلك المصطلحات والمفاهيم عالقة في أذهانهم، وجزءًا من حياتهم اليوميّة، ليبنوا عليها تقييمات أكثر شموليّة، وتصبح لغة الخطاب مع العالم، لأنّ الحربّ بمصطلحاتها الكبيرة ستغيِّر شخصيّة الطلّاب الفلسطينيّين على الصعد كافّةً.
وعطفًا على ذلك، يبقى ميدان السؤال مفتوحًا وقائمًا في أذهان الطلبة الفلسطينيّين: لماذا يحصل هذا كلّه؟ ولماذا نحن بالتحديد ندفع الثمن دائمًا؟ لكنّ الأطفال والطلبة يجارون الواقع والظروف الصعبة المحيطة بهم، بفهم المصطلحات والمفاهيم ومعرفة دلالاتها وإدماجها في قاموسهم الذي يزداد غزارة بالسيميائيّة المفاهيميّة في كلّ يوم من أيّام الحرب.