يعلّمنا العدوان على غزّة كثيرًا من الدروس التربويّة التي ينبغي الالتفات إليها، ووضعها في إطار ملائم من الاستدامة، وجعلها مرجعًا في ظلّ الأزمات التي يبدو أنّها لن تنتهي قريبًا، أو تقتصر على الحروب والصراعات. فما جرى كان مختلفًا وغير اعتياديّ، جعلنا نشاهد أدوارًا غير مألوفة للمدارس والمعلّمين والمعلّمات، يجب تأمّلها وتحليلها، والخروج منها بالعبر والعظات. ولأنّ الدروس كثيرة فسأتأمّل منها ما أعادني إلى الأيّام التي كان فيها الاعتراض على المناهج الجديدة، حيث نبدأ رماية المناهج، مهما كان مصدرها، بسهام النقد، ويأتي الردّ بسهام أخرى بأنّ النقد نابع من عدم الفهم الكافي للمناهج الحديثة ورسالتها، وأنّ المعلّمين والمعلّمات فور قراءتهم المناهج والتدرّب على تعليمها سيغيّرون رأيهم، وهو ما لا يحدث غالبًا.
يبحث هذا المقال في أهمّيّة جعل مناهج التعلّم مرنة، فالكارثة مهما كان نوعها قد تحدث في أيّ لحظة، وبعد وقوعها، يمكن للمعلّم تكييف المنهاج الذي بين يديه ليلائم الحالات الطارئة التي تستلزم تعليمًا من نوع معيّن، ومختلفًا عن التعليم الذي يقدّمه المعلّمون والمعلّمات عادةً. ولتحقيق المنهاج المرن الذي يناسب بيئات التعلّم المختلفة وظروفه المتغيّرة، نتطرّق في المقال إلى بناء المناهج، بدءًا من التصميم الأوّليّ الذي يعتمد على مبرِّرات كافية، لجعل مضامينه متنوّعة لا تكتفي بالمعارف المجرّدة. ويتطلّب هذا التصميم فريقًا يدرك عِظَم المهمّة الملقاة على عاتقه، فيحدِّد المعايير التي تضبط إطار المؤشِّرات الواجب تحقيقها في ظروف الحروب والكوارث، وكيفيّة تقديمها بجعل استجابة المعلّمين لها سريعة ومنضبطة، تتيح للأسرة أن تكون شريكًا حقيقيًّا يتحمّل جزءًا من عمليّة التعليم.
يطبّق هذا المنهاج في الظروف العاديّة، حيث يكتسب فيه الطالب المهارات الحياتيّة المتوقَّعة منه ضمن مرحلته النمائيّة، حتّى إذا وقعت الكارثة كان المنهاج المعتمَد ملائمًا وقت الحروب والأزمات، ويمكن للمتطوّعين أو المعلّمين تقديمه ضمن الإمكانات المتاحة.
التصميم الأوّليّ
درس غزّة يُخبرنا أنّ المعارف وحدها غير كافية، لكن يجب أن يكون للمعرفة دور فعّال في أوقات الأزمات والظروف الطارئة. وهذا ما يجب على مصمّمي المناهج أخذه بعين الاهتمام، ذلك أنّ دور المعرفة يكمن في مساعدة الإنسان على تحسين واقعه، وتطوير أدواته في حلّ مشكلاته. لذلك، فمن الأولى أن تؤدّي المعرفة دورها في الحروب وأجواء القتال والقصف. فالمناهج المستقبليّة يجب أن تتضمّن المعرفة الكافية، ليصبح الطالب قادرًا- ولو بالحدّ الأدنى- على التعامل مع ظروف الحرب والقتال، أو الكوارث الطبيعيّة والأزمات. فيجب ألّا تبقى المعرفة مجرّدة وجافّة، بل يجب أن تكون صالحة للظروف المختلفة التي تتعرّض إليها تجربة تعلّم الطلبة. وهذا التحوّل يأخذ بعين الاعتبار أنّ بيئة التعلّم الفيزيائيّة في الحروب والصراعات قد تكون الهواء الطلق، أو بقايا غرفةً صفّيّةً، أو منزلًا صغيرًا، أو ربّما خيمةً ضيّقةً.
