منذ أن بدأت التكنولوجيا تتغلغل في جميع جوانب حياتنا وتجاربنا، صار لزامًا علينا مواكبة التطوّرات التقنيّة، نظرًا إلى الفوائد الكبيرة التي يمكن جنيها منها. لم يعُد التعليم يقتصر على الفصول الدراسيّة التقليديّة التي تعتمد على تلقين المعلّم التلاميذَ؛ بل انتقل إلى تجربةٍ أكثر ذكاءً، مع دخول الذكاء الاصطناعيّ إلى العمليّة التعليميّة ورفعه من كفاءتها، وإسهامه في تحسين أداء الطلّاب، وتعزيز أساليب التدريس. ومع ذلك، أثار التطوّر السريع في هذه التقنيّات جدلًا كبيرًا، حول كيفيّة استثمارها بالطريقة المثلى من جهةٍ، والتعامل مع مخاطرها من جهةٍ أخرى، الأمر الذي تترتّب عنه مسؤوليّاتٌ كبيرةٌ في تطوير المناهج الدراسيّة، ووضع استراتيجيّاتٍ حداثيّةٍ تواكب التغيّرات العالميّة، وتسعى لإعداد متعلّمٍ ذكيٍّ، قادرٍ على التكيّف والإبداع.
الذكاء الاصطناعيّ والتعليم
يعدّ الذكاء الاصطناعيّ مجالًا سريع التطوّر، يقوم على تصميم أنظمةٍ ذكيّةٍ، قادرةٍ على أداء المهام التي تحتاج إلى الذكاء البشريّ، مثل حلّ المشكلات واتّخاذ القرار. يعرّف د. حسن الشريف الذكاء الاصطناعيّ التوليديّ بأنّه "نوعٌ من أنظمة الذكاء الاصطناعيّ القادرة على إنتاج محتوًى أصيلٍ، مثل النصوص والصور ومقاطع الفيديو، عند تغذيتها بأوامر معيّنةٍ (Prompts). تقوم هذه الأنظمة باستخدام الشبكات العصبيّة، للتعرّف إلى الأنماط وبُنى البيانات، لخلق محتوًى جديد. ويعدّ Chat GPT، أحد منتجات Open AI الذي أُطلق مؤخّرًا، من الأمثلة البارزة على أنظمة الذكاء الاصطناعيّ التوليديّ، والذي طوّر باستخدام النماذج اللغويّة الضخمة GPT-3 وGPT-4" (الشريف، 2023).
حظي الذكاء الاصطناعيّ بمكانةٍ كبيرةٍ في التعليم، لقدرته على تغيير نموذج التعليم التقليديّ، وتوفير تجارب تعليميّةٍ شاملةٍ، تناسب احتياجات الطلّاب المختلفة، وتراعي فروقاتهم الفرديّة، وأنماط التعلّم المتنوّعة. إذ صار المعلّمون يستخدمون برامج الدردشة لتقديم المساعدة السريعة، وتوفير بيئةٍ تعليميّةٍ تعزّز فهم الطلّاب، واحتفاظهم بالمعلومات. تسخّر هذه التقنيّة خوارزميّات التعلّم الآليّ، لتوفير دعمٍ فوريٍّ، وتجارب تعليميّةٍ تفاعليّةٍ جذّابة.
في هذا السياق، يقول د. نديم منصوري: "ثمّة إمكانيّةٌ كبيرةٌ في الاستفادة من الذكاء الاصطناعيّ في التعليم والتقييم. يمكن استعراض بعض الأمثلة التي تعتمد على نظام الدروس الخصوصيّة المستند إلى الحوار، مثل نظام واتسون توتر (Watson Tutor) الذي طوّرته شركة IPM وPearson Education. بالإضافة إلى أمثلة تقييم الكتابة الآليّة، مثل برنامج Write to Learn، أو نُظُم تعلّم القراءة واللغة المدعومة بالذكاء الاصطناعيّ، مثل برنامج AI teacher، أو الروبوتات الذكيّة مثل Nao" (منصوري، 2024).
