هل يمكن استبدال التطوير المهنيّ بجلسات تأمّليّة؟ 
يسلّط هذا المقال الضوء على أثر الممارسات التأمّليّة التي ينفّذها المعلّمون في تطوير ممارساتهم التعليميّة وتقييمها، بمشاركة تجربة شخصيّة تتبنّى عقليّة النموّ، وتؤمن بأنّها تؤدّي دورًا حاسمًا في زيادة فعّاليّة الجلسات التأمّليّة وتطوير معلّمين قادرين على ال
هل يمكن استبدال التطوير المهنيّ بجلسات تأمّليّة؟ 
يسلّط هذا المقال الضوء على أثر الممارسات التأمّليّة التي ينفّذها المعلّمون في تطوير ممارساتهم التعليميّة وتقييمها، بمشاركة تجربة شخصيّة تتبنّى عقليّة النموّ، وتؤمن بأنّها تؤدّي دورًا حاسمًا في زيادة فعّاليّة الجلسات التأمّليّة وتطوير معلّمين قادرين على ال
مرام عبد العزيز غانم | معلّمة صفّ في برنامج السنوات الابتدائيّة - الأردن/قطر

يُعنَى الكثير من المعلّمين بتطوير أنفسهم وكفاءاتهم، وينتهزون الفرص للالتحاق بالورشات التدريبيّة والبحث عنها، ربّما بتوصيّات الإدارة، أو سعيًا لترقية ما، أو لتطوير الأداء المهنيّ. فكثير منهم يشعر بالعجز أو الإحباط إذا ما فشل في إدارة صفّه أو التخطيط لدرسه، فتتزايد قناعاتهم بأنّ الورشات التدريبيّة هي الحلّ الأمثل لتطوير مهاراتهم التي يتطلّبها التعليم الفعّال. لكن ما يغفل عنه الكثير من المعلّمين أنّهم يستطيعون تطوير معارف جديدة ذات صلة بالممارسات التربويّة، والقدرة على مواجهة التحدّيات بالتأمّل الذاتيّ أو الجماعيّ داخل المدرسة وخارجها.   

 

يسلّط هذا المقال الضوء على أثر الممارسات التأمّليّة التي ينفّذها المعلّمون في تطوير ممارساتهم التعليميّة وتقييمها، بمشاركة تجربة شخصيّة تتبنّى عقليّة النموّ، وتؤمن بأنّها تؤدّي دورًا حاسمًا في زيادة فعّاليّة الجلسات التأمّليّة وتطوير معلّمين قادرين على التعامل مع الفشل أو الإخفاق تعاملًا إيجابيًّا، واعتباره خطوة في طريق النجاح، ووسيلة لتعليمنا الصبر والمثابرة والاستمرار في المحاولة حتّى تحقيق الأهداف.   

 

ما الممارسات التأمّليّة؟   

تعدّدت تعريفات الممارسات التأمّليّة، ولكنّها تلتقي في أنّها واحدة من الطرائق التي يتعلّمها الناس لفهم ممارساتهم وتطويرها، وتستند إلى افتراض مفاده أنّ الفرد يتعلّم بالتفكير في الأشياء التي حدثت معه، والنظر إليها من جوانب مختلفة تمكِّنه من اتّخاذ قرار حكيم ومناسب يتعلّق بعمله (Jasper, 2003). ويشير Knowles (2008) إلى أنّ ممارسة التأمّل هي العمليّة التي يكون فيها الفرد قادرًا على توليد الوعي الذاتيّ إزاء الممارسة الذاتيّة، وممارسات الآخرين الذين يعمل معهم لتوليد معارف جديدة وبنائها (عبيدات، 2017).  

 

المساحة الآمنة   

سأطفئ شمعة السنة الخامسة في تدريس الصفّ الثالث الابتدائيّ هذه السنة، علمًا بأنّ هذه الخبرة في المدرسة ذاتها والصفّ ذاته شكّلت أحد التصوّرات الخاطئة التي كنت أتبنّاها، والتي كانت مبنيّة على دراستي الجامعيّة وما علق في ذهني من ممارسات المعلّمين خلال سنوات دراستي. فالتخطيط الجيّد واستخدام استراتيجيّات التدريس والتقييم المناسبة، والاجتماعات الأسبوعيّة مع أعضاء الفريق تفضي إلى حصّة مثاليّة خالية من الأخطاء. لكن، أعترف بكلّ شفافيّة بأنّ ذلك لم ينجح تمامًا.  

