في الوقت الذي تشهد فيه المدارس في العالم العربيّ تحدّياتٍ متزايدةً، في ظلّ التطوّرات الاجتماعيّة والتكنولوجيّة، يواجه المعلّمون ضغوطًا كبيرةً لتحقيق النجاح الأكاديميّ، وتلبية احتياجات الطلّاب المتنوّعة، والتي قد تؤدّي إلى حدوث احتراقٍ لدى الموظّفين. والاحتراق حالةٌ من التوتّر النفسيّ، يمكن أن تؤثّر سلبًا في صحّة المعلّمين وأدائهم المهنيّ. يهدف هذا المقال إلى استكشاف أسباب احتراق المعلّمين في مدارس العالم العربيّ وآثاره، إلى جانب تقديم استراتيجيّاتٍ فعّالةٍ لمعالجته والوقاية منه.
تعريف الاحتراق الوظيفيّ
تُعرّف عيادة مايو كلينك (2024) الاحتراق الوظيفيّ بأنّه: "أحد أنواع الضغط المرتبطة بالعمل، والذي ينطوي على الشعور بالإرهاق جسديًّا أو عاطفيًّا. قد يؤدّي الإنهاك الوظيفيّ إلى الشعور بعدم الفائدة، والعجز، والفراغ". كما تعرّف منظّمة الصحّة العالميّة (2024) هذه "الظاهرة" بـأنّها متلازمةٌ ناتجةٌ عن الإجهاد المستمرّ في مكان العمل، والذي لم تتمّ إدارته بنجاح، وهي تتميّز بثلاثة أبعادٍ رئيسةٍ، هي:
- الشعور بالإرهاق أو نفاد الطاقة.
- الانفصال العقليّ عن العمل، أو الشعور بالسلبيّة أو السخط المرتبط بالوظيفة.
- تدنّي الفعّاليّة المهنيّة.
ويصف الكاتبان بروكتر وبروكتر (2013) الظاهرة بكونها: "لا تحدث لنا بين عشيّةٍ وضحاها، ولكنّها النتيجة النهائيّة لعمليّةٍ طويلةٍ وبطيئةٍ، يعمل خلالها الفرد بجدّيّةٍ كبيرةٍ، ويضع احتياجاته الخاصّة في المقام الأخير، ثمّ يبدأ شعوره بالبؤس والعزلة والإنكار لما يحدث، إلى أن تبدأ قيمه بالموت شيئًا فشيئًا، ما يؤدّي إلى الإحباط والشعور بالفراغ الداخليّ، وأخيرًا الانهيار على الصعيدَين الجسديّ والعقليّ".
تجدر الإشارة الى أنّ المعلّمين على وجه الخصوص يعانون هذه الحالة، عندما يشعرون بالتوتّر المتزايد نتيجةً للضغوطات الأكاديميّة، والاجتماعيّة، والتنظيميّة التي يواجهونها يوميًّا. عمومًا، يمكن أن يؤدّي احتراق الموظّفين إلى انخفاض مستويات الرضا الوظيفيّ، وزيادة معدّلات التغيّب عن العمل، وتدهور العلاقات الاجتماعيّة والشخصيّة.
أسباب احتراق المعلّمين وظيفيًّا في المدارس
يذكر العتيبي (2005) في مقالته "الاحتراق النفسيّ لدى المعلّمين العاملين في معاهد التربية الفكريّة"، أسبابًا عديدةً للاحتراق الوظيفيّ لدى المعلّمين في المدارس، والتي يمكن أن يرتبط أغلبها ارتباطًا وثيقًا بخصوصيّة هذه المهنة على مستوى العالم عمومًا، وفي عالمنا العربيّ على وجه الخصوص. وفي الآتي أبرز هذه الأسباب:
العـدد الـزائد للطلّاب داخل الصفّ
يمكن أن يؤثّر هذا العامل في قدرة المعلّم على التركيز بشكلٍ فعّالٍ على احتياجات الطلّاب الفرديّة، وتقديم الدعم اللازم لهم بناءً على تلك الاحتياجات. وعلى الرغم من أنّ مؤسّسات التعليم الحديثة تحدّد عدد الطلّاب في الفصل الدراسيّ الواحد، إلّا أنّ العديد من المؤسّسات الحكوميّة تجد نفسها مجبرةً على استيعاب أعدادٍ كبيرةٍ من الطلّاب في فصولها الدراسيّة؛ ما يشكّل عبئًا كبيرًا على المعلّمين، ولا سيّما في ظلّ غياب المصادر التعليميّة المناسبة التي تسهم في إعداد خطّةٍ تربويّةٍ مخصّصةٍ لكلّ طالب.
