يرتبط مصطلح ثقافة المقاومة بالصراع ضدّ الاستعمار، إذ طوّرت الشعوب على مدار التاريخ ثقافتها الوطنيّة لتتحوّل إلى أداة فاعلة في مقاومة الاستعمار. ويمتلئ التاريخ الإنسانيّ بالأحداث التي أرّخت لهذه المقاومة، وإن اختلفت شكلًا، فظهرت إلى جانب المقاومة العسكريّة، المقاومة الثقافيّة، والسّياسيّة، والاقتصاديّة، والإعلاميّة. وتميّزت تجربة كلّ شعب من الشّعوب خاض غمار المقاومة، بأنّها تركّزت في مجال من مجالات العمل المقاوم. وفي ما خصّ الحالة الفلسطينيّة، اتّخذ شكل المقاومة المناحي كلّها، وطوّر الفلسطينيون ثقافتهم الوطنيّة لتكون ثقافة مقاومة تحمي وجودهم وتراثهم وهويّتهم وسيادتهم على هذه الأرض.
ثقافة المقاومة هي تراكم وموروث يتشكّل وينمو، كما الهُويّة الوطنيّة ضمن حواضن تاريخيّة، وتأثيرات معاصرة، تضطلع بدور في صوغها، وبلورتها، وصهرها ضـمن كيانٍ جامع للتراث والتاريخ والتربية والسلوك، بسلبهِ وإيجابه. وعن حالة الفلسطينيّين في الداخل، تضطلع ثقافة المقاومة بدور التصدّي لمشاريع الأسرلة التي تخترق الأطر التعليميّة بقرار سياسيّ، والحفاظ على هويّة الطالب الفلسطينيّ الذي يقع ضحيّةً لمشروع طمس هويّته وعزله عن قضايا شعبه. ولهذا، تبدو الحاجة ملحّة لتأسيس منهاج دراسيّ يجيب عن واقع الطالب الفلسطينيّ، أي عن هُويّته وانتمائه لأرضه وشعبه. منهاج دراسيّ يُحاكي معاناة الطالب في وجه المنظومة التربويّة الصهيونيّة التي تغيّب بالكامل الرواية الفلسطينيّة في مقابل استجلاب الرواية الصهيونيّة. وهنا، يجب التأكيد على أنّ سياسات التربية والتعليم هي جزء من السياسات الإسرائيليّة العامّة منذ النكبة تجاه الشعب الفلسطينيّ، وتشكّل امتدادًا لسياسة كمّ الأفواه ومحاصرة الفلسطينيّ بثقافته وهويّته.
دور المناهج الدراسيّة في التربية السياسيّة في المدارس
المنهاج الدراسيّ هو أداة التّربية والتّعليم لتحقيق الأهداف النابعة من فلسفة المجتمع وتوجّهاته للمستقبل. يدمج المنهاج الدراسيّ المدرسيّ الخبرات التربويّة، والمهنيّة، والتعليميّة، والاجتماعيّة، والثقافيّة، والعلميّة كلّها التي تشملها الكتب المدرسيّة، علاوة على النشاطات والفعاليّات التي تُنظّم لإكسابهم مهارات وأنماطًا من السلوك الاجتماعيّ.
تعدّ المناهج الدراسيّة إحدى الوسائل الرئيسة لغرس القيم الإنسانيّة في أذهان الأفراد، منها ربط الإنسان بأرضه، تاريخه، وقضايا شعبه. ويتجسّد ذلك بتزويد الطالب بالمعارف المتنوّعة التي لا يمكن إيصالها إلا من خلال مناهج معدَّة لهذه الغاية، والتي تكون غنيّة بالموضوعات والمضامين ذات المدلولات السياسيّة. وهذه الأخيرة تُتيح بدورها للطالب مساحة للثقافة السّياسيّة، وتاليًا تُنشّئ فيه روح الانتماء إلى الوطن، والقضيّة، وتعمل على تطوير مهاراته للوصول إلى مستوى المشاركة السياسيّة. بمعنى أنّ "التربية السياسيّة" إلى جانب المنهاج والأدوات الدراسيّة هي معادلة مهمّة في حمل الإرث الثقافيّ، لا بل إنّها توفّر للطالب مساحة خاصّة للتعبير عن معتقداته ومشاركة طموحاته. كلّ ذلك، يعزّز الانتماء الوطنيّ المتمسّك بأهمّيّة العمل السياسيّ بوصفه رافعة للشعب للنهوض به، والوقوف في وجه منظومة قامعة تأسّست من أجل محو كلّ ما يتعلّق بالهويّة والذاكرة الجمعيّة وإقصائهما.
منذ نكبة الشعب الفلسطيني، سعت "إسرائيل" بقرار سياسيّ وفعل استخباريّ إلى بناء منظومة تربويّة ترتكز على الرواية الصهيونيّة مستهدفةً الطالب الفلسطينيّ من خلال فرض مناهج دراسيّة ومعايير جديدة تنال منه، ومن انتمائه وهُويّته، وتعزله تمامًا عن شعبه. ترتكز هذه السياسة على ضرب الوعي لدى الطالب الفلسطينيّ، لِما للوعي السياسيّ من أهمّيّة في طبيعة علاقتنا بوصفنا شعبًا مع هذا الكيان.
دور المعلّم في ترسيخ ثقافة المقاومة
أمام هذه الممارسات الإسرائيليّة وسياسات استيطان العقل والأرض، تعترض المعلّم الفلسطينيّ تحدّيات كبيرة في ظلّ سياسات الملاحقة السياسيّة، والعمل اليوميّ في منهاج بعيد من الهويّة الفرديّة والجماعيّة التي نما عليها. لا بل قد يترتّب على ذلك ثمن نفسيّ كبير، خصوصًا أنّ المعلّم يعمل تحت ضغط الخوف والقلق وصراع هويّاتيّ كبير، حينذاك تُفرّغ العمليّة التربويّة من مضمونها، وتفقد ديناميّتها، وتنفصل عن الواقع الذي يعيشه الطالب والمعلّم.
