التعليم عبر المبادرات في غزّة نهجٌ مبتكرٌ في سياقات الطوارئ
يتطلّب التعامل مع حالة الطوارئ التي أوجدها العدوان الإسرائيليّ، التفكير في بدائل عمليّةٍ يمكنها تعويض الطلبة عن انقطاع التعليم المدرسيّ، وتدمير البنية التحتيّة. يقع هذا العبء على عاتق صنّاع القرار الذين يتوجّب عليهم رسم الخطط، واتّخاذ التدابير الكفيلة بضم
التعليم عبر المبادرات في غزّة نهجٌ مبتكرٌ في سياقات الطوارئ
يتطلّب التعامل مع حالة الطوارئ التي أوجدها العدوان الإسرائيليّ، التفكير في بدائل عمليّةٍ يمكنها تعويض الطلبة عن انقطاع التعليم المدرسيّ، وتدمير البنية التحتيّة. يقع هذا العبء على عاتق صنّاع القرار الذين يتوجّب عليهم رسم الخطط، واتّخاذ التدابير الكفيلة بضم
محمّد عوض توفيق شبير | باحث متخصّص في القضايا التعليميّة والمجتمعيّة- فلسطين

يعتبر التعليم حقًّا إنسانيًّا وضروريًّا لجميع الناس في جميع الظروف، الطبيعيّة والاستثنائيّة، فهو يشكّل أساسًا للتنمية التي تصون الكرامة وتحافظ على الحياة. لا يمكن تحقيق المساواة في الحصول على تعليمٍ جيّدٍ، ومنصفٍ، وشاملٍ، ومستدامٍ، وآمنٍ للجميع، إلّا من خلال التخطيط الجيّد، والاستجابة الفعّالة للفاعلين والمؤثّرين والمسؤولين عن التعليم. يكتسب هذا الأمر أهمّيّةً خاصّةً، لتجنّب تكريس الهشاشة والتهميش، ولا سيّما في حالات الطوارئ، حين تؤدّي الصراعات والأزمات إلى استبعاد الطلاب، وحرمانهم من متابعة مساراتهم التعليميّة، ما يعرقل تقدّمهم ونموّهم الأكاديميّ. 

 

بداياتٌ صعبةٌ للتعليم في غزّة في ظلّ الحرب 

في السياق الفلسطينيّ، وتحديدًا في غزّة، تعطّلت المسيرة التعليميّة منذ أكثر من عامٍ، جرّاء حرب الإبادة التي تمارسها آلة القتل والتدمير الإسرائيليّة، والتي تسبّبت في حرمان حوالي 700 ألف طالبٍ وطالبةٍ من حقّهم في التعليم، وأسفرت عن استشهاد 11750 فلسطينيًّا من الطلبة، وتدمير وتخريب 439 مدرسةً، بين حكوميّةٍ، وأخرى تابعةٍ لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيّين (الأونروا). 

في ظلّ هذا المناخ القاسي بتعقيداته المختلفة، لم يفقد الفلسطينيّون الأمل، وأظهروا حرصًا على استعادة العمليّة التعليميّة التي يضعونها دومًا في رأس سلّم الأولويّات. فالتعليم بالنسبة إلى الإنسان الفلسطينيّ وسيلةٌ للصمود، وفرصةٌ لإثبات الذات، وأملٌ في حياةٍ أفضل، وحافزٌ للمستقبل. 

 

 استجاباتٌ مبتكرةٌ للتغلّب على الأزمة 

على رغم سوداويّة المشهد وقسوته في الميدان، إلّا أنّ الأزمات يمكن أن تقدّم فرصًا كبيرةً، وحلولًا خلّاقةً، لابتكار سياقاتٍ تعليميّةٍ تستجيب للطوارئ، وتستطيع التكيّف مع التراكمات المتولّدة جرّاء الأزمات. عجز المستوى الرسميّ، ممثّلًا بوزارة التربية والتعليم في غزّة، عن بناء تدخّلاتٍ تعليميّةٍ منذ بداية حالة الطوارئ التي فرضتها الحرب، خصوصًا مع تدمير المقدّرات والبنية التحتيّة، وغياب السيناريوهات البديلة، ما دفع بالجهود الشعبيّة والمجتمعيّة إلى التحرّك خطوةً نحو الأمام، لبناء تدخّلاتٍ تعليميّةٍ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، في ظلّ ما يتعرّض إليه الطلبة من فاقدٍ تعليميٍّ فاق التوقّعات. من هنا، انطلقت المبادرات التعليميّة في سياقٍ تعليميٍّ غير رسميٍّ بديلٍ، يتبنّى شعار ضرورة استعادة العمليّة التعليميّة، وضمان التحاق الطلبة الفلسطينيّين بتعليمٍ منظّمٍ في ظلّ حالة الطوارئ. 

