اللغة العربيّة وآدابها ليست مادّةً أو تخصّصًا واحدًا، بل هي الموادّ كلّها والتخصّصات جميعها، حيث تتكوّن بنيويّتها من القدرة على الذوبان في سائر السرديّات الأدبيّة والمعادلات العلميّة الأخرى، لتكون مادّة تحليليّة وثقافيّة ومهاريّة في الدرجة الأولى.
يمسك الواقع التربويّ المأزوم بأيدينا نحو حراك تربويّ جديد، إذ بات معروفًا، بل مؤكَّدًا، أنّ التربية اليوم، ولا سيّما التربية العربيّة، تشهد ركودًا واسعًا وديناميكيّةً معطَّلةً، تقف في مقدّمتها وزارات التربية بوصفها المحور الأوّل في منطقة الأزمة، لأنّها الأكثر استشعارًا لهموم المجتمع وحاجات الأهل ومصالح الطلبة، وللتحدّيات التي تواجههم في عالم سريع التغيّر وشديد التعقيد. أمّا ملامح هذا الواقع المأزوم، فنوضّحها في هذا المقال وفق النقاط الآتية:
لغة تعليم العربيّة في المدارس
اللغة في الأصل طيّعة لمعطيات الواقع، وحينما نقول طيّعة لا نعني أبدًا خضوعها بالمطلق للحداثويّة، بل مرونتها الذكيّة في قراءة فقه الواقع التربويّ. لذلك، نرى بعض المعلّمين على طرفي نقيض: فبعضهم يدرّس اللغة العربيّة بالعامية التي تميّع هذه اللغة من حيث صلابة ألفاظها وتعابيرها وسياقاتها؛ وبعضهم الآخر يدرّسها بالفصيحة الجزلة التي تعقّد اللغة وتبني حاجزًا معرفيًّا وتراثيًّا وقوميًّا إزاءها، في حين أنّنا بحاجة اليوم إلى اللغة البيضاء التي تستوعب داخلها الجميع، وهي الجمع بين العاميّة الشفهيّة والفصيحة المكتوبة في آن، أي بين لهجة مسموعة ولغة مقروءة. فلا بدّ من مصالحة الفصحى والعاميّة باستثمار الأنشطة الثقافيّة باللغة العاميّة، كالزجل والفولكلور والأغاني والمسرح، وإدخالها في المناهج كأنشطة تثقيفيّة شفهيّة، لأنّ اللّغة تتدفّق بتناغم، من النطق إلى الكتابة، في نشاط لغويّ مستمرّ، وكلّ منهما يكمِل الآخر إكمالًا لا يمكن الاستغناء عنه.
طلّاب لا يحبّون اللغة العربيّة
في الحقيقة هذه نتيجة، بل شعور طبيعيّ لدى الطلبة؛ فلمّا نقول لغة، لا نعني أبدًا الفصحى أو العاميّة، ولكن نعني تحديدًا بنيويّة اللغة داخل الخطاب اللغويّ. ومنذ زمن بعيد، عزلت اللغة عن الحياة ومتطلّبات العصر، فبقيت محفوظة في الكتب والأبحاث. فعندما يسمع الطالب باللغة العربيّة يتبادر إلى ذهنه، بادئ ذي بدء، سياق اللغة العربيّة التركيبيّ المعقّد، فيعوق هذا التخاطر المعرفيّ في كشف الخطر التربويّ عن اكتشاف روح العصر في عصر ما بعد بعد الحداثة (الذكاء الاصطناعيّ). لذلك، فما يريده الطالب من اللغة هو بنيويّتها، وبكلام أدقّ، خطابها اللغويّ المعاصر، حيث ينكبّ مهتمًّا بمهارات العربيّة التي تستوفي شروط الحداثة، مثل: مهارات الاستماع، ومهارات التحليل، ومهارات الإقناع والتفاوض، ومهارات التواصل والتحدّث، ومهارات الحوار والخطاب والتعبير الجسديّ. هذه المهارات تصبّ مباشرة في براغماتيّة اكتشافه روح عصره، وتوظيفه إيّاها في الميادين المهنيّة والعلميّة.
