مقدّمة
يجمع معظم التربويّين على أنّ كلّ طالب يتعلّم بطريقة مختلفة عن غيره، إذ يحصّل الطلّاب المعارف وفق أساليب متباينة وفي مدّة زمنيّة متفاوتة فيما بينهم. وقد أشارت Tomlinson (2016 ،2017) إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار أنماط التعلّم ومستوى الاستعداد لدى الطلّاب قبل البدء بتصميم خطّة الدرس، ممّا يتطلّب استخدام مجموعة متنوّعة من الاستراتيجيّات التعليميّة، أو تقديم دروس بمستويات متفاوتة الصعوبة، بناءً على قدرة كلّ طالب.
كثر الحديث عن التمايز في الفترة الأخيرة بين التربويّين، ولكن لا توجد عصا سحريّة لإقناع المعلّمين بأهمّيّة التمايز في العمليّة التعليميّة، وإنّما يمكن إقناعهم في البداية بتلبية الاحتياجات الفرديّة للمتعلّمين، وذلك بإتاحة اختيارات متعدّدة أمامهم للحصول على المعلومات، وفهم الأفكار والتعبير عن التعلّم. فالتمايز هو تعديل خطّة الدرس بما يناسب احتياجات المتعلّمين المختلفة، وذلك يتطلّب خطوات محدّدة، تبدأ بتحديد الرغبة، وتمرّ بالممارسة، وتنتهي بتحصيل موضوع التعلّم، إذ يجب أن تكون المعارف والخبرات والمهارات التي يتعرّض لها المتعلّم مناسبة لبنائه الادراكيّ، وقادرة على تحفيز شعوره بأهميّة التعلّم كي يحدث بطريقة صحيحة.
عندما ندخل إلى غرفة الصفّ نرى مجموعة متجانسة من المتعلّمين من الناحية العمريّة، غير أنّ التجانس الظاهر يخفي تباينًا في باطنه، فنتعامل مع الظاهر ونغفل الباطن، لكنّ التعلّم المتمايز يتطلب منّا أن نبحث أكثر لنصل إلى المخفيّ الذي تكمن فيه الاختلافات بين المتعلّمين، من مثل استعداداتهم وخبراتهم وتوقّعاتهم واستجاباتهم وثقافتهم وبيئتهم المنزليّة وما يتحلّون به من ذكاءات متنوّعة.
نستند في هذا المقال إلى مقاربة Tomlinson (2016 ،2017) لتوضيح فلسفة التعليم المتمايز وأهميّته، ولتبيان الاختلافات بين المتعلّمين، في سبيل خلق طريقة تعلّم تناسب احتياجات الجميع واهتماماتهم، كما نعرض نماذج وتطبيقات يمكن الإفادة منها والبناء عليها.
مفهوم التعليم المتمايز وميزته
إنّنا نبحث في مدارسنا عن القواسم المشتركة بين الأطفال، ثمّ نبني على أساسها عمليّة التعليم، غير أنّ كلّ طفل هو عالم فريد بحدّ ذاته. تصف Tomlinson (2016 ،2017) التعليم المتمايز بأنّه إعادة تنظيم عمليّات الفهم والتعبير ومعالجة الأفكار، ضمن خطّة تعليميّة تهدف إلى وضع سيناريوهات مختلفة للموقف التعليميّ الواحد، تراعى فيها الاهتمامات والاستعدادات والخبرات وأنماط التعلّم والذكاءات المختلفة للمتعلّمين، وتضمن لهم الحريّة والمرونة، من أجل الوصول بهم إلى أقصى قدر ممكن من نواتج التعلّم المستهدفة.
من هنا نستطيع أن نميّز بين كلٍّ من التعليم العاديّ والتعليم الفرديّ والتعليم المتمايز، فالأوّل يقدّم فيه المعلّم مثيرًا واحدًا أو هدفًا واحدًا، ويكلّف جميع الطلّاب بنشاط واحد، ليحقّقوا المخرجات نفسها، وإذا أراد المعلّم أن يراعي الفروق الفرديّة، يقدّم المهمّة ذاتها للجميع، ولكنّه يقبل منهم مخرجات مختلفة. أمّا الثاني، أي التعليم الفرديّ، فيعتمد على تشخيص حالة الطلّاب الذين يواجهون صعوبة في التعلّم، فتوضع أهداف خاصّة لهم ويتمّ تجزئتها في خطّة فرديّة وفق جدول زمنيّ معيّن. هذا النوع من التعليم يكون ناجحًا مع من يعانون من صعوبات محدّدة ومشخّصة، ولكن لا يمكن تطبيقه على جميع الطلّاب، إذ من غير المعقول أن يعدّ كلّ معلّم خطّة فرديّة يوميّة لكلّ طالب داخل الصفّ، لأنّ ذلك ينهك المعلّم ويجعله غير قادر على أداء عمله.