مناهج القيم
درس غزّة بيّن لنا أنّه في الحرب تبرز حاجة البشر إلى القيم الإنسانيّة المختلفة. فالحرب ميدان يثبت ضرورة انتشار القيم في المناهج مهما كان مجالها ومضمونها، وضرورة ارتكاز أنشطة التعلّم ومهمّاته على زرع القيم في نفوس الطلبة، وإكسابهم المهارات التي تمكِّنهم من إظهارها في الظروف الطارئة، كالحروب والنزاعات. كما تثبت هذه الظروف العصيبة أنّ الدعوات التي نسمعها حول مناهج المواد العلميّة بأنّها "جادّة" وجامدة مثلًا، ليست صحيحة؛ فالمعارف العلميّة التي كانت حبيسة المناهج والمختبرات آن وقتها لتخرج إلى مخيَّم أو مركز لجوء أو مدرسة تؤوي مشرّدين، همّهم الأوّل البقاء على قيد الحياة في ظروف صعبة، وهم بحاجة إلى أيّ معلومة - مهما كانت بسيطة وأيًّا كان من يقدّمها - تعينهم على ذلك. فتخيّل ما الذي يحدثه طالب استوعب المعرفة العلميّة والقيمة الإنسانيّة، ونجح بإظهارها أمام نازحين هاربين يبحثون عن النجاة، ووضع تلك المعرفة، وتلك المعلومة، وتلك القيمة في طريق نجاتهم.
فرق التأليف
درس غزّة أضاف شرطًا جديدًا إلى مواصفات فرق تأليف المناهج. ففرق التأليف التي لديها اطّلاع على سياقات الطلّاب الحياتيّة المتنوّعة تكون أمهر في بناء المناهج المرنة، والتي يمكن تكييفها لتلائم سياقات الحروب والنزاعات، وهي الأقدر كذلك على وضع التعليمات التي تلائم سياقات التعلّم المختلفة. يفرض ذلك عليهم الاطّلاع مثلًا على الاتّفاق العالميّ للاجئين، والذي تنصّ أهمّ بنوده على أنّ التعليم حقّ يأتي مباشرة بعد تأمين الحاجات الأساسيّة.
وعلى رغم أنّ هذا الحقّ قد يبدو ترفًا في نظر بعضنا، إلّا أنّه يبقى حقًّا رئيسًا من حقوق البشر مهما كانت ظروفهم، لا بل قد يصبح التعليم في أوقات الأزمات والحروب حاجة ملحّة تمكِّن النازحين والمشرّدين من المعرفة والمهارات التي تجعلهم أكثر صمودًا في محنتهم، وتجعلهم يجدون سبل العيش الأكثر رحمة، وتعينهم في محاولات الحصول على فرص كسب الرزق. بالإضافة إلى أنّ التعلّم في هذه الحالة يصبح مصدر توفير الأمان النفسيّ والعاطفيّ، ومصدر معرفة الحقوق وكيفيّة حماية النفس من الأمراض والوهن.
تشكِّل معرفة أعضاء فرق التأليف بهذه الجوانب الخطوة الأولى في بناء المنهاج المرن والنافع في ظروف الحروب والنزاعات، والملائم كذلك للظروف الطبيعيّة. كما يسدي فريق التأليف معروفًا عندما يضع في مقدّمة منهاجه ما يشبه الخطّة التي تعين المعلّمين والمتطوّعين، وتضعهم في بداية طريق تحويل المنهاج العاديّ إلى منهاج مرن وصالح للتطبيق في ظروف الحروب والنزاعات والكوارث.