 

ماهيّة المبادرات التعليميّة لنهجٍ تعليميٍّ مبتكرٍ من الداخل 

مثّلَت المبادرات التعليميّة في غزّة استجابةً مجتمعيّةً مُنظّمةً، نفّذها أفرادٌ ومجموعاتٌ ومؤسساتٌ بدافعٍ ذاتيٍّ، من منطلق مسؤوليّتهم المجتمعيّة، لإنقاذ الواقع التعليميّ، وحماية حقّ الطلبة الفلسطينيّين في التعليم.  

تمثّل الهدف الأسمى للمبادرات التعليميّة المُنفّذة داخل قطاع غزّة في: 

- إيجاد بدائل وحلولٍ لمشكلة تعطّل العمليّة التعليميّة. 

- الاستجابة إلى الحاجات التربويّة والتعليميّة والمجتمعيّة الملحّة. 

- حشد الجهود لاستعادة العمليّة التعليميّة. 

- تعزيز الشراكة الشعبيّة والمجتمعيّة والوطنيّة، للحفاظ على التعليم من الضياع. 

- تنمية الإحساس بالمسؤوليّة المجتمعيّة لدى جميع الجهات ذات العلاقة. 

- تحقيق التعافي التعليميّ في حدوده الممكنة. 

 

المبادرات تعليميّة الشكل والمضمون 

شكّلت المبادرات التعليميّة، أو مساحات التعلّم، أو الملتقيات التعليميّة، نقطة دخولٍ آمنةً في الاستجابة إلى حالة الطوارئ وتعطّل التعليم في غزّة، سعيًا للوصول إلى التعافي التعليميّ تحت سقف الخيارات المتاحة. 

أخذت المبادرات عدّة أشكالٍ من حيث تبعيّتها، منها:  

- مبادراتٌ تعليميّةٌ ذات طابعٍ فرديٍّ، أطلقها أحد الأفراد، وقام بتنفيذها. 

- مبادراتٌ تعليميّةٌ جماعيّةٌ نفّذها فريق. 

- مبادراتٌ تعليميّةٌ مؤسّسيّة. 

- مبادراتٌ تعليميّةٌ عائليّة. 

- مبادراتٌ تعليميّةٌ تتبع لتنظيماتٍ سياسيّة. 

  

أخذت المبادرات أشكالًا مختلفةً من حيث الأنماط المتّبعة في تنفيذها، مثل: 

- نمط المبادرة العلاجيّة.  

- نمط المبادرة التطويريّة.  

- نمط المبادرة المتخصّصة في مجالٍ محدّدٍ، مثل الفنون، والمسرح، والرسم، والأشغال اليدويّة. 

 

وتنوّعت المبادرات من حيث فئاتها المستهدفة، فكان من بينها: 

- مبادراتٌ تعليميّةٌ شاملةٌ ودامجةٌ للجميع، من دون استثناء. 

- مبادراتٌ تعليميّةٌ خاصّةٌ بذوي الإعاقة، سواء السمعيّة أو الحركيّة. 

- مبادراتٌ تعليميّةٌ خاصّةٌ بالطلبة الأيتام. 

- مبادراتٌ تعليميّةٌ خاصّةٌ بأصحاب المواهب والإبداعات. 

- مبادراتٌ تعليميّةٌ خاصّةٌ بالطفولة المبكّرة. 

- مبادراتٌ تعليميّةٌ خاصّةٌ بطلبة الثانويّة العامّة.  

- مبادراتٌ تعليميّةٌ جامعيّة.  

- مبادراتٌ تعليميّةٌ خاصّةٌ بتحفيظ القرآن.  

- مبادراتٌ تعليميّةٌ افتراضيّة. 

 

المحتوى التعليميّ داخل المبادرات التعليميّة 

بحكم عملي ميسّرًا لمبادراتٍ تعليميّةٍ في الميدان، لاحظت أنّ تركيز المبادرين من المعلّمين والمعلّمات في سياق عملهم داخل المبادرات، انصبّ على ضمان التحاق الأطفال والطلبة بأيّ جهدٍ تعليميٍّ مُنظّمٍ، يعوّضهم الفاقد التعليميّ الذي تعرّضوا إليه، مركّزين على: 

- تنفيذ التهيئة النفسيّة، والتركيز عليها بصورةٍ مستمرّة. 