إدارة تربويّة غير مبالية
اللّامبالاة مشتقّة ومتّسقة مع قيم سوق العمل، العرض والطلب، ولكنّ المميّز هنا أنّ قيمة تسبق الأخرى، سباقًا أكثر جدّيّة، حيث وجود الطلب سابق على ماهيّة العرض؛ فأهل الطلّاب يطلبون الاهتمام بمواد علميّة يرونها سلّم الأولويّات، بناءً على اعتبارات معرفيّة مشوّهة. لذلك، تستجيب المدارس للطلب، "فالزبون دائمًا على حقّ"، وكذلك العمل بروحيّة مبدأ "دعه يعمل، دعه يمرّ". فنرى، نتيجة ذلك، إدارة تربويّة تعدّ اللغة العربيّة درجة ثالثة، انسجامًا مع مفهوم وضع العالم الثالث، فلا تعيرها التركيز اللازم في طرائق تدريسها وأساليبها واستراتيجيّاتها؛ ممّا يعمّق الفجوة بين اللغة العربيّة والمدرسة من جهة، وبينها والطلّاب من جهة أخرى. فإذا كانت المدرسة لا تحتفي بلغتها الأم، فكيف يستطيع أيّ طالب أن يقدّر لغته؟! فالمحكوم يتبع الغالب ويقلّده.
أسلوب إتقان اللغة العربيّة
أفضل أسلوب لتدريس مادّة اللغة العربيّة وآدابها هو التعلّم الذاتيّ أو عصاميّة التعلّم، حيث يعتمد المعلّم الناجح في أسلوبه على خبراته وتجاربه وثقافته، بتوجيه طلبته في أسلوبه نحو التعلّم الذاتيّ، والذي بدوره يوجِّه كلّ فرد وفق ميوله وسرعته الذاتيّة وخصائصه توجيهًا مقصودًا وممنهجًا. وأهمّ مصادر هذا الأسلوب هو الإنترنت، البحث والتنقيب عن المعلومات والمعارف بدقّة متناهية؛ ما يدفع إلى مزيد من القراءة والتدقيق والفضول. أمّا استخدام التكنولوجيا المتقدّمة جدًّا، باعتبارها مصدرًا، فيحوّل الطالب مباشرةً إلى آلة تسليع مباشِرة لرأس المال، ظاهرًا إيّاه كقيمة عرض وطلب، وسالبًا منه كلّ حقّ في تقرير مصيره الفرديّ. أمّا بالنسبة إلى تدريس أدبيّات اللغة العربيّة فيُفضَّل أن يضيف المعلّم إليها من ثقافته ومعارفه، بتحضيرها معرفيًّا وتربويًّا، لتقديمها في قالب جامع للأصول والحداثة في آن، وفق مهارات القرن الواحد والعشرين، لتدخل روح الطلّاب والعصر على حدّ سواء. فعندما يقوم معلّم المادّة، مثلًا، بتدريس قصيدة لشاعر ما، قد يضيف تحليلات من ثقافته ومعارفه الشخصيّة؛ ممّا يثري فهم الطلبة للقصيدة، ويعزِّز تفاعلهم معها، في سياق يجمع بين التقاليد الأدبيّة والمفاهيم الحداثيّة، فضلًا عن تدريب الطلبة على مهارات الخطابة وإلقاء القصيدة.
كما يجدر بنا النظر إلى أهمّيّة مصالحة الأدب مع القواعد اللغويّة، باستثمار الأدب في الإضاءة على بعض اللّافتات النحويّة والصرفيّة والإملائيّة والأخطاء الشائعة (القواعد الوظيفيّة)، بحيث تكون القواعد ممارسة يوميّة، وليست ممارسة أكاديميّة تثير الملل والتعقيد، وتؤدّي بالطالب إلى سوء الفهم، وإلى المزيد من الأخطاء اللغويّة. مثال ذلك، عندما يستنبط المعلّم في النصّ القواعد النحويّة والصرفيّة استنباطًا وظيفيًّا وسريعًا، والتي تحكم هذا النصّ، بدلًا من تخصيص حصص كثيرة للقواعد من دون تحقيق فائدة كبيرة.
