كثيرًا ما نتساءل، نحن أساتذة مادة التاريخ، حول كيفيّة تدريس القضايا التاريخيّة ذات الأبعاد الأيديولوجيّة المتباينة داخل قاعة الصفّ، والتي قد تؤدّي إلى اختلافٍ في وجهات النظر، لدى المتعلّمين من جهة، وبينهم وبين أساتذة المادّة من جهةٍ أخرى. كما نتساءل حول إمكانيّة تبنّي استراتيجيّاتٍ تعليميّةٍ قائمةٍ على أبعادٍ ورؤًى مختلفةٍ في قراءة الروايات التاريخيّة، تبعًا لأهمّيّتها، أو لطريقة تقديمها الأحداثَ والشخصيّات التاريخيّة.
وفي هذا، يمكننا طرح الأسئلة الآتية:
إلى أيّ مدًى يمكننا الخوض في هذه التجربة؟ وما أهمّيّة دراسة التاريخ القائم على الجدل؟
ما الاستراتيجيّة التي يمكننا اعتمادها لتيسير آليّة العمل داخل قاعة الصفّ؟
ما التاريخ المثير للجدل؟
أطلق أهل اللغة مصطلح "جدل" مقابلًا للمصطلح اليوناني ديالكتيكا، أو "الديالكتيك". ويقال إنّه مشتقٌّ من كلمة "الديالوغ"، والتي تعني الحوار وتبادل الحجج بين طرفين دفاعًا عن وجهتَي نظرٍ مختلفتَين. ومن مفردة الديالكتيك اشتُقّ مفهومان فلسفيّان ذاع صيتهما، هما المادّيّة الديالكتيكيّة في دراسة قوانين الطبيعة، والمادّيّة التاريخيّة في دراسة المجتمع وتناقضاته وتحوّلاته. وفي التاريخ، كما في الحاضر، الكثير من القضايا والشخصيّات والأحداث والروايات المثيرة للجدل، وهناك العديد من الأمثلة عليها في كتبنا التاريخيّة وروايتها (مدن، 2024).
قد تُصنّف موضوعاتٌ عديدةٌ ضمن التاريخ الجدليّ، وذلك لما يمكن أن تتناوله من معلوماتٍ متناقضةٍ حول الرواية نفسها، أو ما يمكن أن تتضمّنه من معلوماتٍ حسّاسةٍ قد تنجم عنها إشكاليّاتٌ بين المتعلّمين، أو ما يرد فيها من سرديّات تتباين في مضامينها بين روايةٍ وأخرى، أو لما يمكن أن نستشفّه بين سطورها من الحقائق التي قد تحتاج إلى إعادة قراءةٍ وبحثٍ من منظورٍ جديد.
لماذا التاريخ الجدليّ؟
أستشهد، بدايةً، بقولٍ لماركس حول التاريخ الجدلي: "يصنع الناس تاريخهم، لكنّهم لا يصنعونه على هواهم. إنّهم لا يصنعونه في ظلّ ظروفٍ اختاروها بأنفسهم، بل في ظلّ ظروفٍ يواجهونها مباشرةً، وأُعطيت لهم، ونقلت إليهم من الماضي" (أندرواس، 2023). استوقفني هذا القول حول ماهيّة الحدث التاريخيّ وكيفيّة نقله، وإن كان ما يتمّ نقله هو ما حدث بالفعل، ما إذا كانت الروايات التي وصلت إلينا من خلال المؤرّخين والباحثين، وما جُمِعَ في الكتب الدراسيّة، قد حصل فعلًا.
إذًا، لماذا التاريخ القائم على الجدل أو المناظرة؟ وهل يمكننا الوصول به إلى نتائج علميّةٍ تُجيب عن تساؤلات المتعلّمين، وتستجيب لتطلّعاتهم المستقبليّة، بما يمكّنهم من بناء مفاهيمهم وآرائهم الخاصّة، بعيدًا عن أسلوب الإملاء والرواية الأحاديّة غير القابلة للشكّ؟ وهل يُتيح هذا التاريخ البحث والتقصّي وإعادة النظر في الحقائق من منظورٍ جديد؟
يقال إنّ التاريخ يعيد نفسه، وإنّ الأحداث تتكرّر. ونحن نرى أنّ التشابه، أو ربّما التطابق، بين أحداث الماضي والحاضر، وربّما المستقبل، يأتي من الثبات في طبيعة النفس البشريّة التي لم تتغيّر بتغيُّر الأزمنة. ولأنّ الرواية التاريخيّة هي الناجي الوحيد من طوفان التزييف، بقدر التزام المؤرّخ أو الباحث، وموضوعيّته، تبرز الحاجة إلى فهم علاقة الماضي بالحاضر. من هنا، جاء اهتمامنا بتسليط الضوء على مفهوم التاريخ القائم على الجدل في دراسة التاريخ، من أجل بناء المفاهيم لدى المعلّمين، بما يمكّنهم من إدارة النقاشات التاريخيّة، وخلق بيئةٍ تعليميّةٍ تشجّع على التفكير النقديّ والتحليل.