 

تعتمد المدرسة التي أعمل فيها نظام البكالوريا الدوليّة، حيث يقترح هذا البرنامج أن يشارك المعلّمون في التأمّل في ممارساتهم، فرادى، وبالتعاون مع زملائهم، من منطلق تبادل الأفكار ونقاط القوّة، واضعين نصب أعينهم الهدف الأساس المتمثّل في تحسين تعليمهم من أجل تحسين تعلّم الطالب (لكي يتحقّق برنامج السنوات الابتدائيّة 2010).   

وهذا ما يعطي المعلّمين المساحة الآمنة التي تسمح بمشاركة إحباطاتهم قبل إنجازاتهم، حيث يستطيع المعلّمون الحديث عن تجاربهم من دون قلق من أيّ تبعات. وبذلك، لا تقف عمليّة التأمّل عند حدود معيّنة.   

 

في غرفة الاجتماعات   

يجتمع المعلّمون أسبوعيًّا للتخطيط للوحدة البحثيّة، ويطلَب إليهم دائمًا أن يكونوا حاضرين ومستعدّين لهذا الاجتماع حتّى يتبادلوا الأفكار والاقتراحات التي تثري النقاش وتزيد من فاعليّته.  

في الحقيقة، كنت في معظم الأوقات أحمل معي دفتر ملاحظاتي، وقد دوّنت فيه بعض الأفكار التي أرغب في طرحها على أعضاء الفريق، بعد بحث كبير عن استراتيجيّات متعدّدة، وقراءة العديد من المقالات المرتبطة بالوحدة البحثيّة لأشاركها مع زملائي.  

عادةً ما يبدأ الاجتماع باستحضار الفكرة المركزيّة وخطوط بحثها، ثمّ نبدأ بطرح الأسئلة. وهنا، يستحضر كلٌّ منّا خبرته وتعلّمه ليشاركهما مع الزملاء.   

 

في وحدة "نتشارك الكوكب"، والتي تتحدّث عن الممارسات المستدامة التي من شأنها الحفاظ على البيئة ومواردها، اقترحت إحدى المعلّمات استراتيجيّة الطبشورة، وهي إحدى استراتيجيّات التعلّم النشط؛ حيث يطلب هذا الروتين إلى الطلّاب التفكير بالأفكار أو الأسئلة أو المشكلات، بالردّ كتابةً على الموجِّه. توفِّر هذه "المحادثة الصامتة" للطلّاب الوقت الكافي لمتابعة أفكارهم، من دون مقاطعتها، باختيار الوقت المناسب لهم، للنظر في وجهات النظر الأخرى وإبداء التعليقات. أجمع الفريق في ذلك الوقت على استخدام تلك الاستراتيجيّة تهيئةً للوحدة البحثيّة. كما اتُّفِق على استخدام استراتيجيّة التعريف بالإجماع، وهي استراتيجيّة تهدف إلى التوصّل إلى اتّفاق أو قرار بالمناقشة المفتوحة والتعاون. ينطوي ذلك على الاستماع الفعّال، واحترام آراء الآخرين، وإيجاد أرضيّة مشتركة، ليتوصّل الطلبة إلى مفهوم الموارد الطبيعيّة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّنا استخدمنا هاتين الاستراتيجيّتين في السنة الماضية للوحدة البحثيّة ذاتها. وكعادتنا، انطلقنا جميعًا إلى فصولنا الدراسيّة، متحمّسين لتطبيق ما اتّفِق عليه.  

