مقدّمة
تعدّ الصعوبات التعلّميّة من الصعوبات الأكثر انتشارًا بين المتعلّمين حول العالم، علمًا أنّ أعداد الأشخاص الذين يصنّفون ضمن فئة الصعوبات التعلّميّة تختلف من بلد الى آخر، ويصعب حصرها في نسبة مئويّة عالميّة. ففي بريطانيا، على سبيل المثال، ذكرت الجمعيّة البريطانيّة للديسلكسيا أنّ نسبة الأشخاص الذين لديهم صعوبات تعلّميّة تبلغ 10% من أصل سكّان بريطانيا، ورغم أنّها نسبة كبيرة، ولكنّها قد لا تكون دقيقة بدرجة عالية، نظرًا لاختلاف معايير القياس والتشخيص بين دولة وأخرى، أو بين مؤسّسة تربويّة وأخرى.
يهدف هذا المقال الى تسليط الضوء على ضرورة إجراء تقييم باللغتين العربيّة والإنكليزيّة أثناء تشخيص الأطفال ثنائيّي اللغة (العربيّة، والإنكليزيّة لغةً ثانية)، وذلك للاختلافات البنائيّة الخاصّة بكلّ لغة، كالاختلافات المتعلّقة بعلم الأصوات، أو الصرف والنحو، أو ترتيب الجملة، أو غير ذلك.
نماذج قياس الصعوبات التعلّميّة وتصنيفها
نموذج Morton وFirth لقياس الصعوبات التعلّميّة
تعود أسباب الصعوبات التعلّميّة، بحسب تصنيف Morton و Firth (1995)، إلى ثلاثة عوامل أساسيّة، منها العوامل البيولوجيّة والإدراكيّة، ومنها الخصائص السلوكيّة. فعلى سبيل المثال، يبيّن Pennington و Gilger (1996) في دراسة أجرياها أنّ 65% من الأطفال الذين يظهرون صعوبات تعلّميّة أظهر أهلهم الصعوبات التعلّميّة نفسها، وأنّ 40% من أشقّائهم أظهروا صعوبات تعلّميّة مشابهة. أمّا في ما يتعلّق بالقدرات الذهنيّة، فإنّ الضعف في الذاكرة العاملة أو الإدراك البصريّ، وفقًا لـMorton و Firth (1995)، أو الضعف في مجال الوعي الصوتيّ المرتبط بتعلّم القراءة، يعدّ من المؤشّرات الدالّة على وجود صعوبات تعلّميّة، فضلًا عن تلك الخصائص السلوكيّة التي يظهرها الأطفال، كالضعف في متابعة التعليمات المعطاة لهم، أو التردّد في القراءة بصوت مرتفع، أو القراءة بشكل صوريّ دون القدرة على التهجئة، وغير ذلك من المؤشّرات السلوكيّة الأخرى.
النماذج المعتمدة في تصنيف الصعوبات التعلّميّة
يبيّن تعدّد العوامل المسؤولة عن الصعوبات التعلميّة أنّ الأسباب الكامنة وراءها كثيرة، ما يعني أنّ إجراء التشخيص وفق نظريّة واحدة أمر شبه مستحيل، فثمّة فريق من الباحثين والمشتغلين في الحقل التربويّ يعارضها لحساب فريق آخر. وقد انعكس هذا أيضًا في التعريفات المتعدّدة للصعوبات التعلّميّة، وفي عدم توحيد المكوّنات الأساسيّة المسؤولة عن هذه الصعوبات، كالإدارك الحسّيّ والذاكرة العاملة وسرعة معالجة المعلومات والتعبير الشفهيّ، كما هو معروف وفق تصنيف وكسلر العالميّ.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هناك نماذج متعدّدة لتحديد الصعوبات التعلّميّة، ويعدّ "Discrepancy model" أحد هذه النماذج، حيث يحدّد الصعوبات التعلّميّة وفق قياس الفارق بين الذكاء العام والتحصيل الأكاديميّ، بالإضافة الى قياس الصعوبات الإدراكيّة أو الذهنيّة المرافقة له، لكن تمّ نقد هذا النموذج لأسباب عديدة، من بينها أنّ هذا التصنيف لم يستطيع، بناءً على الدراسات (Fletcher et al., 1994)، أن يميّز بين فئة الصعوبات التعلّميّة وفئة ضعاف القراءة.
أمّا نموذج "Attainment Model" فيسلّط الضوء على الصعوبات التعلّميّة، بعيدًا عن مفهوم الذكاء كمقياس لقدرات الفرد، فهو يركّز على مستوى تدنّي التحصيل الدراسيّ، مقارنةً بالمؤشّرات الإدراكيّة الأخرى، مثل الذاكرة البصريّة والسمعيّة، وهو مقبول لدى الكثيرين، ولا سيّما أنّه يستبعد الذكاء العامّ الذي يعتبره بعض الخبراء عائقًا في تصنيف الصعوبات التعلّميّة لعدم الإجماع على تعريف الذكاء كمكوّن أساسيّ من مكوّنات عمليّة التعلّم.
