رحلة البحث عن تعريف الـ"Well-being of the teacher"
"رفاهية المعلّم تشير إلى الحالة العامّة للراحة والسعادة والرضا التي يشعر بها المعلّمون في حياتهم المهنيّة والشخصيّة. تتضمّن هذه الرفاهية الجوانب الجسديّة والعقليّة والعاطفيّة. بالإضافة إلى البيئة الداعمة والمحفِّزة في مكان العمل، والتي تمكِّن المعلّمين من
رحلة البحث عن تعريف الـ"Well-being of the teacher"
"رفاهية المعلّم تشير إلى الحالة العامّة للراحة والسعادة والرضا التي يشعر بها المعلّمون في حياتهم المهنيّة والشخصيّة. تتضمّن هذه الرفاهية الجوانب الجسديّة والعقليّة والعاطفيّة. بالإضافة إلى البيئة الداعمة والمحفِّزة في مكان العمل، والتي تمكِّن المعلّمين من
علي عز الدين | مستشار ومدرب تربوي-لبنان

لا أعرف كيف أبدأ هذه المقالة، فالموضوع مهمّ، ولكن لا أجد الكلمات المناسبة. لذلك، جاء العنوان مزيجًا بين اللغة العربيّة والإنجليزيّة.  

طلبت المساعدة بأدب من Chat GPT، وسألته:   

“Please, translate well-being of the teacher to Arabic and define it” 

وها هي الإجابة:   

"رفاهية المعلّم تشير إلى الحالة العامّة للراحة والسعادة والرضا التي يشعر بها المعلّمون في حياتهم المهنيّة والشخصيّة. تتضمّن هذه الرفاهية الجوانب الجسديّة والعقليّة والعاطفيّة. بالإضافة إلى البيئة الداعمة والمحفِّزة في مكان العمل، والتي تمكِّن المعلّمين من أداء مهمّاتهم بفعّالية، والشعور بالرضا والإنجاز". 

طلبت كذلك من Google ترجمة الكلمة، وجاءت الترجمة كالآتي: رفاه، ورفاهية، وسعادة، وخير، وصالح. لم أكتفِ بهذا، بل تابعت البحث، فاللغة العربيّة ككلّ اللغات، من الصعب في بعض الأحيان أن ندخِل عليها مصطلحات جديدة. قرّرت مراجعة معايير البكالوريا الدوليّة وممارساتها Programme standards and practices لسنة 2020، فهي تشدّد على هذا المفهوم، والمفاجأة كانت استخدام كلمة "سلامة" لترجمته.  

5

 

لم أستسلم، فهيئة المعرفة والتنمية البشريّة في دبي (KHDA) سنة 2020، تولي هذا الموضوع أهمّيّة قصوى في زيارات تقييم المدارس، ونشرت إطارًا توجيهيًّا عنه سنة 2022. هذا الإطار لم يستخدم أيًّا من هذه المصطلحات السابقة، بل استخدم كلمة "جودة الحياة" لتعريف “Teacher Well-being”. 

 

"يعبِّر مفهوم جودة الحياة عن منظور شامل ومتكامل لحياة الأفراد والمجتمعات، ويغطّي العديد من الجوانب المهمّة للفرد والمجتمع، وفي مختلف قطاعات الحياة ومجالاتها. وتشير جودة الحياة على المستوى الفرديّ إلى تحلّي الفرد بنظرة إيجابيّة شخصيّة مستدامة عن حياته، والتي تسهِم في تحفيز قدرته وتحسينها على التقدّم والازدهار في حياته".  

 

2

 

أمّا منظّمة التعاون والتنمية الاقتصاديّة (OECD)، فاستخدمت 11 معيارًا لتعريف هذا المفهوم؛ منها الحالة الصحّيّة، والتربية، والروابط الاجتماعيّة، والمدخول المادّيّ، والسكن... سأكتفي بهذا القدر من النظريّات وأنتقل إلى أرض الواقع.  

 

أدخل إلى بعض المدارس في الدول العربيّة لأقدِّم الاستشارات والتدريب، وأجد نفسي أمام المعضلات الآتية التي تختلف من مدرسة إلى أخرى:

في المدارس الدوليّة في منطقة الخليج 

1. تقدِّم نوعين من العقود؛ العقود المحلّيّة التي تقدِّم للمدرِّس الراتب، والعقود الدوليّة التي تقدِّم، بالإضافة إلى الراتب، السكن والتأمين الصحّيّ وتدريس الأولاد مجّانًا وتذاكر سفر. تسمع المدرِّس ذا العقد المحلّيّ يردِّد باستمرار: "المدرِّس الأوروبيّ، والأميركيّ، والكنديّ أو الأستراليّ يحصل على أجر أعلى وعلى سكن، أمّا أنا فلا". وتجد مدرِّسًا آخر يردّد "أسكن في منطقة بعيدة عن المدرسة بسبب الإيجارات المرتفعة، فأحضر باكرًا إلى المدرسة عند الساعة السادسة صباحًا، ويجب أن أغادر فور انتهاء الدوام المدرسيّ كي أتفادى زحمة السير الخانقة عند طريق العودة".   