زيادة حجم الأعمـال المكتبـيّة الملقاة على عاتق المعلّم داخل الصفّ وخارجه
من المعروف أنّ مهنة التعليم لا تقتصر على مهمّة تقديم الدروس فحسب، بل تشمل أيضًا العديد من الأعمال المكتبيّة، مثل: إعداد الخطط التعليميّة، وكتابة التقارير، وتحضير المصادر والتوثيق. عندما تتزايد هذه الأعمال بشكلٍ ضاغطٍ، تصبح عبئًا ثقيلًا على المعلّمين، وتعوقهم عن التركيز على أداء مهامهم الأساسيّة، وتتسبّب في إرهاقهم، ولا سيّما في حال عدم وجود مساعدي تدريسٍ لتقديم المساعدة اللازمة.
النقص في دعم الإدارة
لا تجد الكثير من أفكار المعلّمين وطلباتهم تجاوبًا من الجهاز الإداريّ في المدارس، وقد يرجع ذلك إلى أسبابٍ مختلفةٍ، ما يؤدّي إلى إحساس المعلّمين بالإحباط، وأنّهم يكافحون وحدهم، من دون أيّ دعمٍ حقيقيٍّ من الإدارة التي من المفترض أن تقف إلى جانبهم.
المشــاكل المــرتبطة بطبــيعة العمــل
لا شكّ في أنّ مهنة التعليم تتطلّب جهودًا كبيرةً، وتركيزًا عاليًا، وكفاءةً مهنيّةً، وهي متطلّبات قد يصعب ضمان استمرارها لدى جميع المعلّمين، نظرًا إلى التحدّيات المرتبطة بهذه الوظيفة، مثل التعامل مع الفئات العمريّة المختلفة، وعدد الحصص المخصّصة لكلّ معلّمٍ، وتفاوت قدرات الاستيعاب والتحصيل العلميّ بين الطلّاب، والأنماط السلوكيّة المتنوّعة للطلّاب، ووجود ذوي احتياجاتٍ خاصّةٍ بينهم، ونقص الدعم والتعاون بين الزملاء. كلّ هذه المشكلات، أو بعضها، قد يدفع بالكثير من المعلّمين إلى ترك المهنة، وتفضيل وظائف أخرى عليها.
عوامل تنظيميّة داخل المؤسّسات التعليميّة
يذكر العتيبي (2005) اثنين من العوامل التنظيميّة التي تؤدّي إلى الاحتراق الوظيفيّ لدى المعلّم، وهما: تعارض الأدوار (Role Conflict)، وعدم وضوح الأدوار (Role Ambiguity). يظهر أوّلهما في الاختلاف بين ما هو مطلوبٌ نظريًّا من المعلّمين، وما هو موجودٌ فعلًا على أرض الواقع. ويحدث الثاني في حال عدم تقديم معلوماتٍ كافيةٍ للمعلّمين، تسهّل قيامهم بواجباتهم بشكلٍ دقيق. كلا هذَين العاملَين يؤدّيان إلى خلق فجوةٍ بين ما يعتقد المعلّمون أنّه الطريقة الصحيحة لأداء العمل، وما يتوقّعه منهم المشرفون والمدراء، ليفاجأ المعلّمون في نهاية السنة الدراسيّة بنتائج تقييمٍ متدنّيةٍ، لا تعكس طموحاتهم وجهودهم.
التفاعل السلبيّ مع المحيط المدرسيّ
عندما لا يتمكّن المعلّمون من بناء تفاعلٍ إيجابيٍّ مع زملائهم، أو طلّابهم، أو أولياء الأمور، ينعكس ذلك بشكلٍ مباشرٍ على أدائهم، ويدفعهم إلى الإحساس بعدم التقدير.
غياب فرص التطوير المهنيّ
يؤدّي غياب فرص التطوير المهنيّ أو عدم الاستفادة منها، إلى عدم قدرة المعلّمين على مواكبة التطوّرات، وتأخّرهم في الإيفاء بالتزاماتهم المهنيّة. فالمعلّمون الذين لا يستطيعون تطوير مهاراتهم، يجدون أنفسهم غير قادرين على مواكبة كلّ جديدٍ في مجال عملهم، ما يؤدّي بهم إلى الشعور بالعجز عن تقديم ما هو مفيد.
عوامل اجتماعيّةٌ واقتصاديّةٌ
عندما يجد المعلّمون أنفسهم في بيئةٍ لا تقدّر مهنتهم، أو عندما لا توفّر لهم مهنتهم دعمًا ماليًّا كافيًا، يفقدون الإحساس بالانتماء إليها، وتصبح عبئًا ثقيلًا، بدلًا من أن تكون مصدر إلهامٍ وتحقيقٍ للذات.