نموذج الوعي الفونولوجيّ
يُعرَّف الوعي الفونولوجيّ بأنّه إدراك المبنى الصوتيّ لكلمات اللغة المحكيّة، والقدرة على تحليله إلى وحدات صوتيّة منفردة، مثل المقاطع والفونيمات (التربية اللغويّة، 2009). ويشكّل الوعي الفونولوجيّ، أحد النماذج الدالّة على الصعوبات التعلّميّة(Everatt & Reid, 2009) ، حيث يرى Riddick (2010) أنّ الأطفال الذين لديهم مشكلات في القراءة تظهر على شكل صعوبة في تهجئة الكلمات المفردة التي تؤدّي لاحقًا إلى صعوبات أخرى في الإملاء والقراءة الصحيحة والطلاقة. لذلك، يمكن للأطفال تطوير مهاراتهم في القراءة من خلال تدريبات خاصّة بالوعي الفونولوجيّ، كدليل على أنّ الصعوبات التعلّميّة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا به (Wanger et al., 1993). لكن، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هناك الكثير من الاختلافات في اللغات، فعلى سبيل المثال تحوي اللغة الصينيّة رموزًا (Characters) والإنكليزيّة تُكتَب من اليسار إلى اليمين، والعربيّة تُكتَب من اليمين إلى اليسار، ناهيك عن أنّ لكلّ لغة تركيباتها من حيث الوعي الصوتيّ، والقواعد النحويّة والإملائيّة، وارتباط الأصوات المسموعة بالمكتوبة منها، وغير ذلك. فاللغة العربيّة، مثلًا، تتميّز بوجود الأحرف الشمسيّة والقمريّة وأل التعريف والشدّة والحركات أو ما بات يُعرَف بالأصوات القصيرة، فضلًا عن نسختي اللغة العربيّة المختلفة بين العامّيّة والفصحى.
من هنا، فإنّ تشخيص الأطفال ثنائيّي اللغة (العربية والإنكليزيّة) يحتاج الى الأخذ بعين الاعتبار خصوصيّة اللغة الأمّ من ناحية، وتركيب اللغة الثانية من ناحية أخرى. فقد تشكّل هذه الفروقات اللغويّة بين اللغات المختلفة مصدرًا إضافيًّا لمعرفة ما إذا كانت الصعوبات التعلّميّة مرتبطة بالوعي الفونولوجيّ، أم أنّه لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار القدرات الذهنيّة الأخرى، كالذاكرة البصريّة القصيرة التي لا تنكرها نظريّة الوعي الصوتيّ.
وبما أنّ الصعوبات التعلّميّة تعبّر عن نفسها بشكل أساسيّ في مهارتيّ القراءة والكتابة، ولا سيّما في المراحل التعليميّة الأولى، فإنّ تشخيص الصعوبات التعلّميّة يحتاج الى الكثير من الدقّة والقدرة على تحليل عناصر الصعوبات اللغويّة، سواءً المقروءة منها أم المكتوبة، ممّا يعني ضرورة قياس طبيعة الصعوبات بين اللغتين العربيّة والإنكليزيّة، ودراسة الاختلافات بينهما، لمعرفة ما إذا كان الضعف في الوعي الفونولوجيّ هو العامل الأساس المسؤول عن الصعوبات التعلّميّة، أم أنّ عوامل أخرى أكثر أهمّيّة، لأنّ نظريّة الوعي الصوتيّ تعتقد بوجود صعوبات في الذاكرة أيضًا، فتسهم في الصعوبات اللغويّة، كالذاكرة العاملة والذاكرتين القصيرة والطويلة (البصريّة والسمعيّة).