يحدث الذكاء الاصطناعيّ تغييرًا جوهريًّا في نماذج التعلّم التقليديّة، ويوجّه المعلّمين من خلال أنظمة تدريسٍ تقدّم ملاحظاتٍ شخصيّةً تحلّل استجابات الطلّاب، ويساعدهم في تحديد الفجوات التعليميّة، وتقديم ملاحظاتٍ واضحةٍ لتحسين نتائج التعلّم، وتحديد الطلّاب المتعثّرين لتقديم الدعم اللازم. هذا إلى جانب توفيره مناهج أكثر تفاعليّة، تمرّر المفاهيم المعقّدة إلى الطلّاب بطرقٍ حيويّة. كما تسهم برامج الدردشة والمساعدون الافتراضيّون في دعم المعلّمين، بتقديم المساعدة السريعة، وتزويدهم بأفكارٍ مبتكرةٍ لعرض الدروس، إضافةً إلى الردّ على استفسارات الطلّاب.
يقدّم الذكاء الاصطناعيّ أيضًا مناهج دراسيّةً قابلةً للتعديل، وفق رؤًى ومعايير متطوّرةٍ، بمواءمتها مع الأهداف التعليميّة، ما يبسّط المنهاج للمتعلّمين. كما يوفّر ألعابًا تفاعليّةً وتجارب تعليميّةً جذّابةً، تعزّز خيال التلاميذ ومهارات تفكيرهم العليا، وتشجّعهم على حلّ المشكلات. ويدعم المعلّمين في تصنيف الاختبارات، وتنظيم العمل، وإنشاء محتوًى مبتكرٍ وعروضٍ تقديميّةٍ تعتمد على تصوّراتٍ ثنائيّة أو ثلاثيّة الأبعاد، محوّلًا الدروس إلى تجارب واقعيّة. بالإضافة إلى قدرته على إنشاء موادّ تدريسيّةٍ رقميّةٍ تُحدّث باستمرارٍ لمواكبة التطوّرات.
الذكاء الاصطناعيّ في البنى التقليديّة
بعد إدراك أهمّيّة اعتماد الذكاء الاصطناعيّ في العمليّة التعليميّة التعلّميّة، يبرز تساؤلٌ حول أثر استخدامه في بنية المدرسة التقليديّة، من حيث شكل التعليم، وطبيعة الصفوف، ودور المعلّمين وضرورة وجودهم، وأهداف التعليم، ومفهوم القيم.
في هذا السياق، نجد أنّ الذكاء الاصطناعيّ بات ضرورةً لا غنى عنها داخل الفصول الدراسيّة، إذ أصبح المعلّمون يعتمدون عليه بشكلٍ متزايدٍ، باستخدام أدواتٍ مثل منصّة Brisk Teaching التي صمّمت باعتبارها ملحقًا لمحرّك البحث Google، والتي تقدّم أكثر من ثلاثين أداةً للذكاء الاصطناعيّ. تدعم هذه المنصّة المعلّمين في تخطيط الدروس، وتقديم الملاحظات، وكتابة رسائل البريد الإلكترونيّ لأولياء الأمور، وتقديم العروض التقديميّة، وتصحيح الملاحظات.
أسهمت هذه الأدوات في تقليل الوقت والجهد المطلوبَين للتحضير، فأتاحت للمعلّمين التركيز على تقديم الدروس بجودةٍ عالية، بعيدًا عن الإرهاق الذي يتطلّبه التحضير التقليديّ، إذ تتيح للمعلّمين إنجاز العديد من المهام، وتحقيق التوازن بين جودة التعليم وإدارة الأعباء اليوميّة. جاء على لسان مدير عامّ اليونسكو أودري أزولاي، في خبر حول تخصيص اليونسكو أسبوعًا للتعلّم بالأجهزة المحمولة، أنّ الذكاء الاصطناعيّ "سيحقّق تغييرًا جذريًّا في مجال التعليم، وسنشهد ثورةً تطال الأدوات التربويّة وسبُل التعلّم والانتفاع بالمعارف، وعمليّة إعداد المعلّمين" (اليونسكو، 2023).