أسباب خاصّة بمنطقتنا
تجدر الإشارة أيضًا إلى أنّ المعلّمين في العالم العربيّ على وجه الخصوص، يواجهون خطر الاحتراق الوظيفيّ بسبب عوامل خاصّةٍ بهذه المنطقة، منها:
العبء والضغط الناتجان عن محاولة اللحاق بمستويات التعليم المتقدّم
يواجه المعلّمون في مدارس العالم العربيّ عبئًا كبيرًا، إذ يضطرّون إلى بذل جهودٍ مضاعفةٍ، لسدّ الفجوة الكبيرة بين مستوى التعليم العربيّ ونظيره في الدول المتقدّمة. يتجلّى ذلك في محاولات تبنّي مناهج دراسيّةٍ جديدةٍ، واعتماد مصادر تعليميّةٍ تتطلّب جهدًا لإتقان استخدامها، الأمر الذي يحدث غالبًا بسرعةٍ تضع المعلّمين تحت ضغطٍ زائدٍ، ولا سيّما في ظلّ غياب التدريب والوقت الكافيَين.
نقص الموارد والدعم
يعاني العديد من المعلّمين في مدارس العالم العربيّ نقصَ الموارد والدعم على جميع الأصعدة، ما يزيد من مستويات التوتّر والإجهاد. على سبيل المثال، قد يجد المعلّمون أنفسهم غير قادرين على الحصول على الموادّ التعليميّة أو الدعم الفنيّ الضروريّين لتحقيق أهداف التعليم، وهو ما يرجع إلى عددٍ من الأسباب، أهمّها عدم توفّر الميزانيّات اللازمة.
العوامل الثقافيّة والاجتماعيّة
للقيم والتوقّعات الاجتماعيّة دورٌ كبيرٌ في تشكيل تجارب المعلّمين في مدارس العالم العربي. قد يواجه المعلّمون ضغوطًا مجتمعيّةً لتحقيق النجاح والتميّز في مجال التعليم، إضافةً إلى الضغط الناجم عن الاعتقاد بأنّهم يتحمّلون المسؤوليّة الأكبر في تعليم الطلّاب، ما يضاعف من مستويات التوتّر والاحتراق الوظيفيّ لديهم.
آثار الاحتراق الوظيفيّ بين المعلّمين
يمكن أن تكون للاحتراق الوظيفيّ آثارٌ كبيرةٌ في المعلّمين، والطلّاب، والمدارس بشكلٍ عامّ، وتشمل بعض آثاره الرئيسة:
تدهور الأداء الوظيفيّ: يمكن أن يؤدّي احتراق المعلّمين الوظيفيّ إلى تدهور أدائهم الوظيفيّ، حيث يصبح من الصعب عليهم تحقيق أهدافهم التعليميّة والمهنيّة.
انخفاض معدّلات الرضا الوظيفيّ: يمكن أن يسفر احتراق المعلّمين الوظيفيّ عن انخفاض معدّلات الرضا الوظيفيّ، وزيادة معدّلات التغيّب عن العمل، ما ينعكس سلبًا على استمراريّة العمليّة التعليميّة، ويؤدّي إلى تدنّي التحصيل العلميّ لدى الطلاب.
تدهور العلاقات الاجتماعيّة: يمكن أن يؤدّي الاحتراق الوظيفيّ إلى تدهور علاقات المعلّمين الاجتماعيّة والشخصيّة، مسبّبًا المزيد من مشاعر العزلة والاكتئاب.
استراتيجيّات الوقاية وإدارة الاحتراق الوظيفيّ بين المعلّمين
في سياق الحديث عن التأثيرات العميقة لظاهرة الاحتراق الوظيفيّ في المعلّمين، والمتعلّمين، والعمليّة التعليميّة برمّتها، تزايدت الجهود لوضع حلولٍ للوقاية منه والتغلّب عليه، نذكر منها:
تحسين بيئة العمل برسم حدودٍ واضحة
ينبغي أن تسعى الإدارة المدرسيّة لتوفير بيئة عملٍ صحّيّةٍ وداعمةٍ، تشجّع على التعاون والتفاعل الاجتماعيّ الإيجابيّ، مع الحرص على تجنّب تضارب الأدوار وضمان وضوحها. في هذا السياق، يشير إكلوند (2008) إلى أنّ إحدى أهمّ الطرق الوقائيّة ضدّ الاحتراق الوظيفيّ في المدارس رسم الحدود على جميع الأصعدة، أي توضيح الأدوار والتوقّعات من جميع أفراد المجتمع المدرسيّ، وذلك يشمل:
- الحدود الشخصيّة بين الموظّفين.
- الحدود بين الإدارة والمعلّمين.
- تحديد الأدوار وإزالة الغموض.
- تعزيز ثقافة الرعاية والدعم.