استراتيجيّة التعلّم من خلال التاريخ المثير للجدل داخل غرفة الصفّ
لتنفيذ وحدةٍ تعليميّةٍ قائمةٍ على المفهوم الجدليّ للتاريخ، ستُعتَمد الخطوات الآتية:
1. المرحلة التمهيديّة:
- اختيار موضوعٍ تاريخيٍّ يُتيح الجدل، مثال: هبوط الإنسان على القمر: وهمٌ أم حقيقة؟
- تقسيم الصفّ إلى مجموعاتٍ: ويُفضّل تقسيمه إلى مجموعتين، تضمّ كلٌّ منهما عشرة طلّاب لا أكثر، تعمل بشكلٍ منظّم. يُعطى كلٌّ منهم دورًا من بين الأدوار الآتية: الميسّر، والكاتب، والقارئ، وضابط الوقت، والأعضاء المشاركين في الحوار والمناظرة. تسمح هذه الطريقة بأن يكون لكلّ فردٍ في المجموعة دوره في النقاش وتقديم الحجج والأدلّة من الوثائق والكتب المتوفّرة.
- توزيع الوثائق حول الموضوع المثير للجدل الذي تمّ اختياره، على أن تتنوّع بين نصوصٍ تاريخيّةٍ، وصورٍ، ومقالاتٍ صحفيّةٍ، وغيرها.
- عرض السؤال على شاشةٍ أمام المتعلّمين، يُتبَع بعرض فيلمٍ وثائقيٍّ حول الموضوع، لا تتجاوز مدّته الخمس دقائق. بعد انتهاء الفيلم، يُطرح حوله بعض الأسئلة، ثمّ يُطلب إلى المتعلّمين قراءة الوثائق خلال عشر دقائق.
يناقش المتعلّمون ضمن الفريق الواحد، المعلومات الواردة في الوثائق والفيلم، بينما يقوم الميسّر بتنظيم العمل داخل الفريق، ويُكلّف الكاتب بتدوين الملاحظات المهمّة حول الموضوع. بعد ذلك يستعرض الأعضاء الأدلّة التي سيعتمدونها لإثبات حججهم أمام الفريق الآخر.
2. العروض التقديميّة:
ينتقل المتعلّمون إلى مرحلة العرض التقديميّ، والتي يقوم خلالها كلّ فريقٍ بعرض ما توصّل إليه من نتائج وأدلّةٍ داعمة، بعد مشاهدة الفيلم الوثائقيّ ودراسة الوثائق، ويُمنح كلّ فريقٍ خمس دقائق لهذه الغاية. تجدر الإشارة إلى أنّه يمكن للمتعلّمين استخدام وسائل التكنولوجيا المُتاحة في المدارس، لغايات العرض والوصول إلى معلوماتٍ إضافيّةٍ لم توفّرها الوثائق بين أيديهم.
بعد انتهاء العرض التقديميّ للفريقين، يطلب المعلّم منهما الجلوس في وضعيّة المواجهة، ثمّ يُعطى كلّ فريقٍ فرصة إعادة تنظيم أفكاره، وتقديم الحجج التي بنى عليها ما توصّل إليه من نتائج لإثبات فرضيّة: "هبوط الإنسان على القمر: وهمٌ أم حقيقة؟"
3. جلسة المواجهة من خلال المناظرة والنقاش:
تعتبر هذه المرحلة المحور الرئيس لبناء التفكير التاريخيّ القائم على الجدل والمناظرة لدى المتعلّمين. يقوم خلالها الفريقان بتسجيل الأفكار التي توصّلوا إليها من خلال البحث، مع تعزيزها بالأدلّة والبراهين، لينتقلوا لاحقًا إلى مرحلة النقاش والدفاع عن الفرضيّة التي تبنّوها، إمّا تأكيدًا أو نفيًا.
يحدّد المعلّم مدّة المناظرة بعشر دقائق، ويجلس الفريقان متواجهين. يبدأ الفريق الأوّل الذي يتبنّى الفرضيّة المؤكّدة هبوط الإنسان على سطح القمر، مُقدّمًا البراهين والأدلّة التي تثبت صحّة فرضيّته.
بعد انتهاء الفريق الأوّل، يقدّم الفريق الثاني ما لديه من أدلّة جمعها خلال عمليّة البحث والتقصّي، تنفي هبوط الإنسان على سطح القمر.
بعد عرض الأدلّة التي توصّل إليها كلٌّ من الفريقين، تبدأ المناظرة الفعليّة بينهما، ويحاول كلّ فريقٍ إثبات وجهة نظره والدفاع عنها. يقتصر دور المعلّم هنا على توجيه مجرى النقاش، بحيث لا تتحوّل المناظرة إلى خلافٍ بين أعضاء الفريقين، فيشيد بأفكارهم وبطريقتهم في طرحها، ويتبادل معهم النقاش للخروج بأفكارٍ جديدة. بهذه الطريقة يعزّز لديهم مفهوم التفكير التاريخيّ القائم على تعدّد وجهات النظر، بعيدًا عن الخلاف في الرأي، والانحياز إلى الرواية الأحاديّة للتاريخ.