دراسات حول الصعوبات التعلّميّة
دراسة عيّنة من الأطفال في سلطنة عُمان
أجريتُ دراسة على عيّنة مؤلّفة من 66 طفلًا ثنائيّي اللغة (العربية لغةً أمّ والإنكليزيّة لغةً ثانية)، تتراوح أعمارهم بين ثماني سنوات وإحدى عشرة سنة في سلطنة عُمان، يدرسون في مدارس خاصّة ويظهرون، وفق ما أشار معلّموهم، مؤشّرات على وجود صعوبات تعلّميّة لديهم. وقد تمّ تشخيص الأطفال باعتماد اختبارين مقنّنين متجانسين، (LASS 8-11) وهو مقنّن وفق البيئة البريطانيّة، يقيس الوعي الفونولوجيّ باللغة الإنكليزيّة، والآخر يقيس الوعي الفونولوجيّ باللغة العربيّة (LASS 8-11 AR)، وهو مقّنن وفق البيئة الكويتيّة. وقد تضمّن الاختباران قراءة الكلمات المفردة، وقراءة جملة، وقراءة كلمات لا معنى لها (non words)، وحذف أو إضافة مقاطع صوتيّة (Blending and segmentation). أظهرت النتيجة، حسب نظريّة الفارق بين الذكاء العامّ والأداء الأكاديميّ (Discrepancy model) أنّ 25 من أصل 66 طفلًا لديهم صعوبات تعلّميّة في اللغة الإنكليزيّة فقط، وليس لديهم أيّة صعوبات في اللغة العربيّة، وأنّ اثنين فقط أظهرا صعوبات تعلّميّة في اللغتين العربيّة والإنكليزيّة على حدّ سواء. وفي تحليل آخر للنتائج، لكن مع شروط أقلّ لجهة القدرات الذهنيّة والوعي الفونولوجيّ، تبيّن أنّ 16 طفلًا من أصل 66 أظهروا صعوبات في اللغة الانكليزيّة فقط، في حين أظهر 13 طفلًا صعوبات في اللغة الإنكليزيّة والعربيّة على حدّ سواء، ولم يُظهِر أيّ طفل من الأطفال صعوبات في اللغة العربيّة وحدها.
أمّا في النظريّة الثانية (Attainment model) والتي تستبعد الذكاء العامّ مؤشّرًا للصعوبات التعلّميّة، تبيّن أنّ 29 من أصل 66 طفلًا أظهروا صعوبات تعلّميّة في اللغة الإنكليزيّة دون العربيّة، وأنّ خمسة أطفال فقط أظهروا صعوبات في اللغتين. وفي تحليل آخر للنتائج تبيّن أنّ 18 طفلًا أظهروا صعوبات تعلّميّة في اللغة الإنكليزيّة دون العربيّة، وأنّ 19 طفلًا أظهروا صعوبات في اللغتين العربيّة والإنكليزيّة على حدّ سواء.
كما بيّنت الدراسة أعلاه، أنّ الصعوبات التعلّميّة التي يواجهها الأطفال في اللغة الإنكليزيّة ظهرت واضحة في اختباريّ "non-word" و"segmentation"، وفي اختبار الكلمة المفردة والإملاء. بينما ظهرت الصعوبات التعلّميّة التي يعاني منها الأطفل في اللغة العربيّة في اختباريّ القراءة والإملاء فقط، ولم تظهر هذه الصعوبات جليّة في اختباريّ "non-word" و"segmentation".
نستخلص من هذه الدراسة، على الرغم من محدوديّتها، أنّه يمكن للأطفال أن يظهروا صعوبات تعلّميّة في لغة ما، وقد تكون الصعوبة في اللغة الإنكليزيّة مثلًا للأطفال ثنائيّي اللغة، إذ لا يظهرونها في لغة أخرى كالعربيّة، والعكس صحيح. ولكنّ هذا الأمر يحتاج إلى الكثير من الدراسة، ولا سيّما أنّ اختبارات الوعي الفونولوجيّ قد لا تكون بالفعاليّة ذاتها بين اللغات كلّها بالدرجة نفسها، ولا سيّما في اختبارات مثل اختبار "pseudo words"، أو قراءة الكلمات التي لا معنى لها، والتي تهدف الى قياس قدرة الفرد على القراءة، بغضّ النظر عن معنى الكلمة.
دراسة حالة طالبة جامعيّة
أجريتُ دراسة حالة (غير منشورة) على طالبة جامعيّة سنة 2021، أظهرت فيها صعوبات تعلّميّة واضحة في اللغة العربيّة على مستوى مهارتيّ القراءة والكتابة والتعبير الكتابيّ، ولم تُظهِر أيًّا من هذه الصعوبات في اللغة الإنكليزيّة. مع الإشارة إلى أنّ الطالبة أظهرت، من خلال تقارير سابقة أثناء دراستها المدرسيّة، وجود صعوبات تتمثّل في القراءة والكتابة والتعبير باللغة العربيّة.