- تزويد الطلبة بالمهارات الأساسيّة في اللغتين العربيّة والإنجليزيّة، والرياضيّات. 

- استرجاع المحتوى التعليميّ للسنوات السابقة. 

- اعتماد الرزم التعليميّة المحدّدة من وزارة التربية والتعليم. 

- توظيف بطاقات التعلّم العلاجيّ. 

- اعتماد منهاج رياض الأطفال لمبادرات الطفولة المبكّرة. 

- تنمية المهارات الحياتيّة المختلفة لدى الطلبة. 

 

نمط التعليم المقدّم ضمن المبادرات التعليميّة في غزّة 

فرضت حالة الطوارئ على المعلّمين والمعلّمات المسؤولين عن تنفيذ المبادرات التعليميّة، تقديم أشكالٍ متنوّعةٍ من التعليم، تختلف من حيث الشكل والمضمون. فقدّم البعض التعليم المُسرّع، لتهيئة الطلبة للانتقال إلى مستوًى تعليميٍّ أعلى ضمن السلّم التعليميّ الفلسطينيّ، فيما قدّم البعض الآخر التعليم العلاجيّ، لسدّ الفجوات الناتجة عن الفاقد التعليميّ. واعتمد مبادرون آخرون على تبنّي التعليم الشموليّ والدامج، أو اعتمدوا التعليم المستند إلى المنهاج الرسميّ الذي حدّدته الوزارة قبل الحرب. في المقابل، لجأ آخرون إلى التعليم المختصر، لمواءمة العمليّة التعليميّة مع سياقات حالة الطوارئ المتغيّرة.  

 

 مساراتٌ تعليميّةٌ مغايرةٌ للانعتاق من القوالب القديمة 

ما الذي ميّز التعليم ضمن المبادرات في قطاع غزّه في ظلّ حالة الطوارئ؟  

قدّمت المبادرات التعليميّة خلال الحرب نموذجًا بديلًا عن التعليم الرسميّ، مستندةً في توجّهاتها إلى معايير الحدّ الأدنى للتعليم في حالات الطوارئ. ركّزت هذه المعايير على ضمان تحقيق الاستجابة التعليميّة في حالة الطوارئ، وشملت مختلف مكوّنات العمليّة التعليميّة، بدءًا من دعم الطالب والمعلّم، مرورًا بتطوير المحتوى التعليميّ، وصولًا إلى تحسين البيئة التعليميّة. كما تميّز التعليم عبر المبادرات بالمرونة المكانيّة والزمنيّة، إذ تنقّل المعلّمون المبادرون للوصول إلى الطلبة، مستجيبين إلى حالات النزوح داخل مراكز الإيواء، ومخيّمات النزوح. كما امتازت المبادرات بتوفير التعليم الشامل للجميع، وغياب البروتوكولات والتعقيدات الإداريّة الرسميّة. 

شهدت المبادرات مشاركةً واسعةً من مختلف الفئات، مثل المتطوّعين، والخرّيجين، والنشطاء، والأهالي، والمتقاعدين من المعلّمين. وقدّمت مسارًا للتعافي وبناء الصمود، وأنشطةً للدعم النفسيّ والاجتماعيّ لتخفيف الإجهاد، ووفّرت فضاءً لعرض مواهب الطلّاب وإبداعاتهم. كما شكّلت مساحةً لحشد الجهود المجتمعيّة والمؤسّسيّة، لدعم هذه المبادرات وضمان استدامتها بالاستفادة من الموارد المتاحة.  

 

عقباتٌ وتحدّياتٌ في طريق المبادرات التعليميّة 

يُجمع الكلّ على أنّ المبادرات التعليميّة كانت الشمعة التي أضاءت وسط ظلام الحرب وآلامها. لم يكن طريق المعلّمين والمعلّمات المبادرين مفروشًا بالورود، بل كانت العمليّة التعليميّة، وما تزال، محفوفةً بالمشقّة والخطر. وقد كشف الميدان عن الكثير من العراقيل التي واجهت المبادرين، مثل الظروف الأمنيّة الخطيرة، المتمثّلة بالقصف العشوائيّ للخيام التعليميّة ومحيطها، وحالات النزوح المتكرّر التي تشتّت الأطفال والمعلّمين، وتؤدّي في كثير من الأحيان إلى تعطيل المبادرات؛ وعدم توفّر الاحتياجات الأساسيّة والقرطاسيّة في الأسواق نتيجة الإغلاق الشامل للمعابر؛ وضعف التجهيزات؛ وعدم تلقّي المبادرين مكافآتٍ ماليّةً نظير جهودهم؛ وعدم قدرة الطلبة وأهاليهم على سدّ احتياجاتهم الأساسيّة. 

