المقدّمة
كثيرًا ما نُصدم بإجابات من الطلّاب محصورةٍ بالكتب، مرتكزةٍ على المنقول من المناهج، لا تتجاوز الأفكار التي اعتدنا أن نقولها ونسمعها في مؤسّساتنا ومجتمعاتنا، وكثيرًا ما نُصاب بالإحباط عندما يعجز طلّابنا عن إبداع فكرة جديدة، أو عن التفكير في معلومة خارج نطاق منظومتنا الفكريّة أو التربويّة. والغريب في الأمر هو صدمة المعلّم وإحباطه، لا عجز الطالب عن التفكير العميق والإبداع العريق؛ إذ لا سبيل إلى استخراج الأفكار النيّرة من الطالب، إلّا بمنحه أدوات التفكير الحرّ والتفكير الناقد، وبتعليمه كيفيّة التفكير بدلًا من منحه المعارف الجاهزة المفكّر فيها قبلًا. الطريق إلى التفكير الحرّ والتفكير الناقد يمرّ عبر استخدام العقل استخدامًا منطقيًّا، وعبر التفلسف الذي غُيّب في منظوماتنا التربويّة الحديثة.
تراجع دور الفلسفة في المناهج التربويّة والطرائق التعليميّة في الدول العربيّة حَسَب رأي كثير من المشتغلين في مجال التربية، حيث ألغي تدريسها في كثير من المؤسّسات التربويّة، وحصرت وظيفتها، أو جرى تقليص قيمتها الفكريّة في مؤسّسات تربويّة أخرى. وقد يسأل بعضنا: ما الحاجة إلى الفلسفة في عصر وصل فيه التطوّر العلميّ ذروته، طالما نعيش في مجتمع يحكمه الذكاء التقنيّ؟ وماذا يضير التربية المدرسيّة والاجتماعيّة، إذا ما استبعدت النظريّات الفلسفيّة، وأقوال الفلاسفة، ومنهج التفلسف؟ نجد الإجابة أبسط من السؤال نفسه، وهي تتلخّص في أنّ المجتمع يكون إنسانيًّا حين يحكمه عقل الإنسان لا التقنيّة الذكيّة، والتربية -في حقيقتها- تفقد ماهيّتها وجزءًا من غايتها بتغييب الفلسفة عنها.
حقيقة التربية وواقعها العربيّ
قد يكون البحث في حقيقة التربية أعقد من البحث في حقيقة الفلسفة، وذلك ليس لأنّ التربية التبست -مثل الفلسفة- بعدد من المفاهيم المختلفة المتناقضة فقط، بل وأظهرت بمظهر يدخل إليها ما ليس منها، ويخرج منها ما يكمن فيها. حوّت الفلسفة في مختلف عصورها وظيفة النقد، ومنهج التساؤل عن الأسباب والغايات، ذاك المنهج الذي من شأنه أن ينجب إنسانًا حرًّا في تفكيره يعي لماذائيّة المعارف التي يستقبلها، ولا شكّ أنّ الفلسفة اتّخذت في عصورها الأخيرة حيّزًا واقعيًّا، ووظيفةً عمليّةً، وأصبحت تعنى بالمجتمع الإنسانيّ أكثر من الأفكار النظريّة الميتافيزيقيّة، الأمر الذي يجعلها أكثر أهمّيّةً من ذي قبل ويدفعنا إلى الاهتمام بها منهجًا فكريًّا منطقيًّا نقديًّا تنويريًّا يعيننا على إصلاح مجتمعنا وتغيير واقعنا.
