تأثير التتالي: كيف يسهم رفاه المعلّمين في نجاح المتعلّمين؟ 
في هذا المقال، نناقش ماذا نعني برفاه المعلّم؟ وكيف ينفع ذلك المتعلّم؟ كما نتطرّق إلى بعض الخطوات العمليّة التي يسهل تطبيقها في المؤسّسات التربويّة.   
تأثير التتالي: كيف يسهم رفاه المعلّمين في نجاح المتعلّمين؟ 
في هذا المقال، نناقش ماذا نعني برفاه المعلّم؟ وكيف ينفع ذلك المتعلّم؟ كما نتطرّق إلى بعض الخطوات العمليّة التي يسهل تطبيقها في المؤسّسات التربويّة.   
محمّد حمّور | معلم صف في برنامج السنوات الابتدائية -(IB)-لبنان/قطر

في مطلع الحلقة الأولى من مسلسل "New Amsterdam"، دخل ماكس، مدير المستشفى الجديد، إلى قاعة المؤتمرات التي تحاشد فيها الأطباء للاجتماع الأوّل بالمدير الجديد، متوقّعين منه حديثًا عن سياسات المستشفى الجديدة، أو خطّته الاستراتيجيّة، أو حتّى التعريف بإنجازاته المهنيّة. فاجأهم ماكس بالسؤال: "كيف يمكنني المساعدة؟ أنا أعمل من أجلكم كي تعملوا من أجل مرضاكم". فَهِمَ مدير المستشفى أنّ دوره يتمركز حول تأمين رفاه نجاح فريقه الطبّيّ ومقوّماته، ليقوم الآخر بمهمّته النبيلة بفاعليّة. فهل ينطبق هذا المفهوم على المدرسة؟ وهل لرفاه المعلّم دور في إنتاجيّة المدرسة ونجاح طلّابها؟  

 

التعلّم والتعليم عمليّتان شديدتا التعقيد، يصعب تحديد الطريقة الصحيحة فيهما، لأنّهما يتمحوران حول الإنسان المتأثّر ببيئته وميوله وذكاءاته الخاصّة به، والمختلفة عن غيره اختلافًا جذريًّا. ولكنَّ الأبحاث التربويّة اتّفقت على بعض الحقائق المتجاوِزة لهذه الاختلافات، أوّلها أنّ جودة المعلّم هي المؤشّر الأدقّ لتوقّع نجاح المتعلّم. وعليه، توجّهت الأنظار إلى المعلّم مُحمَّلةً بالأسئلة التي تبحث عن الظروف التي تسهم في نجاحه، إذ لا يمكن للمعلّم أن يؤدّي دوره وفق المطلوب من دون أن تضع الأنظمة التعليميّة رفاهه وحسن حاله أولويّة.  

في هذا المقال، نناقش ماذا نعني برفاه المعلّم؟ وكيف ينفع ذلك المتعلّم؟ كما نتطرّق إلى بعض الخطوات العمليّة التي يسهل تطبيقها في المؤسّسات التربويّة.   

 

ماذا نعني برفاه المعلّم؟ 

على الرغم من عدم الإجماع على تعريف الرفاه، يمكننا تجزئة الإجابة عن هذا السؤال إلى ثلاثة أقسام، يتحقّق الرفاه غالبًا بتواجدها: 

الرفاه النفسيّ 

يُوصَف التعليم بأنّه من أكثر المهن المتطلّبة والمرهقة نفسيًّا. ينبع ذلك- أساسًا - من المهمّات الكثيرة المناطة بالمعلّمين، بالإضافة إلى متطلّبات العمل الاجتماعيّة، كالتعامل مع حاجات الطلّاب تعاملًا يوميًّا. عندما نتحدّث عن الرفاه النفسيّ، نعني ألّا يواجه المعلّم الكثير من مسببّات التوتّر في عمله. يُضاف إلى ذلك شعور المعلّم بالرضا الوظيفيّ، حيث يرى نفسه في مكانٍ يقوم فيه بدورٍ جوهريّ في المجتمع. عبّر العديد من المعلّمين عن حاجتهم إلى الدعم المعنويّ من الأطراف التربويّة حولهم، ليتمكّنوا من إتمام مهمّاتهم بنجاح. 

 

الرفاه الاجتماعيّ 

نعني بذلك قدرة المعلّم على إقامة التوازن بين العمل والحياة، بحيث لا يستهلك العمل وقته الخاص. كما يندرج في هذا المجال تحسين النظرة الاجتماعيّة إلى المعلّم، من نظرة دونيّة إلى نظرة تقدير واحترام وعرفان بالجميل، إذ تُعدّ هذه الصورة النمطيّة أحد أبرز أسباب ترك المعلّمين السلك التربويّ كاملًا. 

 

الرفاه المهنيّ 

المعلّم صاحب شهاداتٍ علميّة وخبرات عمليّة يجب أن تُقدّر، بما في ذلك أن تكون له الحرّيّة الكافية للتصرّف في فصله وبيئته التعليميّة، وأن يُعامل معاملة مهنيّة محترمة. كما من الضروريّ أن تتوفّر للمعلّم فرص النموّ المهنيّة، حيث تُكافأ الخبرات بالترقية المهنيّة والوظيفيّة، وأن تحيط المعلّم بيئة مهنيّة محفزّة تشترك في رؤية تربويّة سامية وداعمة.   