أمّا التعليم المتمايز فيعدّ تعليمًا هادفًا، حيث تكون الأهداف التعليميّة واحدة لجميع الطلّاب خلال الحصّة الصفّيّة، ولكن يحرص فيه المعلّم على ضمان مشاركة جميع الطلّاب بأفكار فعّالة، ما يدفعه إلى تنويع المهمّات لطلّابه، فتكون المهمّة شاملة جميع الطلّاب، أو تخصّ مجموعات صغيرة منهم، وقد تكون مختصًّة بكلّ فرد على حدة. لذلك، يمكن وصف التعليم المتمايز بأنّه استباقيّ، بمعنى أنّه يدفع بالمعلّم إلى التركيز على البناء النوعيّ في عمليّة التعليم أكثر من البناء الكمّيّ. فعندما يعاني عدد من الطلّاب، مثلًا، بمختلف مستوياتهم، في بعض مهارات القراءة الأساسيّة، فلا يمكن تكليفهم جميعًا بالتعليمات نفسها لأداء المهمّة ذاتها. فالمعلّم يخطّط بناءً على ما يحتاجه الطلّاب في القراءة، فيفسح المجال للأكفّاء منهم لتنمية مهاراتهم بتوفيره الفرص لهم، في حين يساعد الطلّاب الذين ليس لديهم القدرة الكافية للقراءة بثقة، حيث تكون طرق مساعدة هؤلاء مختلفة عن طرق مساعدة من هم بحاجة إلى اكتساب مهارات القراءة اللازمة للنجاح، فيقدّم المعلّم مهمّات متنوّعة لطلّابه، بحسب اختلافاتهم، في سبيل الوصول إلى المخرجات نفسها. كما يكمن التعليم المتمايز في التقييم، فالمعلّم الذي ينتهج هذا النهج يكتسب نظرة ثاقبة لما يصلح لكلّ متعلّم، فيوفّر له الفرص التعليميّة المناسبة لاهتماماته وقدراته، ويكون قادرًا على تشخيص نقاط القوّة والضعف لدى طلّابه، ويخطّط بناءً عليها. من هذا المنطق، يعدّ التقييم في التعليم المتمايز بداية التعلّم لا نهايته، حيث يستخدم المعلّم المحادثات الفرديّة والنقاشات وأعمال الطلّاب ليجري تقييمات مستمرّة من أجل التعلّم.
عناصر التعليم المتمايز وأمثلة توضيحيّة
نفصّل الحديث هنا عن ثلاثة مجالات حدّدتها Tomlinson (2016 ،2017) للتعليم المتمايز، وهي: المحتوى والإجراءات والمخرجات.
المحتوى
هو مجموع المعارف والمهارات والمفاهيم والحقائق والمبادئ والاتجاهات التي تقدّم للمتعلّمين، من أجل إكسابهم النتاجات المرجوّة (Tomlinson، 2016، 2017). لكنّ معظم المعلّمين يواجهون مشكلة في ذلك، ولا سيّما أولئك الذين يعملون في الأنظمة التربويّة غير المرنة التي تلزمهم بإنهاء الكتب الدراسيّة المقرّرة والممتلئة بحشوٍ وتكرار ومعلومات تفصيليّة ترهق كاهل المتعلّم والمعلّم على حدّ سواء. لذلك، يمكن أن يكون التعليم المتمايز فرصة ثمينة للمعلّم، يبدع من خلالها بتوظيف المحتوى لعقد نشاطات ومهمّات مختلفة، وتكييفه وفق معرفته بمهارات المتعلّمين واستعداداتهم، وذلك وفق النقاط الآتية:
- اختيار المحتوى القابل للعرض بطرق متباينة.
