نحو تعلّم متمحور حول المتعلّم
نحو تعلّم متمحور حول المتعلّم
أمجاد أبو هلال | مديرة تعليم إلكترونيّ- الأُردن

قرأتُ مؤخَّرًا مقالًا أثار انتباهي وفضولي، هو "التحوّل من البيداغوجيا الى الهيوتوغوجيا". دعاني هذا المقال إلى التفكير في أهمّيّة النظر إلى التعليم نظرةً مبتكِرة، تعين على مواكبة التغيّرات السريعة في التعليم، ولا سيّما المتّصلة بالطلّاب ونظرتهم إلى طرق التعليم القديمة التي بات بعضها لا يثير اهتمامهم ودافعيّتهم إلى التعلّم. لكن، أيّ تغيير في طرق التعليم يواجَه بالرفض في البداية، إذ قد يسبّب دمج النماذج التعليميّة الحديثة إرباكًا لدى المعلّمين الذين وصلوا إلى مرحلة الاستقرار في مهنتهم، ولدى بعض الطلبة الذين اعتادوا الطرق التقليديّة في التعليم، فضلًا عن الأهالي والمدراء. غير أنّ مهارات معلّم القرن الواحد والعشرين وكفاياته وقدرته على إدارة التغيير، من شأنها أن توظِّف التغيير تدريجيًّا وفق ما يتناسب مع السياق التعليميّ، ما يولِّد نظرة وتوجّهًا مختلفين في التعلّم والتعليم. 

تحدّث كثير من التربويّين عن وجوب إحداث تغيير في العمليّة التربويّة، كما أننا نحضر العديد من الندوات ونسمع الكثير من التنظيرات، وجميعها مفيدة. ولكنّ السؤال الذي يجول في خاطر معلّم العصر هو: "كيف لي أن أحدِث هذا التغيير؟ وما الخطوات التي عليّ اتّخاذها؟"  

يسلّط هذا المقال الضوء على الاستراتيجيّات والخطوات التي ينبغي على المعلّم اتّخاذها لإحداث التغيير المرجوّ، إذ إنّ التجديد يحتاج إلى إعادة التفكير في أدوات تعليميّة مختلفة، ودرجة من البراغماتيّة والمهنيّة، وصبر هائل وقدرة على الإقناع، فضلًا عن الذكاء الاجتماعيّ.

 

أعد التفكير في أدوات التعليم 

لعلّ أوّل جزء علينا التفكير فيه يكمن في إعادة تصميم دور المعلّم وهيكلته، وتغيير فكرة تمحور التعليم وارتكازه على المعلّم، حتّى يصبح الطالب هو محور العمليّة التعليميّة. عندما يقرّر المعلّم أن يحذو هذا الحذو يجب أن يكون مستعدًّا لمواجهة العديد من الشكاوى من الطلبة وأولياء أمورهم. سيتذمّر الطلبة بأنّ عليهم عبئًا كبيرًا، أو أنّ المعلّم غير متمكّن من التعليم؛ فهو يعتمد على عمل الطلبة في الصفّ، ولا سيّما عندما يعود الطلبة إلى البيت مع مهمّات أقلّ لا تحتاج إلى كثير من الوقت، الأمر الذي يجعل الأهل عديمي الثقة بالمعلّم وقدراته.

النصيحة هنا هي إدخال التغيير تدريجيًّا وبذكاء، حتّى يتحقّق تعلّمٌ فاعلٌ ومتمحورٌ حول المتعلّم. يمكن للمعلّم، مثلًا، البدء بالتعليم عن طريق اللعب، وتنمية روح المنافسة الإيجابيّة بين الطلبة. بالإضافة إلى توظيف قدراتهم للتعلّم الأفضل، وذلك بتصميم خطط دراسيّة فاعلة، ومنطقٍ مدروس بدقّة يمكِّن من تبرير اللجوء إلى هذا النوع من التعليم. تُظهِر نتائج الطلبة نجاعة هذه الطريقة الجديدة، ولا سيّما إذا استخدم المعلّم الاستراتيجيّات التي تنمِّي مهارات طلبته، عوضًا عن أن يكتفي بتزويدهم بالمعلومات.

 

كن براغماتيًّا

أن يكون المعلّم عمليًّا يعني أن يعمل ويخطِّط وينفِّذ ما في عقله، لأنّ إدخال التغيير لا يتحقّق بالكلام النظريّ فحسب، بل يحتاج المعلّم إلى أن يمارس ويطبِّق ما يطالب به الآخرين. يتمّ ذلك بطريقة تدريجيّة تمكِّن المعلّم من أفضل الطرق التي من شأنها أن تُحدِث تغييرًا، وتُخفّف من وقع الخوف والتردِّد الذي يعانيه بعض الطلبة، وذلك بإخراجهم من منطقة الراحة، نتيجة تغيير طرق التعليم، إلى مرحلة الاستكشاف والابتكار والاعتماد على الذات.  