 

كيف ينفع ذلك المتعلّم؟ 

تعدّ تولية رفاه المعلّم الاهتمام خطوة براغماتيّة وعمليّة جدًّا (Proeschold-Bell, et al, 2021). فقد يتبادر إلى الذهن أنّ المعلّم هو المستفيد الحصريّ من هذه التغييرات، ولكنّ دائرة التأثير أوسع بكثير، وتشمل المتعلّم أيضًا. فإذا كان الهدف الأسمى من التعليم ومؤسّساته الارتقاء بالمتعلّم علميًّا ونفسيًّا ومهاراتيًّا، فإنَ المعلّم هو القادر على تيسير هذه العمليّة تيسيرًا فعّالًا. بذلك، تتكوّن علاقة التتالي بين الأمرين.  

بمعنى آخر، إذا استثمرت إدارات المدارس والحكومات والمؤسّسات التربويّة في رفاه المعلّمين- ماديًّا ومعنويًّا - يتحسّن بذلك مستوى رفاه المعلّمين. فالمعلّم الذي تتحقّق لديه معايير الرفاه يكون أقدر على صناعة بيئة وخبرات تعلّميّة فعّالة لطلّابه، ممّا يحسّن جودة التعليم التي يتلقّاها المتعلّمون. ولمّا كان ذلك مقصود عمليّة التربية والتعليم، فمن المتوقّع زيادة مستوى الاستثمار في رفاه المعلّمين، لتتكوّن علاقة التتالي الدائريّة. يمكن تصوير علاقة الترابط الإيجابيّة بين الأمرين بالنموذج الآتي: 

 

1

 

في ما يلي، نناقش بعض الفوائد المترتّبة على تحقيق رفاه المعلّمين (REL Pacific, 2020):  

تحقيق التدريس الفعّال 

يسهم تأمين رفاه المعلّمين في قدرتهم على استخدام استراتيجيّات فعّالة وتطبيقها في خدمة التعلّم. وعلى النقيض، لن يستطيع المعلّم المنهك تقديم التعليم الفعّال لطلّابه. بالإضافة إلى ذلك، فالمعلّم الذي يشعر بالرفاه يكون أكثر ثقةً واتّزانًا، ممّا يعود بالنفع على قدرته على التدريس. في الجانب الآخر، يؤدّي غياب الرفاه إلى تشوّش المعلّمين وتشتّتهم، وغالبًا ما يقودهم ذلك إلى اختيار الأساليب التعليميّة الأسهل لهم، سعيًا لتخفيف الضغوطات والأعباء، والتي غالبًا لا تكون بالفعّاليّة ذاتها. 

 

تطبيق أساليب التربية الإيجابيّة وتحسين السلوك 

تعديل السلوك عمليّة دقيقة جدًّا وتتطلّب الكثير من الهدوء والاتّزان، وهذا بعيد عن المعلّم المشتّت أو المنهك. فلا يمكن أن نتوقّع من المعلّمين أن يكون لديهم الصبر والهدوء الكافي للتربية الإيجابيّة، في ظلّ الشعور بالتوتّر والإرهاق المستمرّين. فضلًا عن ذلك، يتيح الرفاه للمعلّم القدرة على بناء علاقاتٍ فعّالة ووديّة مع المتعلّمين، ممّا يسهم في خلق بيئة تعلّميّة فعّالة ( Kern & Wehmeyer, 2024).  

 

تفرّغ المعلّم ذهنيًّا للإبداع في التعليم 

بالعودة إلى هرم ماسلو للاحتياجات، لن يستطيع المعلّم بغير ظروف ملائمة الإبداعَ في عمله، من استراتيجيّات فعّالة أو أنشطة أو مهارات التدريس؛ نظرًا إلى أنّ التباين بين المتعلّمين يظهِر أهمّيّة إبداع المعلّم وقدرته على صناعة تجارب تعلّميّة خاصّة بطلّابه. وإذا كان هذا هو المتوقَّع من المعلّم، فعلينا تيسير الظروف الملائمة لذلك.   

هذه الفوائد غيض من فيض، حيث ناقشت الأبحاث العديد من نتائج رفاه المعلّمين الإيجابيّة، ويمكن العودة إليها للمزيد. 

 

كيف السبيل إلى رفاه المعلّمين؟ 

يتطلّب تحقيق مستوى فعّال من رفاه المعلّم، إحداثَ تغييراتٍ جذريّة في منظومة التعليم وثقافته حول العالم، ابتداءً من الدولة، ومرورًا بالقنوات الإعلاميّة والاجتماعيّة، ووصولًا إلى إدارات المدارس وأولياء الأمور. فتقديم البدل المادّيّ المجزي والوافي أوّل حاجات الرفاه الضروريّة، ولكن بين أيدينا بعض الخطوات سريعة التأثير، وفي المتناول قد ترفع من مستوى رفاه المعلّمين (Alie & Husain, 2021).  