2. "أدرِّس من الصفّ الأوّل إلى الصفّ الخامس كلّ الطلّاب العرب اللغة العربيّة، أنا المدرِّس الوحيد في هذا القسم". وقد يواجه المدرِّس تلك المشكلة بسبب أعداد الطلّاب العرب القليلة، ويزيد عدمُ توفير الدعم والمساعدة من إحباطه، فعليه تحضير خمسة مناهج بطريقة إبداعيّة ومتمايزة، ولا يستطيع مدرِّس واحد القيام بكلّ ذلك بمفرده.   

3. "أنا مدرِّس التربية الإسلاميّة الوحيد في المدرسة، أدرِّس المراحل كلّها؛ عندي ثلاثون حصّة ومراقبة خلال الاستراحة، وأقدِّم نشاطًا إضافيًّا بعد الدوام". وها هي مشكلة جديدة تضاف، تتعلّق بجداول المدرِّس الأسبوعيّة، وقد تظهِر الكثير من عدم المساواة بين المدرّسين والأقسام.  

 

في المدارس الحكوميّة في الوطن العربيّ 

1. كتبت لي مدرِّسة من الجزائر تقول لي: "أنا أرغب بتطبيق الاستراتيجيّات التي تشاركها. ولكن، في الصفّ أربعون طالبًا، لا نستطيع أن نتحرّك!" يواجه عدد كبير من المدرّسين أعدادًا هائلة من الطلّاب داخل الفصول، في مساحات ضيّقة؛ ممّا يشكِّل عائقًا في عمليّة التعلّم والتعليم، ويطال الراحة الجسديّة والنفسيّة التي يتطلّبها المعلّم.  

2. "أنا معلّمة لغة عربيّة، عندي أربعة طلّاب حالتهم خاصّة مع معلّمات ظلّ (shadow teachers)، والمعلّمات لا يتقنّ العربيّة أو لا يعرفنَ كيف يتعاملنَ معهم". أشعر بالحزن عند سماع تلك التعليقات التي ترتبط بقسم الدمج الذي يزيد من الصعوبات داخل الصفوف، ويصبح الدمج شعارًا لا يطبّق منه شيء على أرض الواقع.   

3. لا ننسى مشكلة المصادر المحدودة جدًّا في هذه المدارس، وغياب الأدوات الحديثة لتعليم التكنولوجيا والبرمجة أحيانًا، والتي تتغنّى بها المدارس ذات الميزانيّات الضخمة. فالأندية والنشاطات اللاصفيّة التي يحرم منها بعض الطلّاب، جزء رئيس لتطوير شخصيّتهم.   

 

في المدارس اللبنانيّة 

شكّل انهيار العملة صدمة كبيرة لجميع العاملين في القطاع التربويّ في لبنان؛ ممّا أدّى إلى هروب المدرّسين لإيجاد فرص عمل خارج الوطن، أو للعمل صباحًا في المدرسة، وعصرًا في أندية خاصّة لتأمين حياة كريمة. قد تكون هذه الفرص متوفّرة لجيل الشباب، ولكن يقع مَن أصبح في سنّ التقاعد في مأزق صعب.   

كما تلاحظون، تعدّدت المشكلات التي تؤثِّر كثيرًا في إنتاجيّة المعلّم وفعّاليّته، ولكنّ الحلول موجودة، بعضها قد يطول أعماق المشكلة ويساعد على حلّ جذريّ، وبعضها سطحيّ وللاستعراض.  

 

من المشكلات إلى الحلول  

لن أتحدّث عن المشكلات فقط، فنحن بهذه المقالات نحاول تقديم الحلول. شاهدت مدارس تخصِّص غرفة للتأمّل، أو اليوغا، أو الـ"well-being" داخل حرم المدرسة، أو توظِّف مدرِّس اليقظة الذهنيّة (mindfulness)، أو تخصِّص غرفة للاستراحة تتضمّن أساسًا مرتّبًا ونظيفًا وماكينة للقهوة وبعض الفاكهة التي تؤمّنها المدرسة. وفي بعض المدارس نادٍ رياضيّ يستخدمه المدرِّس بعد الدوام، ومرشدة اجتماعيّة أو اختصاصيّة نفسيّة للطلّاب والمدرّسين. تدعو المدارس المدرّسين إلى احتفالات ومناسبات خارج جدران المدرسة، ولكن كلّ هذا لا يكفي. حين نتحدّث عن الرفاه، فنحن لا نتحدّث عن كماليّات، بل عن أسس يحتاج إليها كلّ فرد من أفراد مجتمع التعلّم:   

  • - سلسلة رتب ورواتب واضحة وعادلة. 