تخيّل انطباع الطلبة إذا بدأ المعلّم الوحدة بالقول: "حسنًا، إليكم النتائج التي نحتاج إلى تحقيقها بحلول نهاية الوحدة، ولكن أنتم من سيصمّم خارطة تعلّمكم لتحقيقها". وذلك أشبه بسقوط من الطائرة وسط محيط، إذ سيتساءل الطلبة: "كيف يمكننا ذلك وأنت لم تعلّمنا؟!" لاعتيادهم على التلقين. وبدلًا من ذلك، يمكنه مثلًا، أن يبدأ بسؤال: "إن أردنا أن نحقِّق هذه النتائج، ماذا يمكن أن نعمل برأيكم؟" إذ سيتمكّن بهذه الطريقة من إشراكهم في عمليّة التعلّم، من دون زرع الرهبة في أنفسهم بالقول: "أنتم من سيصمّم خارطة التعلّم". بهذه الطريقة يطبِّق المعلّم استراتيجيّة العصف الذهنيّ، ويدفع الطلبة الى رسم خارطة تعلّمهم من غير أن يصرّح بذلك.

من الأهمّيّة بمكان تسيلح الطلبة بالثقافة اللازمة للتغيير، مثل تزويدهم بأدوات البحث، ومقتضيات العمل التعاونيّ، وكيفيّة تحديد أهداف تدريجيّة، واستراتيجيّة إدارة الوقت، وغيرها من الأمور التي تمهّد الطريق إلى إحداث التغيير بسهولة ومن دون اعتراض.

من الطبيعيّ أن يتردّد المعلّم في إدخال التغيير، لأنّ جميع الطلبة يجب اختبارهم وفق نتاجات تعليميّة محدّدة، ولكن يمكن تحقيق ذلك بطرق مختلفة عن الطرق التقليديّة، بما يتناسب وطرق تعلّمهم المتعدّدة والمختلفة (different learning modalities). يكمن الهدف الأسمى في التوصّل إلى هذه النتاجات بالتشارك بين المعلّم والطالب. فهدف المعلّم دائمًا خلق جيل قادر على إدارة عمليّة تعلّمه، بربطها بنواحي الحياة المتعدّدة وجعله متعلّمًا مدى الحياة.

عندما يكلِّف المعلّم طلبته بإعداد بحث عن "فيروس كورونا" مثلًا، وتسليمه خلال أسبوع، يجد عدّة طرق يمكن اعتمادها لتسليم البحث، والتي يجب أن يكون طلبته قد مرّوا بها. يمكن، مثلًا، أن يحضِّر بعض الطلبة بحثًا مكتوبًا كما جرت العادة، بينما يقدِّم آخرون صورًا معبِّرة عن موضوع البحث، وتكتب مجموعة أخرى قصّة كرتونيّة خياليّة... يجب قبول كلّ هذه الطرق طالما أنّ جميع الطلبة توصّلوا إلى النتيجة المطلوبة، ولكن بطرق التعلّم المفضّلة لديهم. يتشجّع الطلبة بذلك لأداء مهمّاتهم باستمرار ونشاط، مع علمهم أنّ المعلّم لم يفرض عليهم طريقة تقديم العمل، بل قدَّم لهم مساحة للتفكير والابتكار. بالإضافة إلى ذلك، لن ينسى الطلبة المعلومات التي بحثوا عنها، لأنّهم بذلوا جهدًا لتوصيلها إلى المعلّم بطريقة مبتكرة تناسب تفكيرهم.

 

اصبِر على طلبتك

لن يحدث التغيير في ليلة وضحاها، فما وُضِع لقرون من هيكلة دور المعلّم لا يمكن محوه وتغييره بسهولة. بعض الطلبة يتقبّل التغيير، في حين يرفضه بعضهم الآخر في البداية. ينبغي أن يكون المعلّم صبورًا وقادرًا على التنقّل السلس بين طرق التدريس المختلفة، حتّى يضمن مشاركة جميع الطلبة وتقبّلهم للتغيير. فتحقيق النجاح في التعلّم المرتَكِز على الطالب، ليس إنجازًا سهلًا بأيّ حال من الأحوال. وبالتالي، يجب أن يصبر المعلّم أثناء محاولته تحقيق النجاح تحقيقًا صحيحًا، فإن لم تحدث الفوضى في البداية، لن يتمكّن من الوصول إلى المبتغى. 

