مناهج العلوم الإنسانيّة: تعليم أم "من سيربح المليون؟" 
عرَف التكامل الأفقيّ بأنّه ورود موضوع دراسيّ معيّن في أكثر من مادّة في الصفّ ذاته. على سبيل المثال، يتكامل درس الضوء في منهج اللغة الإنجليزيّة للصفّ التاسع مع درس الضوء في كتاب الفيزياء للصفّ ذاته، ويتكامل درس "نصاب الزكاة" في مقرّر التربية الإسلاميّة مع
مناهج العلوم الإنسانيّة: تعليم أم "من سيربح المليون؟" 
عرَف التكامل الأفقيّ بأنّه ورود موضوع دراسيّ معيّن في أكثر من مادّة في الصفّ ذاته. على سبيل المثال، يتكامل درس الضوء في منهج اللغة الإنجليزيّة للصفّ التاسع مع درس الضوء في كتاب الفيزياء للصفّ ذاته، ويتكامل درس "نصاب الزكاة" في مقرّر التربية الإسلاميّة مع
زيد الخطيب | معلّم مادّة اللغة الإنجليزيّة - الاردن

ورد درسا "مواقف مشرقة من حياة الخلفاء الراشدين" اللذان يتحدّثان عن حياتهم وفضلهم وإنجازاتهم، في كتاب التربية الإسلاميّة لمرحلة الثانوية العامّة في الأردن. ذكر الدرس الثاني من هذين الدرسين- يتحدّث عن الخليفتين الراشدين الثالث والرابع- قصّة وفاتهما، فذكر في مقتل عثمان بن عفّان: "استشهد رضي الله عنه سنة 35 للهجرة، حيث أثار بعض الناس الفتنة عليه، ما أدّى في النهاية إلى قتله على يد هؤلاء الخارجين على الدولة، وكان عمره اثنتين وثمانين سنةً، ودفن في البقيع، وكانت مدّة خلافته اثتني عشرة سنة، رضي الله عنه وأرضاه". كما ذكر في مقتل الخليفة الرابع: "استشهد رضي الله عنه على يد رجل من أهل الضلال من الخوارج يُدعى عبد الرحمن بن ملجم". 

 

حادثتا القتل هاتان لمِن أكثر الأحداث تأثيرًا في تراثنا، ولهما اتّصال واضح في واقعنا المعيش، فلمَ يُحرم طالب الثانوية العامّة من بعض السياق الذي يُفهِمه الواقعتين وعظيم أثرهما؟ بدلًا من ذلك، ارتأى الكتاب أن يسمّي القاتل، ويذكر الجماعة التي انتمى إليها، من دون أن يذكر أدنى تفصيل عن هذه الجماعة. كما ذكر أنّ الخليفة الثالث قتله خارجون على الدولة واكتفى. فلم تكن أيّة دوافع أو حوادث سابقة أو لاحقة من أولويّات الكتاب. فهذا المقرّر يرى أنّ طالب التوجيهيّ قد حقّق النتاج المطلوب إذا عرف اسم القاتل وفئته من دون أن يعرف شيئًا عن السياق. وبذلك، فالمعرفة التي اكتسبها الطالب ليست إلّا معرفة مجتزأة في فضاء من المعلومات المفكّكة التي لا يُعرَف لها رابط أو علاقة، ويظلّ هذا الفضاء يتقلّص بفعل عوامل الزمن والنسيان، كما تتقلّص الصخرة من عوامل النحت والتعرية؛ فانعدام التكامل حُكمٌ على الشيء بانهياره، كالبيت الذي يوضع الطوب فيه من دون مادّة تلصقه ببعضه. وما أشبه هذا بمسابقة "من سيربح المليون؟" حيث تُطرح الأسئلة ذات الجواب الأوحد، وتنتهي الغاية عند الإجابة الصحيحة لننتقل بعدها إلى السؤال التالي. فمن تابع البرنامج لسنوات، ظفر بكمّيّة هائلة من الحقائق عن مختلف الموضوعات (إذا افترضتنا أنّه لن ينساها أصلًا)، من دون أن يبني تصوّرًا عن موضوع واحد أو ظاهرة من الظواهر.   