بعيدًا عن الاختلافات والخلافات حول تعريفها، لنفرض أنّ التربية _في أصلها_ هي تهذيب نفس الإنسان، وتنميته جسديًّا وفكريًّا وشعوريًّا، وتزويده بالمعارف والخبرات اللازمة ليكون فاعلًا في حياته ومجتمعه، وليحقّق شيئًا نافعًا في وجوده. إنّها بذلك تلازم حقيقة الفلسفة بمعناها الحديث، وبمنهجها الناقد. إنّ التربية والفلسفة وجهان لعملة واحدة يتسبّب استلاب أحدهما باستلاب الآخر، إذ دون الفلسفة تفتقر التربية إلى التوجيه الواعي، ودون التربية تفتقر الفلسفة إلى التطبيق العمليّ، وتصبح بهذا الافتقار التطبيقيّ عديمة الجدوى. الفلسفة تربية نظريّة، أو نظريّة تربويّة، والتربية تطبيق فلسفيّ، أو فلسفة تطبيقيّة، وما تؤسّسه الفلسفة من أفكار تنفّذه التربية بالأعمال. وأيًّا تكن العلاقة بينهما، إذا عدنا إلى حقيقة التربية المتضمّنة المعارف والخبرات التي تنمّي صاحبها وتجعله فاعلًا في مجتمعه، نسأل أنفسنا: ما طبيعة المعارف والخبرات التي يكتسبها المتعلّم في المؤسّسات التربويّة التعليميّة عندنا؟
لعلّ الجواب كامن في سلسلة النقل المعرفيّ، إذ إنّ المعلّم ينقل لطلّابه كثيرًا من الأفكار الأيديولوجيّة التي تتبنّاها المؤسّسة التربويّة التعليميّة التي يعمل فيها، وهذه المؤسّسة بدورها تنقل ضمن مناهجها وبرامجها وخططها وأهدافها ورؤاها كثيرًا من الأفكار الأيديولوجيّة السائدة لدى السلطات السياسيّة أو لدى فئة في المجتمع. إنّ المؤسّسات التربويّة التعليميّة غدت خاضعةً لأيديولوجيّة سياسيّة اجتماعيّة، وعلى المعلّم الذي يريد أن يمارس رسالته ووظيفته، في هذه المؤسّسة أو تلك، أن يكون تابعًا لأيديولوجيّتها، مؤمنًا بها، ساعيًا إلى تكريسها، أو على الأقلّ أن يكون منافقًا في تبنّيها ظاهرًا.
عندما يولد الإنسان يكون في حالة جهل، ويكون عقله خاليًا من أيّ معرفة ومن أيّ خبرة، والمعارف كلّها التي يتلقّاها في بداية عهده بالحياة تكون مقرونةً بضعف حواسّه وبقدرته المحدودة، وهكذا تستند معارفه في السنين الأولى إلى سلطة المربّين والمعلّمين. وهنا تبدأ التربية المؤدلجة، وتنطلق عمليّة النقل المعرفيّ من عقل المعلّم إلى عقل المتعلّم، ولذلك يكون عقل هذا الأخير مشحونًا بالأفكار القبليّة قبل أن يتسنّى له أن يستعمل عقله استعمالًا حرًّا حين تتوفّر له شروط استعماله. يزدحم عقل الإنسان منذ أيّامه الأولى بالأفكار الأيديولوجيّة السائدة في مجتمعه وفي مدرسته، وبدل أن تربّي المدرسة فيه قدرة التفكير الحرّ والناقد، تربّي فيه قابليّة السمع والطاعة لمبادئها الفكريّة، وعندما ينضج عقل الإنسان، ويصبح قادرًا على أن يفكّر تفكيرًا عميقًا بقضايا الوجود، وأن يبدع بعقله أفكارًا أصيلةً، يجد عقله محشوًّا بالفكر الأيديولوجيّ الذي نال تربيته كلّها في ظلاله، الأمر الذي يجعل تفكيره دائمًا يدور في دائرة هذا الفكر.
يؤثر ذلك كلّه في الأساليب التي ينتهجها المتعلّم لنيل المعارف والخبرات، فبعد أن يكتسب مهارة التلقّي السلبيّ للمعلومات يصبح بارعًا في استقبال المعارف استقبالًا ببغائيًّا دون أن يفكّر فيها بعقله الحرّ، ودون أن يقيّمها ويمحّصها، ودون أن يبحث عن مصدرها، ويقارنها، وينقدها، ويكشف ما لها وما عليها. وقد سهّلت الوسائل التقنيّة الحديثة عمليّة التهجين المعرفيّ، إذ غدا الطالب جاهزًا لأن يقتنع مباشرةً بأيّة معلومة يقرأ عنها في صفحات الإنترنت، فيسلّم بها حقيقةً مطلقةً، ويدوّنها وينشرها ويستشهد بها في أبحاثه.
يؤدّي ذلك إلى غلبة الخطاب النظريّ العاطفيّ على العروض المنهجيّة والعلميّة والفكريّة التي يقدّمها الطالب، كما يؤدّي إلى نتاجات كتابيّة تفتقر إلى التحليل العميق، وتملؤها عبارات سطحيّة ساذجة تكرّر الأفكار المكرّرة بصياغات لغويّة مختلفة. وما تلعثم الطالب عندما يُوجّه إليه سؤال غير مباشر، أو عجزه عن التفكير خارج الصندوق، والإتيان بحلّ لمشكلة تعترضه يزيغ به عن طريقة المعلّم أو أسلوب التفكير لدى الأهل، إلّا نتيجة رضوخه إلى طرائق الآخرين في التفكير، وفي صياغة الحلول. عندما يلزم الأهل أبناءهم بمنهج فكريّ معيّن، ويلزم المعلّمون طلّابهم بأسلوب تحليليّ محدّد، تنمو عقول الأبناء والطلّاب نموًّا مبرمجًا مقيّدًا بالطرائق، والأساليب التفكيريّة التي نشؤوا في ظلّها.