معايير المناهج
درس غزّة سلّط الضوء من جديد على أهمّيّة المعايير في تدريس المنهاج، يشمل ذلك المطلوب إلى الطالب إتمامه بعد كل تعلّم، والخطوة القادمة منه. وهذا الأمر يسير بالتوازي مع مفردات توفير حماية الحياة، وتوخّي سبل النجاة.
لماذا المعايير مهمّة؟
التعليم في ظروف الحروب والنزاعات يتمّ عادة في بيئات غير مألوفة للطالب، في مكان بعيد عن مكان سكنه، وفي غرفة لا تتوفّر فيها الموارد التي ألفها في مدرسته، وقد يقدّم التعلّم شخص متطوِّع ولا يملك خبرة التعليم، وربّما لم يسبق له أن وقف أمام طلبة يعلّمهم. لذلك، يجب أن تراعي المناهج الأمور الآتية:
- -وضع مؤشِّرات أداء واضحة تُظهر ما الذي يجب أن يمتلكه الطالب بعد وحدة دراسيّة محدّدة.
- -صياغة المؤشِّر بمفردات واضحة لا تقبل احتمالين، حتّى نسهِّل الأمر على المعلّم المتطوِّع أو قليل الخبرة في ظلّ فرص تدريب نادرة، وحتّى يعرف الطالب المطلوب إليه، في جوّ تعليميّ غير طبيعيّ، وتتمكّن الأسرة من المتابعة بأبسط الوسائل والأدوات.
- -استهداف أكبر شريحة من الطلبة، فالمؤشّرات قد تصاغ لمرحلتين دراسيّتين متقاربتين.
- -مساعدة المتطوّعين والطلبة على تحديد مستوياتهم بدقّة، ومعرفة الخطوة القادمة من التعلّم.
- -قد تكون المؤشّرات بديلًا مناسبًا عن الامتحان عند تعذّر عقده، فهي نوع من أنواع التقييم.
توجّه هذه المؤشِّرات المعلّمين إلى العمل وفق قوانين المكان الذي يستضيف اللاجئين، فنراعي ظروف المكان الذي نوجد فيه، ويستمرّ الطلبة في التعلّم ولا يحرمون منه، وتصير عمليّة الإصلاح ممكنة وبأقلّ الأضرار التي تجعل فاقد التعلّم لدى الأطفال محدودًا.
استجابة المعلّمين
يركِّز كثير من خبراء التربية على أساليب التدريس، وكثير منهم باتوا اليوم يرون أنّها العنصر الأهمّ، نظرًا إلى سهولة الحصول على المعرفة وتعدّد مصادرها. وفي ظروف غير عاديّة، مثل ظروف الحرب والقصف واللجوء، يكون على المعلّمين إدراك أنّ لهذه الظروف أساليبها المختلفة، وأنّ عليهم الأخذ بحسبانهم تعديل تلك الأساليب بما يلائم البيئة والطالب على حدّ سواء.
قد لا توفِّر التدريبات العاديّة التي تقدَّم للمعلّمين معرفة كافية حول التعليم في ظروف الحروب والصراعات. لكنّ تكرار هذا الأمر كثيرًا في القرن الحالي يفرض على النظم التعليميّة إكساب المعلّمين هذه المهارات، وجعلهم على أهبّة الاستعداد، بالتوازي مع تدريبهم، على أساليب الوقاية من الخطر، وكيفيّة تجنّب القذائف، والتصرّف السليم فيما لو جاء القصف أثناء التعليم.