 

لم أنتظر الاجتماع التالي لأخبر زميلاتي بخيبة الأمل التي رافقتني بعد خروجي من الصفّ، فلم يتفاعل الطلبة مع الاستراتيجيّة، إذ لم تكن ملهمة بما يكفي لتحفيز فضولهم. بينما تجنّب بعضهم المشاركة، وبعضهم الآخر كان أقلّ فعّاليّة في النقاش. كان حديثي مع الزميلات تأمّلًا سطحيًّا لم يتجاوز في حدوده وصف المشهد الصفّيّ وما حدث، من دون التحليل الدقيق، أو حتّى اقتراح حلول أو بدائل. وهنا قرّرتُ العودة إلى دفتر يوميّاتي باعتباره أداة التأمّل الخاصّة بي، لاسترجاع أحداث الحصّة ومعرفة أسباب إخفاقها ومعالجتها، وإيجاد بدائل وحلول للتغلّب عليها في الحصّة القادمة.   

 

أنا على انفراد... من التأمّل الذاتيّ إلى التأمّلات الجماعيّة  

هذا ما أخبرتُ به زميلاتي في الفريق. أحتاج إلى أن أجلس على انفراد. بدأتُ بالتأمّل الوصفيّ لاسترجاع كلّ ما حدث داخل الحصّة، ثمّ بدأتُ بكتابة تفسيرات متعدّدة لها، بعد التحليل العميق لفهم العوامل التي أدّت إلى فشل الاستراتيجيّة، وكيفيّة تحسينها، لتلبية احتياجات الطلّاب وتشجيع تفاعلهم الإيجابيّ. وجدتُ أنّ هناك حلقات مفقودة في تسلسل الحصّة، وأنّ الاستراتيجيّة المُتَّبعة كانت مناسبة تمامًا مع بعض طلبة الصفوف الأخرى، إلّا أنّها لم تناسب ميول طلبتي واهتماماتهم. بحثتُ طويلًا في مصادر متعدّدة، وأعدتُ تدوين الأفكار الجديدة وتنظيمها مرّة أخرى. ويمكن الادّعاء هنا أنّ الممارسات التأمّليّة تخفِّض درجة التوتّر والقلق والانفعالات غير المرغوبة، فتسمح بغرس الشعور بالرضا والدافعيّة؛ ممّا يزيد القدرة والإرادة لإنجاز الأهداف المرغوبة، ولكنّها تحتاج إلى قدرٍ كبير من الوقت والجهد والتنظيم. كما يمكن النظر إليها بوصفها بديلًا إضافيًّا من آليّات التطوير المهنيّ السائدة، لأنّها تؤدّي إلى التعمّق في معرفة الذات، وتطوير معارف جديدة ذات صلة بالممارسات التربويّة، وقدرة أكبر على حلّ المشكلات التي تواجه المعلّمين في الميدان. (كشك، 2023).   

 

بدأ توحيد الأفكار وتكوين روابط أعمق وأوضح عندما شاركتُ تأمّلي مع الزملاء في الفريق. تطوّرت الفكرة كثيرًا، حيث فتح التأمّل لنا آفاقًا للابتكار والإبداع، وأصبحت الخطّة أوضح، حيث اعتمدنا أوّلًا استراتيجيّة التخيّل (التعليم التخيّليّ)، إذ عرّفها جاليين، المشار إليه في العرجة (2004، ص16) بأنّها تعليم وتعلّم تُستَغلّ فيه الإمكانات الهائلة للعقل الإنسانيّ في التخيّل والتبصّر في الموضوعات المختلفة. وتساعد الطالب على تكوين صورة ذهنيّة ترتبط بموضوع التعلّم، وتهدف إلى إثراء المنهج باللبنات العقليّة التي تعتمد على تصوّرات عقليّة موجَّهة.   

 

وُظِّفت هذه الاستراتيجيّة توظيفًا يصف فيه الطلبة كوكب الأرض كما يرونه في الوقت الحاليّ، ويتخيّلون شكله بعد عشرين سنةً، بالاستناد إلى تصرّفات الإنسان وممارساته على كوكب الأرض.   