وبعد، كيف يتوقّع المعلّم الذي حدّ عقول طلّابه بمنهجه الفكريّ القديم أن يبدعوا في تحليلهم، وأن يتجاوزا بإجاباتهم وحلولهم المشكلات الواقعيّة المستجدّة؟ فطالما أنّ الطالب ما اعتاد أن يفكّر بعقله هو، ولم يسبق له أنّ مُنح الحرّيّة المطلقة لأن يفكّر، وظلّ خاضعًا لسلطة المجتمع أو المؤسّسة أو التقنيّة التي تستبدل التبعيّة العقليّة العمياء للفكر القبليّ السائد مكان التفكير الحرّ والناقد، سيبقى سجين فكر معلّمه، أو مدرسته، أو أسرته، أو مجتمعه. وما ذاك الفكر الحرّ الذي لا يحظى به الطالب العربيّ عامّةً سوى الفلسفة المغيّبة في منظوماتنا التربويّة، إذ بسبب كون الفلسفة تربّي في المتعلّم التفكير الحرّ، وتعلّمه أن يحكّم عقله بدل عواطفه فيما يستقبل من معارف، سعت المؤسّسات التربويّة في معظم المجتمعات العربيّة إلى أدلَجَة الفكر الفلسفيّ ومنهَجَته، أو إلى الحدّ منه وصولًا إلى إلغائه.
الفلسفة بين تغييبين تربويّين
يدفع العمق الفكريّ الذي تحويه الفلسفة بكثير من السلطات السياسيّة في الدول العربيّة اليوم إلى التدخّل في قضيّة تعليم الفلسفة في المؤسّسات التربويّة، وإلى السعي إلى الحدّ من تعليمها خوفًا منها، وممّا يمكن أن تؤدّيَ إليه من توعية اجتماعيّة، وانفتاح على قضايا لا ترغب السلطات في أن يفهمها العامّة، لأنّ ذلك يؤثّر في سياسة البلد بأكمله. ومردّ ذلك إلى أنّ فعل التفلسف يقترن بالتمرّد المطلق على القضايا المزروعة بوصفها فكرًا إيديولوجيًّا في عقول الناس، وإلى أنّ الفلسفة تقلق الراحة الفكريّة للإنسان. لذلك ترى بعض السلطات السياسيّة في الفلسفة عنصرًا مخرّبًا للمجتمع، وأداة إفساد لأيديولوجيّتها الفكريّة، فيخشى القادة والزعماء من الحوارات الفلسفيّة ومن تعليم الفلسفة. ذلك أنّ الفلسفة متى انتشرت في المجتمع، ومتى أصبح أفراده قادرين على استخدام فكرهم الحرّ، تزعزعت الإيديولوجيّة وانحسرت سلطتها الفكريّة على الصعيد السياسيّ والتربويّ، لأنّ الفلسفة تؤدّي بالضرورة إلى رفض كلّ إيديولوجيّة تضع حدًّا للتفكير الإنسانيّ الحرّ.
في مثل هذه الدول الساعية إلى التخلّص من الفكر الفلسفيّ في المدرسة والمجتمع، تتكرّر الدعوة إلى إلغاء مادّة الفلسفة كلّ سنة، ويكثر تذمّر الطلّاب من موضوعات هذه المادّة، وينتشر تساؤل الأهل عن جدوى المعلومات الفلسفيّة التي يدرسها أبناؤهم، ويصدح صوت أساتذة العلوم بالطعن في قيمة الفلسفة، ويعمّ الضجيج في وزارات التربية والتعليم حول إعادة النظر في حذف محور أو دروس، أو في القضاء التامّ على "وباء الفلسفة الذي ينهش عقول التلاميذ ويسبّب لهم اليأس والإحباط"! ولكن، هلّا سألنا أنفسنا: لماذا الفلسفة بالذات؟ لِم تُوجّه أصابع الاتّهام إلى هذه المادّة خاصّةً؟ لماذا ترك الطلّاب والأهل وأساتذة العلوم والمعنيّون في وزارات التربية كلّ المصائب والفجوات المتراكمة منذ أن تخرج جدّ جدّي من المدرسة الابتدائيّة، وراحوا يلقون اللوم على مادّة الفلسفة؟
ما من ريب في أنّ سبب الهجوم واضح وضوح الشمس في الظهيرة، فالهجوم الشرس على الفلسفة ليس جديدًا، إذ تجد الفكر الفلسفيّ مهاجَمًا منذ العصور القديمة، لأنّه الفكر القادر على أن ينجب شعبًا واعيًا، وليس من مصلحة أنظمة الحكم أن تحكم شعوبًا واعيةً لا تقبل كلّ ما يعرض عليها، ولا تتبع غيرها تبعيّةً عمياء خرساء. نعم، هوجم فكر سقراط وأفلاطون وأرسطو في العصر القديم في المجتمع اليونانيّ، وحرّمت الدولة قراءة كتب الفلسفة في العصور الوسطى، وما كان للحضارة العربيّة أن تصل إلى ذروتها لولا الفكر الفلسفيّ العقلانيّ، ولم تسقط هذه الحضارة إلّا بتخلّيها عن العقل، وبتكفيرها الفلاسفة، ولم تنهض أوروبا من العدم، ولم تولد من الظلام، ولم تتخلّص من الجهل، إلّا بإعادة تداول منطق أرسطو، وفكر توما الإكوينيّ، وفلسفة ابن رشد، ولم تزل حضارة الغرب قائمةً، ما دام فيها فلاسفة أحرار يمارسون نقد النظرة التقنيّة المحضة، ونقد المجتمع الغربيّ المادّيّ.