على المجتمع المدرسيّ عمومًا، وإدارة المدرسة بشكلٍ خاصّ، تبنّي ثقافة رعايةٍ ودعمٍ، تقدّم الدعم النفسيّ والمادّيّ والاجتماعيّ للمعلّمين. وهذا لا يمكن أن يتحقّق بحسب إكلوند (2008) إلّا بإنشاء بيئةٍ تعليميّةٍ تلبّي احتياجات المعلّمين، وتراعي مشكلاتهم، وتقدّر إنجازاتهم، وتحتفي بنجاحهم، وتساعدهم في تجاوز العقبات التي يواجهونها. من جهةٍ أخرى، على المعلّمين أن يبادروا إلى البحث عن الدعم المناسب، بمجرّد ملاحظتهم أولى علامات الاحتراق والإجهاد.
التطوير المهنيّ وسيلةً لمحاربة الاحتراق الوظيفيّ لدى المعلّمين
تعدّ البرامج التدريبيّة والتطويريّة أداةً أساسيّةً في تعزيز مهارات التدريس وإدارة العمل لدى المعلّمين، ما يسهم في تقليل مستويات التوتّر والضغط الناجمة عن تحدّيات المهنة. فوفقًا لجمعيّة القلب الأمريكيّة (2023)، يمثّل التدريب والتطوير المهنيّ أكثر الوسائل فعاليّةً في الوقاية من الاحتراق الوظيفيّ لدى المعلّمين.
تقليل عبء العمل لمنع الاحتراق الوظيفيّ لدى المعلّمين
يتضمّن تقليص العبء الوظيفيّ عن كاهل المعلّمين، مراجعة توقّعات العمل وضبطها، وتوفير الموارد الكافية، وتبسيط المهام الإداريّة. يسهم هذا في خلق بيئةٍ متوازنةٍ وداعمةٍ، تمكّن المعلّمين من أداء مهامهم بفعّاليّةٍ من دون التعرّض إلى الإجهاد. فمن خلال إعادة تقييم متطلّبات العمل، وإعادة توزيع المهام، وضمان توفّر الموارد الضروريّة، يمكن للمدارس تخفيف الأعباء عن المعلّمين، وتعزيز رضاهم عن عملهم، وزيادة فعّاليّتهم في تقديم تعليمٍ عالي الجودة للطلّاب.
المسارات المهنيّة المستدامة
يزيد توفير مساراتٍ وظيفيّةٍ مستدامةٍ وواضحةٍ للمعلّمين من مستويات الرضا الوظيفيّ، ويقلّل من مستويات الاحتراق. فحسب إكلوند (2008)، عادةً ما يرى المعلّمون أنفسهم كأنّهم يركضون على جهاز المشي، ويحاولون التقدّم من غير جدوى، ما يجعلهم يصابون بالإحباط، ويعتقدون أنّ التقدّم الشخصيّ أمرٌ غير قابلٍ للتحقيق.
في المقابل، عندما يرى المعلّمون أنّ تطوّرهم الشخصيّ والمهنيّ يسير نحو الأمام، وأنّهم في رحلة نموٍّ مستمرّةٍ، تدفعهم الرغبة إلى استكشاف الإمكانيّات الكامنة فيهم وفي طلّابهم، سيحفّزهم ذلك على الالتزام الدائم بالتعليم المبدع.
***
يقول إكلوند (2008) إنّ "ما هو جيّدٌ للمعلّمين هو جيّدٌ للطلّاب"، من منطلق أنّ فاقد الشيء لا يمكنه أن يعطيه. فالمعلّم المجهد، الذي يشعر بالفراغ، ولا يعتقد أنّ لديه ما يقدّمه، لا يمكنه بأيّ حالٍ من الأحوال تقديم تعليمٍ يرقى إلى توقّعات عالمنا الحديث الذي يتميّز بالمنافسة، والتركيز على تقديم الأفضل.
لذلك، يجب النظر إلى احتراق المعلّمين في المدارس العربيّة باعتباره تحدّيًا جدّيًّا، يتطلّب إجراءاتٍ فوريّةً لمعالجته، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلّا بفهم أسباب الاحتراق وآثاره، وتبنّي استراتيجيّاتٍ فعّالةٍ للوقاية منه وإدارته. كما يتوجّب على المدارس توفير بيئاتٍ صحيّةٍ وداعمةٍ للمعلّمين، تهدف إلى تحسين جودة التعليم ونجاح الطلّاب، وتسهم في بناء مجتمعٍ تعليميٍّ صحّيٍّ ومستدامٍ في العالم العربي وخارجه.
المراجع
- العتيبي، بندر. (2005). الاحتراق النفسيّ لدى المعلّمين العاملين في معاهد التربية الفكريّة. مجلّة كليّة تربية عين. 157.
- مايو كلينك. (2024). الاحتراق الوظيفيّ: كيفيّة اكتشافه واتّخاذ اللازم.