 

تخفيف الأعباء الإداريّة 

يجب أن ينصبَّ جهد المعلّمين على ما يفيد العمليّة التعليميّة، وأن يُفوّض غيرهم بالمهمّات التي لا تتناسب مع خبراتهم. يتضمّن ذلك تخصيص ساعات من أسبوع العمل للتخطيط التعاونيّ والتحضير للصفوف، وأن يُعدَّ ذلك من ساعات تعاقد المعلّم، فلا تقام فيها اجتماعات أو مهمّات أخرى. كما يتضمّن ألّا نحمّل المعلّمين مهمّات إداريّة أو ورقيّة لا تنفع المتعلّم، أو يمكن أن ينوب عنهم فيها غيرهم.   

 

تيسير الأمان الوظيفيّ 

لا يمكن للمعلّمين أن يقدّموا طاقاتهم لخدمة التعلّم إذا لم يشعروا أنّ مناصبهم في الوظيفة آمنة. ينبغي أن تكون معايير الاستمرار الوظيفيّ واضحة وأن تُسخَّر الجهود لبقاء المعلّمين، بدلًا من إشعارهم بسهولة استبدالهم. بذلك، لا ينشغل ذهن المعلّم بوظيفته، بل ينصرف إلى الإبداع والتميّز في التعليم.  

 

توفير المساحة والحرّيّة في الصف 

احترامًا لخبرات المعلّمين وشهاداتهم، علينا توفير مساحة واسعة للمعلّمين في صفوفهم، حيث نترك لهم الحريّة في استحداث إجراءات أو أساليب تربويّة تتناسب مع صفوفهم وشخصيّاتهم المختلفة. 

 

مشاركة المعلّم في صنع القرار 

المعلّم أكثر المربّين فهمًا لحاجات طلّابه وقدراتهم في فصله، ممّا يعني أنّ لرأيه وزنًا في صياغة سياسات المؤسّسة التربويّة وقراراتها البيداغوجيّة. من أجل ذلك، يعدّ ضمّ المعلّم إلى لجان صنع القرار المختلفة في المؤسّسات التربويّة عنصرًا من عناصر شعور المعلّم بالرضا عن عمله، وزيادة حضور بصمته في تحسين المؤسّسة.    

 

دعم المعلّم 

دعم المعلّمين لا يقتصر على الدعم المادّي فحسب، على رغم أهمّيّته، بل يتجاوز ذلك إلى الدعم المهنيّ والنفسيّ. من ذلك أن تتاح الفرص أمام المعلّمين للتطوير المهنيّ الذي يتناسب مع احتياجاتهم واختياراتهم، وأن تخصَّص لهم الموارد والمصادر التي يحتاجون إليها، وأن تُفتَح لهم أبواب الرأي والمشورة، وأن يُعاملوا بالاحترام الذي يليق بهم، وأن تُقدّم لهم الفوائد الوظيفيّة، كالإجازات الخاصّة المدفوعة، تماشيًا مع بقيّة القطاعات. 

  

* * * 

لا بدّ من تضافر الجهود من الأطراف التربويّة كافّة لتحقيق رفاه المعلّمين، حتّى يُفسَح لهم المجال ليقوموا بالدور المناط بهم على النحو المطلوب. لكلٍّ من الدولة وإدارات المدارس وأولياء الأمور دورٌ في هذه العمليّة، فهي ضرورةٌ لمن يريد تحقيق مصلحة المتعلّمين تحقيقًا فعليًّا، بعيدًا عن الشكليّات والخطوات الإعلاميّة المجرّدة. قد يبدو تحقيق هذا الهدف أمرًا يتطلّب جهودًا مضنية، وهو بالفعل يتطلّب استراتيجيّات وخطوات فعليّة، ولكنّنا نملك بين أيدينا خطوات سريعة المفعول والأثر يمكن تطبيقها حالًا، لتبدأ مسيرة تأمين رفاه المعلّمين بما يضمن لنا استمراريّة التعليم الفعّال.   

 

المراجع 

- Alie, N., and Husain, F. (2021). Teacher Wellbeing: Findings from a Scoping Literature Review and Case Studies in Cambodia, Kenya and Qatar. WISE.  

https://www.wise-qatar.org/  

 

- Kern, M. L., and Wehmeyer, M. L.  (2024). The Palgrave Handbook of Positive Education. Springer Nature. https://doi.org/10.1007/978-3-030-64537-3 

 

- Proeschold-Bell, R.J., Sohail, M. M., Hy Huynh, Baghdady, A., Vann, V., Amanya, C., Al-Khalaf, M., and Whetten, K. (2021). Teacher Wellbeing: Findings from a Scoping Literature Review and Case Studies in Cambpdia, Kenya and Qatar. WISE.  

https://www.wise-qatar.org/   

 

- REL Pacific (2020). How to Grow Teacher Wellbeing in Your Schools. Institute of Education Sciences. Department of Education. 

https://ies.ed.gov/ncee/rel/Products/Region/pacific/Resource/70123