 

سيناريوهان في تدريس الحرب العالميّة الثانية 

السيناريو الأوّل 

الحرب العالميّة الثانية: 

متى وقعت الحرب العالميّة الثانية؟   

سنة 1939  

متى انتهت الحرب العالميّة الثانية؟  

سنة 1945  

ما الدولة التي بدأت الحرب العالميّة الثانية؟  

ألمانيا النازيّة (من دون ذكر أيّة معلومات إضافيّة توضِّح مفهوم النازيّة، كما لم يوضِّح كتاب التربية الإسلاميّة معنى الخوارج الذين قتلوا الخليفة الرابع، أو الخارجين على الدولة الذين قتلوا الخليفة الثالث) 

ما أوّل دولة هاجمتها ألمانيا؟  

بولندا  

كم ضحيّة وقعت نتيجة الحرب العالميّة الثانية؟  

حوالي 70 مليون قتيل.  

وهلمّ جرّا بشبيه هذه الأسئلة وإجاباتها من معلومات وحقائق عشوائيّة. وللإنصاف، ورد درس الحرب العالميّة الثانية في كتاب تاريخ العرب والعالم للصفّ الحادي عشر الأردنيّ، ووضّح المقصود بالنازيّة. فليس المقصود هنا نقد المناهج الأردنيّة، بل التطرّق إلى الظاهرة عامّة.  

 

السيناريو الثاني 

يدرس الطالب عن الحرب العالميّة الثانية على أنّها حدث تاريخيّ وقصّة ذات سياق. يتعرّف إلى جوانبها والعلاقات بينها، فيستشعر إرهاصاتها وكيفيّة تفاعل الظروف التي أدّت إلى ما أدّت إليه من دمار، فيصل الطالب إلى نتيجة واضحة وفهم شافٍ وتصوّر مستقل يُصيِّر المعرفة النظريّة جزءًا من الشخصيّة، وثقافة تنعكس عمليًّا. فالنتاج الأخير هنا منظومةٌ تتداخل عناصرها على غرار الفضاء المكوَّن من المعلومات القائمة دونما اتّساق.  

ليست المعلومات المنفصلة عن سياقها عديمة القيمة، ولكن ما يحاول هذا المقال بيانه هو أنّ قيمة المعلومات والحقائق تعظُم عندما تُطرَح في سياق. فإذا فكّكنا الحدث التاريخيّ أو القصّة إلى نقاط، فلن نتكّمن من ربط الحقائق ببعضها، ممّا يعطّل التفكير الناقد والتحليل. حتّى المهارات الدنيا التي تهدف العمليّة التربويّة إلى تحقيقها، مثل الفهم أو الحفظ والتذكّر، يعزِّز السياق فاعليّة تحقيقها. على سبيل المثال، ما أيسر تذكّر تفصيل من مسرحيّة شاهدناها أو رواية قرأناها، وإن مضى على قراءة الرواية أو مشاهدة المسرحيّة حينٌ طويل، ولكن قد يصعب ذلك علينا إذا حُرمنا من المشاهدة أو القراءة التامّة واكتفينا بملخّص يضمّ الأحداث وفق نقاط.   

ومن هنا، تتبيّن أهمّيّة توظيف السياق في المناهج من أجل تعميق فهم الطالب القضايا المطروحة، لتحقيق غايته، وربطه بالحياة. فالمعلومة أو الحقيقة المنفصلة لا تصير جزءًا من شخصيّة الطالب، بل لا بدّ من التكامل واعتبار السياق، لتحقيق التعلّم ذي المعنى.  