برزت، أخيرًا، في النظريّات التربويّة العالميّة، أهمّيّة التربية السياسيّة كمفتاح أساس من أجل تنشئة جيل واعٍ قادر على التعبير في قضايا مهمّة يعيشها ويُعنى بها، ولكنّ سياسات التضييق الإسرائيليّة على المعلّم والمدارس تجعل المعلّم أعجز عن المساهمة في عمليّة التنشئة التربويّة الثقافيّة، وعن تنظيم ما يسمّى بـ "الصفوف السياسيّة" التي تصنّف على أنّها قادرة على التحليل والحديث عمّا يدور حولها من السياسة، وقد تكون حصص المدنيّات مثالًا على ذلك، حين يلتزم المعلّم منهاجًا يُغيّب كلّيًّا الرواية الفلسطينيّة ويثبّت الرواية الصهيونيّة، وتاليًا يُعمّق الفجوة بين المفهوم الديموقراطيّ وبين المفهوم الصهيونيّ، مضيفًا تعقيدًا في المساحات التي يمكن أن يوجدها المعلّم أمام الطالب في المدارس.
حول التغيير المنشود
تضطلع التربية السياسيّة والتنشئة الوطنيّة بدور بارز في مقاومة سياسة التجهيل والتدجين التي تمارس ضدّ المدارس الفلسطينيّة، وفي تحصين جيل كامل من عبث السياسات الإسرائيليّة ومنهاجها. وتحضر المقاومة الثقافيّة فعل نضالٍ يوميّ في المؤسّسات الفلسطينيّة التعليميّة، مع ضرورة تنظيمه وترشيده منهجيًّا كي يتقاطع مع المصالح الاستراتيجيّة للشعب الفلسطينيّ، والتي تخدم في الدرجة الأولى الوعي السياسيّ للطالب.
المطلوب اليوم بناء منظومة تعليميّة مقاوِمة تشمل المنهاج والمعلّم والطالب والمناخ التربويّ المدرسيّ. ولدورٍ مقاوم فاعل، لا بدّ من إعادة صوغ المنهاج بأيدٍ فلسطينيّة متحرّرة من قيود رُسمت بقرارات سياسيّة للنّيل من تثبيت رواية الشعب الفلسطينيّ، وتاليًا تمهيد الطريق إلى الحكم الذاتيّ الثقافيّ وفق رؤية تربويّة متكاملة مرفقةً بسياسات عامّة وأهداف ورسائل تسعى إلى تثبيت نهج جديد مغاير، وإلى النهوض بمدارسنا لمقاومة السياسات الإسرائيليّة في النيل منها ومن مكانتها. وتعي هذه الإدارة جيّدًا أهمّيّة العمل على منهاج يحاكي طلّابنا وتاريخ شعبهم، وتتمثّل الخطوة الأولى بتنظيم أنفسنا، معلّمين وطلّابًا وأهالي، نظرًا إلى الأهمّيّة الكبرى المنوطة بمجالس الطلّاب ولجنة أولياء الأمور في النضال حتى تحرير مدارسنا وطلّابنا ومعلّمينا.
وفي ما يخصّ إعداد المعلّم، من الأهمّية بمكانٍ ربط تدريب المعلّم بالبيئة الفلسطينيّة، وترسيخ حضور الرواية الفلسطينيّة في ذهنه، والسعي إلى بناء مشروع تربويّ تحرّري قوامه التربية السياسيّة، لِما لذلك من أهمّيّة في عمليّة المقاومة.
يحتاج النضال التربويّ السياسيّ، وهو جزء من النضال الفلسطينيّ العامّ، إلى دراسةٍ ومراكمةٍ لتأسيس مشروع تربويّ ثقافيّ يُحاكي طلّابنا، وهذا يستلزم وجود مرجعيّة تربويّة ثقافيّة تدعم دور الطلّاب في عمليّة التربية والتنشئة وتعزّزه. وساهمت المبادرات في السنوات الأخيرة عبر تنظيم المنتديات التربويّة المتخصّصة، بإحداث نقلة نوعيّة في العمل التربويّ، وفي تعاطي المعلّمين مع القضايا السياسيّة، وفي تعزيز النضال والسعي نحو إحداث التغيير، بإرساء استراتيجيّة واضحة المعالم ذات أُسس جماعيّة وطنيّة.
خلاصة
تعبث "إسرائيل" يوميًّا بحياة شبابنا من خلال مشاريع أسرلة كبيرة تُحيكها للنيل من دورهم وهوّيتهم ووعيهم، لكونهم عِماد المجتمع والوطن، وفق مُخطّط يسعى إلى تغييب أدنى مقوّمات العيش لهؤلاء الشباب، وتهميشهم، وسلبهم أيّ أمل في غدٍ مشرق. كلّ هذا ينعكس انحطاطًا على المستوى الشخصيّ والفكريّ، واستفحالًا للعنف والجريمة في أوساط المجتمع، وتاليًا زرع الفوضى وانعدام أيّ مشروع سياسيّ يحصّن الشعب. من هنا، تضطلع التربية السياسيّة بدور فاعل في مقاومة هذا المخطّط، إلى جانب التغيير البنيويّ في نهج المدارس، ما قد يساعد في تعزيز الانتماء والهويّة الجمعيّة التي تعطي الدافعيّة والحصانة المجتمعيّة تجاه مشاريع الأسرلة كلّها.