يقتضي ذلك توظيف الطلبة القادرين على إدارة تعلّمهم لتوجيه زملائهم، فتعلُّم الأقران أحد الطرق لقيادة الطلبة تعلّمهم بأنفسهم، بتوجيه من المعلّم ومتابعته. هناك العديد من الطرق لتعلّم الأقران؛ إذ من الممكن أن يختار المعلّم الأقران، وذلك لغرض في نفسه (طالب لديه معرفة جيّدة عن الموضوع، وآخر بحاجة إلى دعم)، أو أن يترك حرّيّة اختيار الأقران للطلبة أنفسهم. وقد يسبِّب هذا الوضع أحيانًا بعض المشكلات للمعلّم عندما يُترَك أحد الطلبة من دون قرين، أو أن يقسِّم الطلبة تقسيمًا عشوائيًّا، وذلك بسحب أوراق مكتوب عليها أسماء الطلبة، أو باستخدام تطبيق إلكترونيّ، مثل "عجلة الأسماء".  

لنفترض أنّ المعلّم في حصّة اللغة الإنكليزيّة يطلب إلى الطلّاب كتابة تفسير لظاهرة علميّة، مثل الخسوف. في هذه الحالة، من المنطقيّ أن يكلِّف المعلّم طالبًا متمكِّنًا من اللغة، وآخر متمكِّنًا من مادّة العلوم، فيضمن مساندة الطالبين بعضيهما البعض لإخراج موضوع صحيح علميًّا ولغويًّا. في النتيجة، يحقّق الطالبان الفائدة، ويتمكّنان من إنجاز الواجب باستيعاب وفهم واضح. وعليه، يعدّ تعلّم الأقران من الطرق التي تنمِّي حسّ المسؤوليّة عند الطالب، وتجعل تعلّمه مستدامًا مع التأكيد على ضرورة معرفة المعلّم طلبته ومواطن القوّة والنقاط التي تحتاج إلى تطوير.

 

تألَّم حتّى تكسب

الطريق إلى التغيير وعر وشاقّ، ولكنّ النتيجة مُرضية. وكلّ معلّم يطمح إلى أن يصل بطلبته إلى مستوى التحليل والربط والنقد البنّاء، كما أنّ إتقانه نماذج التعليم الحديثة من شأنه أن يوصل الطالب إلى قمّة الهرم التعليميّ (هرم بلوم). من هنا، يجب ألّا يكترث المعلّم كثيرًا بعدد المرّات التي أحسّ فيها بالفشل عند إحداث التغيير، وإنّما يصمّم على إعادة المحاولة، باعتماد استراتيجيّات مختلفة، مثل توظيف التكنولوجيا في التعليم. فيرى المعلّم بذلك كيف يحقّق طلبته نتائج أفضل في الاختبارات الختاميّة، لقدرتهم على التحليل والربط بين المعلومات المدروسة ومهارات الحياة. 

يمكن تكييف النظريّة التواصليّة وهيوتوغوجيا التعليم بالتركيز على عدّة مناحٍ واستراتيجيّات تواكب العصر، وتوائم قدرات الطلبة المختلفة وطريقة تفكيرهم الحديثة، والتي لا تناسبها أساليب التعليم القديمة. لذلك، إذا وضع المعلّم نصب عينيه جعل الطالب محور العمليّة التعلّميّة ومركزها، ودفعه إلى الاعتماد على ذاته، ليكون مسؤولًا عن تعلّمه، وقادرًا على إدارة العمليّة التعليميّة وربطها بالواقع، فإنّ هذا الخيار يفرض عليه أن يصبح مرنًا، ومتفاعلًا وميسِّرًا للعمليّة التعليميّة، وقادرًا على تحضير المواد التعليميّة من أجل التعلّم، وليس من أجل الاختبارات، أو بهدف إتمام المنهاج الدراسيّ.

 

اربط التعلّم بحياة المتعلّم

لعلّ منحى "STEM" من الأساليب التي تركِّز على التفكير المُنظَّم، وربط التعلّم بالحياة. بالإضافة إلى أنّه مستند إلى التعلّم القائم على حلّ المشكلات؛ حيث يغدو الطالب قادرًا على توظيف عمليّات التفكير العليا التي تُعنَى بالنواحي النفس - اجتماعيّة، وتطوير التفكير والتحليل لدى الطالب. يزوِّد هذا المنحى الطالب بالتفكير الممنهج والمتفرِّد، ما يهيِّئه لمتطلبات سوق العمل المستقبليّ.  