 

أمثلة على توظيف السياق لدمج التعلّم بالحياة  

التكامل الأفقيّ 

يُعرَف التكامل الأفقيّ بأنّه ورود موضوع دراسيّ معيّن في أكثر من مادّة في الصفّ ذاته. على سبيل المثال، يتكامل درس الضوء في منهج اللغة الإنجليزيّة للصفّ التاسع مع درس الضوء في كتاب الفيزياء للصفّ ذاته، ويتكامل درس "نصاب الزكاة" في مقرّر التربية الإسلاميّة مع درس "النسب المئويّة" في الرياضيّات. ومن صور تطبيق التكامل الأفقيّ في العمليّة التربويّة تنظيم معلّمي المادّتين نشاطًا مشتركًا تُرصد علامته للموضوعين. يتوسّع السياق العامّ للموضوع المطروح، بتوظيف التكامل الأفقيّ، من دائرة الكتاب المدرسيّ الواحد إلى سياق الكتب الدراسيّة جميعها للصفّ الواحد، ويتحقّق التعلّم ذو المعنى هنا عندما يفهم الطالب أنّ الغاية كانت تطبيق المهارة أو فهم الظاهرة، لا دراسة الدرس. فالضوء ليس موضوعًا في كتاب الفيزياء، بل ظاهرة في الطبيعة وُضِعت في كتاب الفيزياء.  

 

إضفاء الطابع الشخصيّ 

هو إقحام الطالب شخصيًّا في التعلّم، حيث يمكن للمعلّم أن يوظِّف أسماء طلّابه في الأمثلة، ويمكنه أن يقارن نظامه الغذائيّ بالنظام المذكور في الكتاب. حينها يشعر الطالب أنّه معنيّ بالعمليّة التعليميّة، فهو حاضر فيها. وهنا أيضًا، يوسّع المعلّم السياق من الغرفة الصفّيّة إلى حياة الطالب الشخصيّة، وفي هذا ربط مباشر بحياة الطالب. فمثلًا، عندما يقارن الطالب نظامه الغذائيّ بالمقترح المذكور في الكتاب، يدرك أنّ المقترح ليس حبرًا على ورق، بل نموذجًا لشيء يمكن أن يُطبَّق في الحياة.  

 

المعاني دون المباني 

يشير مصطلح المباني في اللغة إلى التراكيب اللغويّة التي تتركّب كقطع الليغو. أمّا مصطلح المعاني فيشير إلى الرسالة اللغويّة التي تؤدّيها تلك التراكيب. فمثلًا المبنى اللغويّ السليم للجملة الفعليّة، وفق قواعد النحو العربيّ، هو الفعل فالفاعل فالمفعول به: "حمل الولد التفاحة". 

فالجملة السابقة جملة فعليّة يُنظَر إليها من منظورين. يتمثّل الأوّل في المنظور البنيويّ، حيث حقّقت الجملة السابقة قواعد التركيب (البناء) العربيّ، فجاء الفعل يليه فاعل واختتمت بالمفعول به. وهذا الجانب الرياضيّ هو الجانب الهندسيّ للغة، إذا أتقنه الطالب يركِّب الوحدات اللغويّة البنيويّة (الكلمات) إلى وحدات أكبر بما يشابه تركيب الأحاجي. كما يمكن أن ننظر إليها من منظور آخر، وهو الجانب المعنويّ، أي الرسالة اللغويّة ذات المعنى التي يؤدّيها التركيب. فالدماغ يترجم تلك المباني اللغويّة إلى صور ليفهم المتلقّي المراد من الرسالة. فأيّ المنظورين يجب أن نتّخذه منطلقًا في التعليم؟  

 

لعلّنا نطرح قبل هذا السؤال سؤالًا آخر: ما غاية اللغة؟ هل غرض اللغة ومرادها ترتيبُ الكلمات وفق قواعد معيّنة أم تأدية معانٍ؟ غاية تلك المباني أن تتجمّع مع بعضها في سياق بنائيّ يؤدّي إلى معنى لغويّ، فغاية اللغة معانيها لا مبانيها.   

وهذا ظاهر أيضًا في مناهج اللغة الأجنبيّة، إذ من آفات تدريس اللغة الأجنبيّة التمحور حول المباني وإهمال المعاني. على سبيل المثال، غاية تعليم "الماضي البسيط" في منهج اللغة الإنجليزيّة تزويد الطالب بالقدرة على التحدّث عن الأحداث الماضية، لا أن يرتّب مكوّنات الجملة في الزمن الماضي.   