يلغي الذكاء الاصطناعيّ الحاجة إلى التعليم وجهًا لوجه، إذ يمكّن المتعلّمين من اكتساب المعرفة بشكلٍ مستقلّ. لكنّ هذا التحوّل نحو التعلّم الفرديّ يمكن أن يؤدّي إلى تراجع الروابط الشخصيّة والمدرسيّة، وإهمال التفاعلات الاجتماعيّة، ما قد يسهم في تعزيز العزلة، وغياب الشعور الجماعيّ، وإضعاف روح التعاون والتضامن التي تشكّل أساس التجربة التعليميّة.
يتجاوز دور المعلّمين نقل المعرفة، ليشمل دعم الطلّاب، وتعزيز تنميتهم الشخصيّة ومهاراتهم الاجتماعيّة والعاطفيّة، خصوصًا في مرحلة رياض الأطفال. فهم يعملون على نقل الخبرات، وتقديم الإرشاد الاجتماعيّ والعلميّ. لا يمكن للآلات، بالطبع، تقديم القيم بطريقةٍ تجسّد الواقع الإنسانيّ؛ فعلى سبيل المثال، يتعلّم التلاميذ قيمة التسامح بحدثٍ أو واقعةٍ يطرحها المعلّم، وهو ما لا يمكن للذكاء الاصطناعيّ نقله إلى المتعلّمين. فبينما تمكن له محاكاة المحادثات والتفاعل العاطفيّ السطحيّ، فإنّه يفتقر إلى القدرة على محاكاة التواصل البشريّ الحقيقيّ والتعاطف والتجارب المشتركة، حيث يكمن جوهر العلاقات الإنسانيّة.
لهذا كلّه، يعتبر النموذج المختلط للتعليم الخيار الأفضل؛ فهو يجمع بين قيام المعلّمين بدورهم التقليديّ في توجيه الطلّاب وإرشادهم، وغرس القيم الإنسانيّة لديهم، مثل الاحترام والتسامح والمحبّة والشعور بالآخرين، مع الحفاظ على الروابط الإنسانيّة والاجتماعيّة، وبين استخدام الذكاء الاصطناعيّ لدعم المعلّمين وتوسيع آفاقهم وإمكانيّاتهم. وعلى الرغم من توقّع الخبراء أن يحدث الذكاء الاصطناعيّ تحوّلًا جذريًّا في مهنة التعليم، إلّا أنّها مهنةٌ لا يمكن استبدالها؛ إذ لا يمكن للذكاء الاصطناعيّ أن يحلّ محلّ المعلّم بالكامل.
هناك قلقٌ كبيرٌ من أن تحلّ أدوات الذكاء الاصطناعيّ محلّ التفاعل البشريّ، ما سينعكس سلبًا على جودة التعليم في الفصول الدراسيّة. لكنّ الأكيد أنّ الآلات غير قادرةٍ على تعويض التواصل الفعّال والمهارات الاجتماعيّة التي يقدّمها المعلّم إلى طلّابه. لذلك، يجب أن يعتبر الذكاء الاصطناعيّ مكمّلًا لدور المعلّم، لا بديلًا عنه، بما يوفّره من دعمٍ في تسريع المهام، وتقليص الجهد.
***
يحمل الذكاء الاصطناعيّ إمكاناتٍ هائلةً لتحسين العمليّة التعليميّة، بتعزيز كفاءة المعلّمين وزيادة رضا الطلّاب. ومع تطوّر أساليب التعلّم واللعب، ستصبح الفصول الدراسيّة أكثر تحفيزًا للابتكار. ومع ذلك، يجب أن يظلّ دور المعلّم مركزيًّا، وأن يكون الذكاء الاصطناعيّ أداةً داعمةً ومكمّلةً أثناء الدرس، تسهم في إلغاء الروتين، وتحفّز الابتكار اللغويّ.
المراجع
- ملتقى أسبار. (2024). تقرير رقم 109: الذكاء الاصطناعيّ التوليديّ.
- منصوري نديم. (2024). موقع اللواء. التعليم ومتطلّباته في عصر الذكاء الاصطناعيّ.
- منظّمة الأمم المتّحدة للتربية والعلوم الثقافة (اليونسكو). (2024). دور الذكاء الاصطناعيّ في النهوض بالتعليم وتطويره.