- الوقت اللازم للتعلّم والمناسب لقدرات المتعلّمين.
- ضغط المحتوى أو إثراؤه، أي اختصار بعض المعلومات التفصيليّة الثانويّة، أو إثراؤها بنشاطات أكثر عمقًا وشموليّة لمن لديه معلومات سابقة عن الموضوع من الطلّاب.
- تقديم المحتوى وفق أشكال مختلفة، أي ألّا يكون المحتوى المقدّم لطلّاب واحدًا، أو يقدّم بطريقة واحدة، مثل الحديث عن مريض واحد وعلاج واحد، حيث يمكن للمعلّم أن يقدّم محتوى قصيدة معيّنة في أكثر من شكل، كتقديمها في مادّة مسجّلة بالصوت والصورة، أو بحقيبة تعليميّة، أو ببطاقة مهمّات.
الإجراءات
هي الطرق التي يتمّ من خلالها تعليم المحتوى، أي الخطوات والنشاطات التي تساعد المتعلّم على الوصول إلى فهم المحتوى، ويمكن التمايز بها من خلال:
- النشاطات المتدرّجة التي تدور حول المفهوم والمهارة والاختلاف المتّصل بمستوى الدعم المقدّم بحسب مستوى المتعلّم وسرعة تعلّمه.
- خليط من النشاطات الفرديّة والجماعيّة التي تتّسع فيها المجموعة أو تضيق وفق طبيعة النشاط.
تهدف هذه الإجراءات إلى تمكين المتعلّمين من مواجهة المواقف الجديدة بثقة، وتنمية الضبط الذاتيّ والاستقلال والشعور بالمسؤوليّة، فهم نقاط القوّة والضعف في الوقت نفسه، وتشجيع التعاون بين المتعلّمين. يمكن أن يوفّر المعلّم في الغرفة الصفيّة بعض الإجراءات المبنيّة على المحتوى، مثل توفير معلّم اللغة إجراء التأمّل أو القراءة أو المحادثة أو الاستماع، أو مثل توفير معلّم العلوم الفرصة للمتعلّمين لتطبيق المفاهيم وتجريبها، أو استخدام بعض المواد العلميّة والأدوات لحلّ بعض المشكلات أثناء عملهم بشكل فرديّ أو ضمن المجموعات. مثال ذلك أن يطلب المعلّم من المتعلّمين تنفيذ أحد النشاطات المرتبطة بالنباتات، إذ يمكن قياس نموّ نبات الذرة المزروع في حديقة المدرسة مثلًا، أو قياس النباتات ومقارنة طول المزروعة منها في الشمس بالمزروعة في الظلّ، كذلك يمكن رسم لوحة تبيّن مراحل نموّ النباتات.
المخرجات
عادةً ما تقاس مخرجات التعليم بالاختبارات، ممّا يشكّل عبئًا على المتعلّمين، إذ لا يكون التعلّم سوى اجترار لمعلومة ينساها المتعلّم بمرور الوقت، ويمكن إجراء التمايز في المخرجات التعليميّة وفق الآتي:
- تدريب الطلّاب على كتابة الأبحاث والتقارير، وتزويدهم بنماذج نوعيّة وبمعايير التقييم.
- عرض البيانات وتفسيرها.
- إجراء المقابلات.
- العروض التوضيحيّة.
يجب أن يكون تقييم المخرجات مستمرًّا، أي قبل عمليّة التعليم وأثنائها وبعدها، ومرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بتقديم تغذية راجعة فاعلة وفوريّة للمتعلّمين، كما يمكن تشجيعهم على اختيار طريقة التقييم بأنفسهم، مع عدم إلغاء التقييمات الكتابيّة (الاختبارات). يكون التقييم بذلك وسيلة للتعليم المتمايز ووسيلة للتقييم المتمايز، وليس هدفًا لقياس التعلّم فحسب.
من شأن التعليم المتمايز أن يحقّق تطوّرًا لدى الطلّاب والمعلّمين على حدّ سواء، إذ قد يعرف المعلّمون المزيد عن المحتوى الذي يدرسونه، فهم يتعلّمون باستمرار كيفيّة تعلّم الطلّاب والتعاون معهم لتعديل فرص التعلّم، حتى تكون فعّالة لكلّ طالب، إذ إنّ طريقة واحدة لتدريس الجميع لا تخدم التعلّم، فضلًا عن أنّ المعلّمين عندما ينتهجون التعليم المتمايز يدركون أنّه ليس استراتيجيّة يمكن تنفيذها من وقت لآخر، أو في وقت إضافيّ، وإنّما هو أسلوب حياة ينفّذ بشكل دائم في قاعة الصف.