لنفترض، الآن، أنّ المعلّم يودّ تعليم طلبته النسبة المئويّة، فالعديد من الطلبة يسألون: "لمَ علينا تعلّم هذه المادّة؟ بمَ ستفيدنا؟" يجيب المعلّم عادةً بأنّها تفيدهم كثيرًا في حياتهم العلميّة لاحقًا، لكن كيف؟ 

يمكن أن يقدِّم المعلّم تحدّيًا أو مشكلة. مثال: ذهب أحمد مع والدته الى السوق وكان يريد أن يشتري كرة. وحين كانا في السوق، تركته أمّه في محلّ الألعاب، وذهبت إلى المحلّ المجاور. عندما اختار أحمد الكرة التي يريدها وذهب ليحاسب التاجر، أخبره الأخير أنّ ثمّة خصم 20% على سعر هذه الكرة، فاحتار أحمد ولم يعرف المبلغ الذي عليه دفعه.

انطلاقًا من هذا المثال، يمكن للمعلّم أن يطلب إلى طلبته مساعدة أحمد لمعرفة سعر الكرة؟  

من الممكن، كذلك، جعل الطلبة يتعلّمون كيف يساعدون الآخرين، فيقدّم المعلّم مشكلة مختلفة، مثل: كيف يمكن إيجاد حلول لمشكلة الجوع في السودان؟ يمنح المعلّم الطلبة أدوات للمساعدة، مثل الجوّال والحاسوب المحمول، ثمّ يطلب منهم البحث لإيجاد الحلّ، والتأمّل بالحلّ إن كان مناسبًا ومستدامًا، وربطه بأهداف التنميّة المستدامة.

تعدّ استراتيجيّة التلعيب (Gamification) من الاستراتيجيّات التي تنمّي حسّ المسؤوليّة لدى الطالب، وتُحفِّزه على التعلّم، وتمكّنه من الانخراط في الدراسة عبر الألعاب، وتضمن تفاعله مع المادّة الدراسيّة التي تُقدَّم بأسلوب ممتع بغية تحقيق الأهداف المرجوَّة. كما يعمل التلعيب على إشراك الطالب إيجابيًّا في عمليّة التعلّم أكثر من أيّ وسيلة تعليميّة أخرى.  ينخرط الأطفال عادةً بسهولة في اللعب لوجود مُحفِّز، فإذا ما صُمِّمت الحصّة باستخدام عناصر التلعيب، من منافسة ولوحة التميِّز (leader board)، يبذل الطالب جهده لتحقيق النتاجات المرجوَّة من الدرس بطريقة غير مباشرة، ولكنّها تؤدِّي الى استدامة التعليم. يُحفِّز اللعب عمليّات عادات العقل وينمّيها، من تفكير تحفيزيّ وابتكاريّ، وكذلك التفرّد بالتعليم (personalization) الذي يُشعِر كلّ طالب بتميُّزه وأهميّته في العمليّة التعليميّة. 

وفي السياق ذاته، يمكن استخدام لعبة البينغو، وتحضير إجابات لأسئلة من المادّة، حيث يتقدّم الطالب الذي يجيب إجابة صحيحة ويجد البطاقة المناسبة، على زملائه. وحين يرتكب خطأً يخسر بعض النقاط. يتأهّل الطالب الذي أتمّ اللعبة أوّلًا إلى المرحلة الأصعب، وهكذا. المهمّ في استخدام التلعيب تطويع عناصر اللعب لتحفيز الطلبة على التعلّم.

* * *

بناءً على ما تقدّم، نجد أنّ استخدام المعلّم أسلوب الاحتواء والتعزيز، يولِّد علاقة طيّبة بين المعلّم والطالب، ولا سيّما إن استشار المعلّم طلبته بين الحين والآخر في طريقة تعلّمهم، كأن يسألهم إن كانوا يفضّلون حضور الحصّة في الصفّ أو في الهواء الطلق خارج الغرفة الصفّيّة، إن كان نظام المدرسة يسمح بذلك. أو منحهم حرّيّة اختيار طريقة تسليم المهمّة، بالكتابة أو الرسم أو التمثيل أو تقديم أغنية، مراعاة لاحتياجاتهم واهتماماتهم.

لعلّ الطرق والاستراتيجيّات التي عُرِضَت ليست بجديدة على المعلّمين، ولكن إدراجها ضمن تخطيطهم اليوميّ ينمّي المسؤوليّة عند الطالب، ويؤدّي إلى استدامة التعلّم. وهذا، بالتأكيد، الهدف الأسمى للعمليّة التعليميّة.  

 

المراجع

- Hase, Stewart and Kenyon, Chris. (2022). The Definition of Heutagogy and Self Determined Learning. Teachthought.

https://www.teachthought.com/education/shifting-from-pedagogy-to-heutagogy-in-education

 

- The Global Metacognition Institute. (2021). Fostering Learning Autonomy and Creating Autonomous Learner.

https://www.globalmetacognition.com/post/fostering-learning-autonomy-creating-autonomous-learners