 

مستقبل المبادرات التعليميّة 

فرضت الحرب على غزّة واقعًا جديدًا وصعبًا طال المنظومة التعليميّة بأكملها، وتسبّب في تدمير البنية التحتيّة للتعليم، ما أدّى إلى حرمان الطلبة من تعليمهم لأكثر من سنة.  

في الآونة الأخيرة، توسّعت جهود استعادة العمليّة التعليميّة من خلال وزارة التربية والتعليم، بالتنسيق مع مجموعةٍ من المؤسّسات الدوليّة المعنيّة بالتعليم، مثل اليونيسف، والتي تمتلك قدراتٍ لوجستيّةً وتنسيقيّةً مهمّةً، ولا سيّما في التنسيق مع الجانب الإسرائيليّ، لضمان استمراريّة العمل في المجالات الإنسانيّة التي يعدّ التعليم من أبرزها. كما أسهمت المؤسّسات المحلّيّة، مثل جمعيّات المجتمع المدنيّ والمراكز المجتمعيّة، في توجيه مواردها لدعم التعليم استجابةً لحالة الطوارئ، مع توفير المساحات التعليميّة الضروريّة. وفي سياق هذه الجهود، عملت وزارة التربية والتعليم على توفير المعلّمين لهذه المبادرات، بينما تكفّلت اليونيسيف بدفع أجورهم، وتوفير الاحتياجات اللازمة للمساحات التعليميّة. 

بالنظر إلى تقييم حالة الاستجابة، تظهر المؤشّرات وجود 405 مساحاتٍ تعليميّةٍ مسجّلةٍ رسميًّا لدى مجموعة التعليم وقت الطوارئ (Education Cluster)، يلتحق بها 104,156 طالبًا وطالبة. يعني هذا أنّ الطريق لا يزال طويلًا لضمان التحاق جميع الطلبة في سنّ المدرسة، والذين يبلغ عددهم 700 ألف طالبٍ حسب وزارة التربية والتعليم. كما يشير هذا إلى تواضع حالة الاستجابة إلى الظروف الاستثنائيّة، وإلى أنّه وعلى رغم الجهود التي تقدّمها المبادرات، إلّا أنّها لم تصل إلى الجميع، وسيظلّ عددٌ كبيرٌ من الطلبة خارج العمليّة التعليميّة، ما لم يسارع المستوى الرسميّ، بالتعاون مع الشركاء، إلى إيجاد مسارات تعلّمٍ تضمن التحاق الجميع بالتعليم. 

يمكن لوزارة التربية والتعليم استثمار هذه الجهود للوصول إلى جميع الطلبة، والبناء على الإنجازات التي حقّقتها المبادرات التعليميّة في الميدان، بتبنّيها ودعمها باعتبارها تعليمًا مجتمعيًّا، يأخذ الطابع الشعبيّ، ويلتزم بتوجّهات المستوى الرسميّ.  

 

***  

يتطلّب التعامل مع حالة الطوارئ التي أوجدها العدوان الإسرائيليّ، التفكير في بدائل عمليّةٍ يمكنها تعويض الطلبة عن انقطاع التعليم المدرسيّ، وتدمير البنية التحتيّة. يقع هذا العبء على عاتق صنّاع القرار الذين يتوجّب عليهم رسم الخطط، واتّخاذ التدابير الكفيلة بضمان استمرار العمليّة التعليميّة، مثل تبنّي المبادرات التعليمّية القائمة في الميدان، ودعم التعليم الشعبيّ والمدارس المجتمعيّة، واستثمار الخيام ومقرّات المؤسّسات، لتقديم التعليم، ولو بالحدود الدنيا. 

 

المراجع

-التقرير الأسبوعيّ لانتهاكات الاحتلال بحقّ التعليم، 2024/12/10 - 2023/10/7. (2024). وزارة الصحّة الفلسطينيّة. متاح على www.moh.pna.ps.