4. مخرجات الحصّة والتقييم:
- يتقدّم المعلّم بالشكر إلى كلا الفريقين، ويثني على عملهما، وعلى المعلومات التي قدّماها خلال المناظرة، ويطلب إليهما تقديم ملخّص حول الاستنتاجات التي توصّلا إليها.
- يستعرض المعلّم أهمّ الأفكار التي طُرحت خلال الحصّة بشكلٍ مختصر.
- يقيّم المعلّم عمل المتعلّمين، ويضع علاماتٍ لكلٍّ من الفريقين، على أن يوزّعها بشكل منصفٍ بحيث تغطّي طريقة العرض، والأدلّة، والنقاش، وكتابة الاستنتاجات والملخّصات.
- يعطي المعلّم هذا الجزء مدّةً لا تتجاوز العشر دقائق.
5. إيجابيّات استراتيجيّة التاريخ الجدليّ:
- تطوير قدرة المتعلّمين على بناء منهجيّة البحث، ومهارات التقصّي والاستطلاع.
- تنمية مهارات التواصل والحوار القائم على احترام الرأي الآخر لدى المتعلّمين.
- تعزيز المهارات السلوكيّة لدى المتعلّمين، ومنها: النقد الذاتيّ التأمّليّ، والنقد العلميّ القائم على الحجج والأدلّة والبراهين، ومهارة الدفاع القائمة على البراهين والحقائق العلميّة.
- اكتساب المتعلّمين القدرة على مقاربة الروايات التاريخيّة، وكيفيّة قراءة الأدلّة، وصياغتها، والدفاع عنها، وصولًا إلى المهارات العليا في التفكير، ومن أهمّها: التحليل، وقراءة ما بين السطور، والصياغة، وإصدار الأحكام من خلال الأدلّة.
- إتقان استخدام وسائل التكنولوجيا عالية التقنيّة في البحث والاستطلاع.
6. محاذير استخدام استراتيجيّة التاريخ الجدليّ:
قد يواجه المعلّم داخل قاعة الصفّ بعض التحدّيات خلال اتّباعه استراتيجيّة التعلّم من خلال المناظرة، ومنها:
- التباين الكبير في وجهات النظر لدى المتعلّمين، والذي قد يؤدّي إلى بعض الفوضى، ولا سيّما في المواضيع الحسّاسة والمثيرة للجدل.
- قلّة اهتمام المتعلّمين بالموضوع لندرة المعلومات المتوفّرة حوله، أو لتضارب الروايات بين الباحثين.
أمام هذه التحدّيات، على المعلّم خلق مساحةٍ واسعةٍ من الحريّة للتعبير عن الرأي، ضمن ضوابط يضعها في بداية الحصّة، ويفرض على المتعلّمين اتّباعها، ومنها: رفع الأيدي قبل الحديث، والحصول على إذن بالكلام، والإنصات للرأي الآخر من دون مقاطعة، والتحدّث بصوتٍ مناسب، واحترام آراء الفريق الآخر، وعدم التشبّث بالرأي عند ثبوت خطئه، والعمل على بناء الحكم استنادًا إلى الأدلّة والبراهين.
يمكن للمعلّم أيضًا، أن يضع لوحةً جداريّةً بعنوان: "حريّة التعبير داخل الصفّ"، ويُتيح للمتعلّمين، بعد الانتهاء من النقاش وكتابة الاستنتاجات، فرصة كتابة آرائهم بحريّةٍ حول أفكارٍ لم يسمح وقت الحصّة بنقاشها، لتكون بمثابة موضوعاتٍ مقترحةٍ للنقاش في الحصص المقبلة، على أن يقوم المتعلّمون بالتحضير لها، إمّا فرقًا أو أفرادًا.
أخيرًا، لا بدّ من الإقرار بأنّنا في حاجةٍ إلى أنماطٍ تعليميّةٍ جديدةٍ تواكب التطوّرات التي نعيشها اليوم، في زمنٍ لم يعُد فيه المعلّم المصدر الوحيد للمعلومة، زمنٍ باتت فيه المعرفة في كلّ العلوم مُتاحةً أمام الأجيال. فما كنّا نعتقده بالأمس حقيقةً أكيدةً اتّفق عليها الباحثون، قد يصبح اليوم، مع الدراسات الجديدة، أمرًا قابلًا للشكّ والنقاش، ولا سيّما في الموضوعات الحسّاسة التي قد تحتمل الكثير من المغالطات، وتثير إشكالاتٍ تتطلّب منّا إعادة النظر، وتقبّل الآراء المتباينة. وهذا تحديدًا ما يُبقي الباب مفتوحًا أمام الباحثين والدارسين والمتعلّمين للبحث والتقصّي، وفقًا للمتغيّرات في المجتمع الإنسانيّ.
المراجع
- أندراوس، خليل، (2023). حول التطوّر التاريخي للفكر الجدليّ وملامح المستقبل. الاتّحاد للنشر الإلكتروني، متاح على: https://short:link.alitthad44.com/bfva .
- مدن، حسن، التاريخ المثير للجدل، موقع جريدة الخليج الإماراتيّة (9يونيو، 2024).