إعداد المعلّمين وجعلهم سريعي الاستجابة يتضمّن في أحد جوانبه تدريبهم على تحقيق الأمان، وكيفيّة المحافظة على حياتهم وحياة المحيطين بهم، وتمكينهم من سبل توفير الطعام والشراب. فهذه الأمور أساسيّة وضروريّة لإمدادهم بالقوّة البدنيّة اللازمة لتنفيذ المهمّات الملقاة على عاتقهم، وجعلهم ينظرون إلى عمليّة التخطيط من زاوية جديدة فرضتها الظروف التي يعملون تحتها، والتي تقتضي انتقاء التعلّم الجوهريّ الأساسيّ، والتخلّي عن التفاصيل الهامشيّة. بالإضافة إلى أنّهم قدوة لمتطوّعين لم يختبروا التعليم من قبل. يعني ذلك التزوّد بالقدر الكافي من مهارات الاتّصال والتواصل، والعمل في الظروف الصعبة وتحت الضغط، وإدراكًا كافيًا ومعرفة شاملةً وفهمًا واسعًا للواقع الجديد الذي ستتمّ فيه عمليّة التعليم، وكيفيّة التغلّب على التحدّيات الكثيرة والمتجدّدة تغلّبًا لحظيًّا.
ظرف غزّة مختلف اختلافًا طفيفًا، حيث هجَّر العدوان الناس داخل القطاع المحاصر نفسه، وهذا يعني أنّ المعلّمين ليسوا مضطرين إلى التعامل مع مناهج جديدة وقوانين جديدة ونظام تربويّ بمواصفات غير معتادة. لذلك، ستذهب عمليّة إعدادهم نحو طريقة تعويض الطلبة عمّا فاتهم منذ لحظة التوقّف عن التعلّم، حتّى العودة إلى الجلوس أمام معلّم في خيمة أو مسكن متنقّل، أو في الهواء الطلق، وستكون عمليّة إدماج المتطوّعين في العمليّة التعليميّة أسهل، ولا تحتاج إلى وقت أطول، وانسجامهم مع المعلّمين الخبراء في مجموعات العمل أوضح. وهذا يعني أنّ المواد الدراسيّة تأخذ بيد المعلّمين في جوّ ودّيّ من الإدارة المرنة والمساءلة المتّزنة والإشراف المتواصل، والأخذ برأي المعلّمين أو المتطوّعين للتعليم، كونهم على تماس مباشر مع الطلبة، وهم الذين يعملون في هذه الظروف الصعبة.
الأهل والأسرة
درس غزّة أضفى على دور الأسرة التعليميّ مسؤوليّة إضافيّة. وفي الحروب، يصبح المعلّم المتطوِّع الذي يعلّم الطلبة في مركز إيواء قريبًا في مستواه المهاريّ والأدائيّ من الأب أو الأمّ، أو أيّ فرد من أفراد الأسرة يتولّى عادةً مساعدة أبنائها في تعلّمهم. لذلك، يقترب دور الأسرة في الحروب والنزاعات من الإلزام، وتصبح شريكة فعليّة في تعويض ما فقده الطلبة من تعلّم، وربّما يتّسع هذا الدور في الظروف الطارئة، ليشمل تقاسم الأدوار، وتصبح الخيمة أو مركز الإيواء جزءًا ملموسًا من المدرسة.
* * *
درس غزّة ليس الأخير، لكن قد يكون الأصعب والأكثر معاناة في تاريخ المنطقة، والتعامل معه ينبغي أن يتّسم بالحكمة. لذلك، لا يدّعي هذا المقال أنّ الأولويّة للتعليم، بل هو جزء مهمّ من الأجزاء التي ينبغي الالتفات إليها عندما نخبر العالم بما يجري في غزّة، وندعو المنظّمات الإنسانيّة العاملة في القطاع إلى توفير آليّات تضمن استمرار عمليّة التعلّم، ولو في حدودها الدنيا، ورسم طريق واضح المعالم أمام المعلّمين والمتطوّعين للمضي قدمًا في التعليم، مقدّمين التحيّة والتقدير والثناء العظيم لجهودهم، إذ ما زالوا صامدين، يعلّمون وينفقون من وقتهم وتعبهم ومواردهم ما يُبقي حبل الطلبة موصولًا بمدارسهم المدمّرة.