  • - احترام مهنة المدرِّس ودعمها من الحكومات، كالدول التي يحتلّ نظامها التعليميّ مكانة مرموقة في العالم. 

  • - عقود شفّافة ولا تفرق بين لون ودين وجنسيّة. 

  • - جداول أسبوعيّة تحترم طاقة المعلّم وحاجاته. 

  • - فريق مختصّ لقسم الدعم والإرشاد.  

  • - صفوف بعدد مقبول من الطلّاب.  

  • - مواكبة التطوّر التكنولوجيّ ودمجه في جميع الحصص. 

  • - دعم المعلّم في عمليّة التطوير المهنيّ وتوفير الوقت والمصادر.  

  • - إدخال التعلّم الاجتماعيّ - العاطفيّ (SEL) في المناهج.  

  • - عقود العمل التي تراعي إجازة الأمومة والأبوّة وساعة الرضاعة الطبيعيّة. 

 

التجربة الشخصيّة 

تصدمك الحياة، فالنظريّات سهلة وابتكار كلمات جديدة في قاموس اللغة سهل أيضًا. ولكن، على أرض الواقع، لا تعدّ المشكلات ولا تحصى كما شاهدنا. هل مدارسنا من أجل الربح الماديّ أم التربية والتعليم؟ حين تصبح الرؤية رماديّة، وحين يصبح هدف بعض المدارس الشهرة وكسب الجوائز يضيع كلّ شيء. جميع المشكلات التي ذكرتها مرتبطة بميزانيّات المدارس والقدرة على تخفيف المصاريف من أجل زيادة الأرباح.  

ولكنّ الحلول دائمًا ممكنة في حال اكتسبنا مرونة التفكير، وخرجنا من نموذج المدرسة - المعسكر إلى نموذج المدرسة الحياة. سأشارك هنا بعض الأفكار التي كنت أطبّقها في مدرستي:   

  • - حين يشارك المدرّسون في ورشة عمل خلال عطلة نهاية الأسبوع، كنت أسمح لهم بالخروج، في الأسبوع التالي، باكرًا  قبل انتهاء الدواء، أو الحضور في ساعة متأخّرة.   

  • - كنّا نشدّد على العمل كفريق ضمن مجموعات لإنجاز المهمّات، أو التحضير لزيارات التفتيش أو التقييم، فلا ينجز العمل فرد واحد. 

  • - دمجنا أنشطة لبناء الفريق (Team building) ضمن الاجتماعات الأسبوعيّة، يتناوب على تحضيرها مختلف الأقسام، ويشارك فيها أولاد المدرّسين.   

  • - خصّصنا أيّامًا للتدريب المهنيّ مع بداية كلّ فصل بعد الإجازة، لتكون فرصة جدّيّة للتفكير والتخطيط.   

  • - ربطنا تقييم المعلّم واستمراريّة عقده بنشاطه واحترافه، بعيدًا عن المحفّزات الماديّة الخارجيّة. فكنّا نبحث عن معلّم شغوف يحبّ أن يعمل ويتطوّر، وكنّا نقدِّم له كلّ شيء لينجح، ويكون مشاركًا فعّالًا في اتّخاذ القرار.   

  • - التشديد على دور المعلّم القائد في الورشة التدريبيّة التي نقدّمها في بداية السنة الدراسيّة للمعلّمين الجدد، عن الأدوار والمسؤوليّات. وكنّا نتشارك معهم النموذج الآتي، حيث ابتعدنا عن النموذج الهرميّ التقليديّ، وقدّمنا نموذجًا يضع الطالب في الوسط، ويتمحور حوله أفراد الفريق كافّة: 

 

نموذج هرميّ تقليديّ 

3

 

نموذج مدرستي: الطالب هو المحور 

 

4

 

 

* * * 

قد يكون الحديث عن الرفاه في يومنا ضربًا من الجنون، وكلّنا نعيش ضغوطًا اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة وأمنيّة لا يتصوّرها العقل. فحرب هنا، وخراب هناك، وتطرّف وانهيار للعملة، أضف إليها الجوع والفقر، وذكاء اصطناعيّ يهدِّد الكثير من المهن. وعلى رغم كلّ هذه الظروف، المدرِّس كائن خارق، يتحمّل الضغوط كلّها ليستمر.