استراتيجيّات التعليم المتمايز وتحدّيّاته
يمكن للمعلّم استخدام استراتيجيّات بسيطة ينفّذ من خلالها تعليمًا متمايزًا، ويبتعد بها عن الفوضى التي يمكن حصولها داخل غرفة الصف. نذكر من ذلك:
- المجموعات المرنة: تقوم على فكرة حريّة الانتقال بين المجموعات، بحثًا عن المجموعة التي تساعده على الفهم والانجاز.
- التكليفات متعدّدة المستويات: هي المهمّات التي تتباين درجة التحدّي فيها بحسب قدرات الطلّاب. فمعلّم اللّغات، مثلًا، بدلًا من تكليف جميع الطلّاب بحفظ قصيدة من ثلاثين بيتًا، وهي مهمّة يمكن أن تُصيب بعضهم بالإحباط، إذ يشعرون بأن لا فائدة من ورائها، قد يوظّف المعلّم المحتوى نفسه ضمن إجراءات معيّنة، مثل الأركان التعليميّة: ركن لتفسير الأبيات، وركن لتحويلها إلى مشاهد تمثيليّة ضمن دراسة تاريخ القصيدة، وكتابة رسالة إلى الشاعر توضّح سبب الإعجاب بالقصيدة، وغير ذلك من أركان يكون فيها مستوى التحدّي عالٍ، يمكّن المتعلّم من التحرّك فيها اعتمادًا على احتياجاته.
- مكّعب بلوم: هي استراتيجيّة مصمّمة لتجعل المتعلّمين يفكّرون بالتعلّم من عدّة زوايا، حيث يستغلّ المعلّم أوجه المكعّب الستّة، فيضع في كلّ وجه تكليفًا أو قضيّة معيّنة مرتبطة بمهارات بلوم، ممّا يحفّز المتعلّمين ويثير دافعيتهم نحو التعلّم.
- عقود التعلّم: هي عقود تُبرَم بين المعلّم والمتعلّم، وتوضّح المحتوى والإلزاميّة والطريقة والمسؤوليّة والأدوار وزمن الانتهاء والمؤشّرات وطرق التقييم.
يواجه المعلّمون بعض الصعوبات والتحدّيّات أثناء تطبيقهم استراتيجيّات التعليم المتمايز، والتي يمكن حصرها في نوعين من الصعوبات.
- صعوبات إداريّة تتمثّل في عدم اقتناع مديري المدارس وأولياء الأمور بهذا النهج.
- صعوبات فنيّة تتمثّل في الحاجة إلى جهد ووقت وخبرة ذات مستوى عال، من أجل تكييف المحتوى وإعداد النشاطات المتدرّجة.
يمكن التغلّب على هذه الصعوبات بتدريب المعلّمين على منهج التعليم المتمايز قبل الخدمة، وبإدراجه في برامج التربية العمليّة لإعداد المعلّمين وتأهيلهم، بدلًا من تدريبهم على استراتيجيّات فرديّة.
خاتمة
نستنتج ممّا سبق أنّ إمكانيّة تطبيق تعليم متمايز في المدارس يقتضي من المعلّمين توفير اختيارات متعدّدة لدى الطلّاب للحصول على المعلومات وفهم الأفكار، حيث يتطلّب التعليم المتمايز تعديل خطّة الدرس من أجل تلبية الاحتياجات الفريدة للمتعلّمين على اختلاف أصنافهم وقدراتهم، ذلك أنّ تحقّق التعلّم بالطريقة الصحيحة معلّق بمدى تناسب المعارف والخبرات والمهارات لبناء المتعلّم الإدراكيّ، وبمدى قدرتها على تحفيز شعوره بأهميّة التعلّم.
المراجع
Tomlinson, C. (2016). Understanding Differentiated Instruction. Quick Reference Guide.
Tomlinson, C. (2017). How to Differentiate Instruction in Academically Diverse Classrooms. Booktopia.