إنّ الحريص على فكر الطلّاب في المدارس يدعو إلى تخليص مادّة الفلسفة من الشوائب التي اعترتها في المناهج المحشوّة بالأفكار العدميّة، وبالإشكاليّات الكاذبة، وبالمغالطات الفارغة، وبالنظريّات المتناقضة، والعمل على استبدال ذلك بتعليم الطلّاب كيفيّة التفلسف، والتحاور، والمناقشة، والبحث، والتحليل، والنقد، والتقييم. إنّ تعليم الفلسفة تعليمًا حقًّا قائمًا على الفكر النقديّ الحرّ من شأنه أن يحرّر الإنسان من قيود التبعيّة، والهمجيّة، والعنصريّة، والطائفيّة، ومن شأنه أن يشحن فيه طاقة الإبداع، والإصلاح، والتغيير.
مقابل الدول التي ألغت تدريس الفلسفة أو السائرة على طريق الإلغاء، ثمّة دول أخرى تحاول أن تحوّل الفكر الفلسفيّ مادّةً تعليميّةً مؤدلجةً، ممّا يؤدّي إلى تراجع قيمة الفلسفة، وإلى ضياع دورها الفكريّ الحقيقيّ في المجتمع. سعت بعض السلطات السياسيّة التربويّة الإيديولوجيّة _لا سيّما في الدول العربيّة_ إلى حصر الفلسفة في البيداغوجيا لتبقى خاضعةً لضوابط المؤسّسات التربويّة التي تستمدّ فكرها من إيديولوجيّة السلطة. هذا ما أدّى سابقًا في أوروبا إلى احتجاج بعض منتجي الخطاب الفلسفيّ، ومستهلكيه من أساتذة، وتلاميذ، ومثقّفين على الخضوع لكلّ أساليب المراقبة، والضبط المفروضة إكراهًا للحفاظ على شروط القهر المؤسّسيّ، وفي سبيل صون أيديولوجيّة المؤسّسات. نتيجةً لمثل ذلك قُدحت شرارة انتفاضة أيّار سنة 1968 في فرنسا لتكون ثورةً فكريّةً اجتماعيّةً تربويّةً ضدّ المؤسّسة، لأنّ حصر الفلسفة في المؤسّسات التربويّة الخاضعة بدورها لأيديولوجيّة السلطة السياسيّة من شأنه أن يشكّل بدايات موت الفلسفة في مجتمع ما، أو على الأقلّ أن يؤدّي إلى إفراغها من أيّ فائدة فكريّة نقديّة إصلاحيّة تنويريّة اجتماعيّة.
الخاتمة
إذا أردنا إعادة الفلسفة إلى الحياة الاجتماعيّة والمدرسيّة مرّةً أخرى لتكتسب دورًا ووظيفةً، فلا بدّ من جعلها تربيةً بالمعنى الواسع للكلمة. السبيل الوحيد إلى إعادة إحياء الفلسفة في المجتمعات العربيّة، والإفادة منها في صناعة الحضارة يكمن في تحويلها تربيةً، ولا يعني ذلك تعليمها في المدارس، بل توظيف فكرها العميق، ووظيفتها النقديّة لبناء الإنسان، وتنمية عقله، ونفسه، وجسده، وإعانته على اكتشاف ذاته والعالم، ليكتسب خبرات حياتيّةً، وكيانًا وجوديًّا. إذا ما أردنا من طلّابنا أن يفكّروا خارج صناديق النصوص، والكتب، والمناهج الدراسيّة، وأن يبدعوا أفكارًا جديدةً، وأن يسلكوا طريق المنطق في تلقّيهم المعارف، وفي البحث عنها، وفي تحليلها وتناولها، فلنعلّمهم كيف يتفلسفون وكيف يفكّرون تفكيرًا تجاوزيًّا.