كما اتُّفِق على استخدام استراتيجيّة دائرة وجهات النظر، حيث يساعد هذا الروتين الطلّاب على رؤية وجهات نظر متعدّدة واستكشافها، والتركيز على افتراضات واقتراحات الآخرين لفهم المشكلة فهمًا كلّيًّا.  

 

وداعًا للعقليّة الثابتة وأهلًا بعقليّة النموّ   

ممّا لا شكّ فيه أنّ الجلسات التأمّليّة تزيد وعي المعلّم بأهمّيّة التقييم الذاتيّ لممارساته المهنيّة، وتضعه على الطريق الصحيح، وتجعله أكثر وعيًا بمستوى تقدّمه وتقدّم طلّابه التعليميّ، وأكثر قدرة على اختيار الاستراتيجيّات والطرق لبناء المعرفة التي يحتاج إليها لحلّ المشكلة. اتّضح ذلك جليًّا بعد تطبيق الدرس بطريقة أخرى، حيث اندمج الطلبة في تعلّمهم، وطرحوا تساؤلات متعدّدة عكست اهتمامهم وفضولهم. وتجدر الإشارة هنا إلى النقاش والتفكير المعمّق الذي كان يدور في الغرفة الصفّيّة حول مسؤوليّتنا، سكانًا للكوكب، والتي تتمثّل في حمايته والمحافظة على توازن الطبيعة. قاد تفكير الطلّاب إلى إدراكهم بأنّ ردود أفعال الأرض المختلفة ما هي إلّا تعبير عن حاجتها إلى التحذير من تلك التحدّيات التي تواجهها، وضرورة التحرّك بفعّاليّة للمحافظة على بيئتنا.   

 

ذهب الطلّاب في تفكيرهم إلى مستويات عليا، واستطاعوا التوصّل إلى استنتاجات جديدة قادت عمليّة البحث والتقصّي في ما بعد؛ ممّا جعلني أتحرّر أكثر فأكثر من فكرة أنّ الفشل ليس نقصًا في قدراتنا، وأنّ الأشخاص الذين يملكون عقليّة ثابتة يقرّرون الاكتفاء بما يمتلكون من مهارات ومعارف، فيكونون أقلّ تطوّرًا ونموًّا من أولئك الذي لديهم عقليّة متطوّرة وقابلة للنموّ، والذين يثقون بإمكانيّة تطوير قدراتهم ومواهبهم بوضع استراتيجيّات جيّدة، والإفادة من خبرات الآخرين.   

 

* * * 

في الختام، يُمكنني التأكيد على تفرّد كلّ مدرسة عن الأخرى، وتميّز كلّ صفّ دراسيّ عن غيره من الصفوف في المدرسة نفسها. وفي الصفّ نفسه، لدينا طلّاب مختلفون في قدراتهم وميولهم وذكاءاتهم. فمن غير الصحيح تكرار تجاربنا التربويّة وتخطيطنا السابق من دون تأمّله وإعادة النظر فيه، لما له من تأثير في تقييم ممارساتنا التعليميّة وتطويرنا التربويّ.   

 

المراجع  

- عبيدات، لمياء. (2017). واقع الممارسات التأمّليّة وأثرها في دافعيّة الإنجاز لدى معلّمي المرحلة الأساسيّة العليا في محافظة إربد. مجلّة جامعة النجاح للأبحاث. 31(12).  

- ريتشاردسون، ويل. (2019). من المعلّم البارع إلى المتعلّم البارع. دار الكتاب التربويّ للنشر والتوزيع.   

- كشك، وائل. (2023). تطوير برامج التربية العمليّة لمعلّمي ما قبل الخدمة في ضوء المدخل التأمّليّ السرّيّ. إصدارات ترشيد التربويّة.

- منظّمة البكالوريا الدوليّة. (2010). لكي يتحقّق برنامج السنوات الابتدائيّة.  

- جاليين، بفرلي- كوين. (1988). التعلّم من خلال التخيّل. منشورات معهد التربية الأونوروا/ اليونسكو. 

- Jasper, m. (2009, Feb). beginning reflective practice Cheltenham. Cambridge University Press.   

- Knowles, B. (2008). reflection practices: curriculum development through research informed teaching in sports science.