مفهوم حرّيّة المعلّم
تنصِّب الهيئة التربويّة في المدارس نفسها أداة حادّة للتربية والتوجيه والإرشاد التربويّ، فهي ضليعة في مراقبة إخفاقات المعلّم المهنيّة والأخلاقيّة. الأمر الذي يربك المعلّم عن مهمّته التعليميّة. كما تجد صعوبة في إسناد وزن أخلاقيّ سليم ومتوازن للمعلّم، بحيث لا قيم ولا أخلاق معترَف بها إلّا تلك التي تضعها أيّ مدرسة؛ مثاليّات تراثيّة أو بروتوكولات سوق العمل التربويّ، ضاربةً بعرض الحائط أخلاقيّات العصر الحديث وضرورة تحقيق توازن بين ما هو قديم وما هو جديد في الأخلاق. فنحن لا نتعاطى مع معلّم أو طالب من عصر صدر الإسلام، كما أنّنا لا نتعاطى معه كما لو كان في أميركا. يواجه المعلّم، نتيجة ذلك، صعوبة في التعبير عن وجهة النظر الأخلاقيّة في تقييم قصّته، إذ نفَتْه المدرسة من التقييم الأخلاقيّ وأوكلت نفسها مهمّة تحقيق هذا السيناريو الأخلاقيّ، والذي لا يؤخذ به في التقييم الأخلاقيّ الموضوعاتيّ غير المتحيِّز.
وَهْم النموذج التربويّ
تتغنّى مؤسّسات الاستشارات التربويّة بالنموذج الغربيّ، وبضرورة الاهتداء به نحو التقدّم، فيظهر النموذج التربويّ الليبراليّ وكأنّه السحر الذي ما إن نأخذ به حتّى تحلّ المشكلات كلّها. فكرة النموذج تعبِّر واقعيًّا عن تحطّم الآمال بالتغيير، وعدم الثقة بالذات، وغياب العقل الموضوعيّ أو الجدليّ. كما تعبِّر عن حالة من الاستلاب، وأوهام كثيرة عن تقدّم النموذج الغربي. وتستحيل إمكانيّة ذلك، لا في إطار النظام الرأسماليّ، ولا في إطار النظام الاشتراكيّ. ولكن، من الممكن، عربيًّا، تحقيق أنموذج خاصّ، يجاري صيرورة واقعنا العربيّ، حيث تستدعي صيرورة التطوّر العربيّ ما أنجزته البشريّة منذ بداية النهضة الأوربيّة من ثورات متلاحقة، وتجاوز مثالبها وخصوصيّاتها الواقعيّة كلّها، والتعامل معها باعتبارها مفاهيم تعبِّر عن ثورات وبنى اجتماعيّة متمايزة عن بنيتنا العربيّة، والعمل على تنوير عقلانيّ للفكر العربيّ - الإسلاميّ، يتواصل ويتمفصل مع مفكّري النهضة العربيّة، من دون قطيعة مع مفكّري الغرب. هذا الفعل المركّب، لا بدّ أن يستند إلى منهجيّة تربويّة كلّيّة وقادرة على الدمج بين النموذج والتكامل والتميّز والتمايز، وصياغة رؤية جديدة لا تُكرِّر النموذج الغربيّ، ولا تستقلّ بالواقع العربيّ، وكأنّه خارج التاريخ الموحَّد للبشريّة.
مفهوم الحراك التربويّ
لن تأتي مستلزمات حراك تربويّ مأمول إلاّ إذا علمنا جميعًا، معلّمين وإداريّين، محلّيّين ومركزيّين، وأهل مؤسّسات اجتماعيّة، أنّه لم يعد ممكنًا استعادة التاريخ الإسلاميّ، كما الليبراليّ الغربيّ، إلاّ بالوعي المزيّف والوهم الأنطولوجيّ. فطريق خلاصنا هو طريق حداثتنا المرتبط بالمشروع المميّز عربيًّا، والذي سيكون مشروعًا مشتقًّا من إرث البشريّة الخالد في قراءة التاريخ البشريّ وحدةً بنيويّةً من دون أحاديّة تاريخيّة ينتصر فيها طرف على طرف، الحقّ والباطل. فنحن بإمكاننا أن نأخذ خير ما في الحقّ وخير ما في الباطل، إذ هي غالبًا تصنيفات عقائديّة وغير مرتبطة بالمعرفة بصلة.
* * *
ختامًا، اللغة ليست للاتّصال بين الناس والتعايش معهم فحسب، بل هي الوعاء الذي يستوعب الأفكار والثقافات والشعوب والحضارات، حيث تتمتّع اللغة العربيّة بنظام رباعيّ الدفع، بجميع العجلات السوسيولوجيّة: الأصل التاريخيّ، والحداثة السليمة، والأسلوب المعاصر، والمشروع المتمايز. وهو نظام يرسل في اللغة القوّة إلى العجلات الأربع جميعها في كلّ زمان ومكان، ويمكِّن اللغة من العمل في كلّ التضاريس، وتحت أيّ ظروف، لتكون لغة نشطة في صيرورة الحضارة العربيّة المعاصرة.