وعلى ذلك، فإنّ تشخيص الصعوبات التعلّميّة لا يمكن حصره بلغة واحدة، وهذا ما نشهده كثيرًا في عالمنا العربيّ، ففي لبنان مثلًا، تقوم بعض المراكز بتشخيص الأطفال ثنائيّي اللغة، الذين يظهرون خصائص دالّة على الصعوبات التعلّميّة باللغة الإنكليزيّة فقط، على اعتبار أنّ اللغة الإنكليزيّة هي اللغة الرئيسة التي يدرس بها الأطفال مواد الرياضيّات والعلوم، وتتجاهل قياس اللغة العربيّة، إذ تعتبر أنّ الإنكليزيّة كفيلة بإعطاء مؤشّر عن وجود صعوبات تعلّميّة باللغة العربيّة أيضًا، وهذا يتناقض مع ما أظهرته دراسة الكاتبة أعلاه، غير أنّ هناك الكثير من المراكز، نتيجة قلّة الاختبارات باللغة العربيّة وضعف مصداقيّتها، تعمد إلى تجاهل تشخيصها قراءةً وكتابةً، لأنّ مؤشّرات صعوبات التعلّم مرتبطة بالجوانب الذهنيّة بشكل أساسيّ، وهذا مؤشّر كاف للتأكّد من وجود صعوبات تعلّميّة.
وقد ينعكس ذلك سلبًا على الأطفال، إذ يساعد التشخيص اللغويّ في التأكّد ما إذا كانت هذه الخصائص ناتجة عن وجود صعوبات تعلّميّة محدّدة أو عن وجود صعوبات في جوانب إدراكيّة، كالإدراك الحسّيّ والتي لا تنعكس مباشرةً على أدائه في اللغة العربيّة.
خاتمة
على الرغم من أنّ نموذج الوعي الفونولوجيّ في تحديد الصعوبات التعلّميّة يطاله الكثير من النقد، وقد لا يستسيغه الكثير من الاختصاصيّين، ولكن لا بدّ من الانتباه إلى عدد من النقاط أثناء القيام بالقياس والتشخيص للأطفال الذين يظهرون خصائص مشابهة في الصعوبات التعلّميّة. ومن بين هذه الأمور:
- - ضرورة تقييم كلّ لغة على حدة، نظرًا للاختلافات بين اللغات من حيث تركيبها وبناؤها، حتّى وإن كانت المؤشّرات التي تمّ قياسها في اختبار اللغة الإنكليزيّة دقيقة مثلًا، إلّا أنّ الصعوبات في اللغة العربيّة قد تكون مختلفة، ولا يمكن تقوييها إلّا بتشخيص لغويّ دقيق.
- - رغم أنّ المجالات الإدراكيّة تعدّ مؤشّرًا أساسيًّا للصعوبات التعلّميّة، إلّا أنّ هناك الكثير من الخصائص المشتركة بينها والمشكلات التعلّميّة أو الإدراكيّة الأخرى، وأنّ عدم تقييم اللغة يُصعِّب على الاختصاصيّ تحديد طبيعة المشكلة وتحليل نتائج الاختبارات.
- - إنّ قلّة الاختبارات المقنّنة باللغة العربيّة لا يعني تجاهل تقييم اللغة، لأنّه بالإمكان الاعتماد على مقياس غير رسميّ يكون محكيَّ المرجع (criterion based assessment).
وعليه، لكي نقوم بتشخيص الصعوبات التعلّميّة تشخيصًا دقيقًا، نحتاج الى تقييم شامل للمجالات اللغويّة والذهنيّة كلّها، فضلًا عن مجال الوعي الصوتيّ، إذ من شأن الاكتفاء بالتركيز على جانب واحد وإهمال الجوانب الأخرى أن يُصعِّب عمليّة إطلاق الحكم المرافقة للتقييم والتدخل التربويّ.
المراجع
- المنهج التعليميّ. (2009). التربية اللغويّة العربيّة: لغة أدب، ثقافة للمرحلة الابتدائية. مركز تخطيط وتطوير المناهج التعليمية.
- Everatt, J., & Reid, G. (2009). An overview of recent research. The Routledge companion to dyslexia.
- Fletcher, J. M., Shaywitz, S. E., Shankweiler, D. P., Katz, L., Liberman, I. Y., Fowler, A., Francis, D. J., Stuebing, K. K., & Shaywitz, B. A. (1994). Cognitive profiles of reading disability: Comparisons of discrepancy and low achievement definitions. Journal of Educational Psychology, 86, 1-18.
- Morton, J., & Frith, U. (1995). Causal modeling: A structural approach to developmental psychopathology. In D. Cicchetti & D. J. Cohen (Eds.), Developmental psychopathology, Theory and methods. 357–390.
- Pennington, B. F., & Gilger, J. W. (1996). How is dyslexia transmitted? In C. H. Chase, G. D. Rosen, & G. F. Sherman (Eds.), Developmental dyslexia: Neural, cognitive, and genetic mechanisms. 41-61
- Riddick B., (2010) Living with Dyslexia: The social and emotional consequences of specific learning difficulties/disabilities. Routledge.
- Wager, R., Torgesen, J., Rashotte, C. et al. (2013). Comprehensive Test of Phonological Processing. Pearson.