 

مشكلات تواجه المعلّم في عمليّة توظيف السياق  

غياب السياق القصصيّ 

يعرض الكتاب الدراسيّ، أحيانًا، المعلومة منتزعة من سياقها. وحلّ هذه المشكلة بسيط، فالمعلّم يأتي بالسياق المناسب، ويقدِّمه بمادّة إثرائيّة.  

 

ظاهرة وضع الخطوط  

هي ظاهرة غيّبت السياق، حيث أصبحت كتب مواد الدراسات الاجتماعيّة لطلّابنا مرسمًا من الخطوط المرسومة، وصار دور الطالب غائبًا، فهو مجرّد متلقٍّ للمعلومة التي يلقّمه إيّاها المعلّم. وحلّ هذه المشكلة أن تُعرَض المفاهيم بتكامل. ويمكن للمعلّم أن يسند للطالب مهمّة وضع الأسئلة. وحينها يُجبر الطالب على التفكير وعلى بناء علاقة مع النصّ. 

 

التجريد 

قد يعرض المنهج المقرّر مفاهيم مجرّدة من دون أمثلة تعزِّز ربطها بالواقع، وحينها يمكن للمعلّم الإتيان بمثال مناسب. مثال ذلك، قد يأتي كتاب دراسيّ بالتعريفات الآتية من دون أمثلة:   

السكّان: الأشخاص الذين يعيشون في بقعة جغرافيّة محدّدة في وقت محدّد.  

الديموغرافيا: العلم الذي يدرس خصائص السكّان.  

الديموغرافيّ: الشخص الذي يدرس الديموغرافيا.  

 

والحلّ هنا أن يأتي المعلّم بأمثلة لتلك المفاهيم المجرّدة. يمكن للمعلّم هنا، مثلًا، أن يؤلِّف قصّة تضع المفاهيم السابقة في سياقٍ حياتيّ، ويسأل عنها بعد قراءة القصّة: 

قصّة أحمد  

درس أحمد الأشخاص الذين عاشوا في الأردن سنة 2022، فوجد أنّ عددهم 10 مليون شخص، وأنّ نسبة الذكور حوالي 53%. ووجد أيضًا بعد بحثه أنّ المجتمع الأردنيّ مجتمع فتيّ.  

ماذا نسمّي الأشخاص الذين عددهم 10 مليون في الأردن؟  

الإجابة: هم سكان الأردن.  

ما خصائص الشعب الأردنيّ الذين درسهم أحمد؟  

الإجابة: الشعب الأردنيّ ذكوره أكثر من إناثه، وهو مجتمع فتيّ بالمتوسط.  

ما العلم الذي يدرسه أحمد؟      

الإجابة: يدرس أحمد علم الديموغرافيا.  

ما الاسم الوظيفيّ لعمل أحمد؟  

الإجابة: أحمد ديموغرافيّ.  

هنا يستخلص الطالب المفاهيم وفق سياق حياتيّ، وتوضيح المجرّد (المصطلح المراد تدريسه) بالتمثيل (القصّة التي يوظّفها المعلّم)، قد يعزِّز فهم الطالب، ويسهِّل عمليّة الوصول إلى النتاج التعليميّ. 

 

* * * 

إذا ما نظرنا إلى هذه القضيّة من وجهة نظر أخرى، قد نتفهّم أن خروج الطالب من الغرفة الصفّيّة، وهو عارف بالمطلوب معرفة محدّدة أيسر من حيث الدراسة والتحضير للاختبار. فالقضايا متشعّبة، والدروس محشوَّة، فما أيسر حفظ عدد محدّد من النقاط، مقارنةً باستيعاب المفاهيم وتتبّع الأحداث. والكثير يرى أنّ حفظ كمّ من المفردات المحدّدة مسبقًا وحفظ قواعد اللغة حفظًا رياضيًّا أسهل من بناء لغة ومهارة. والفيصل هو الأولويّات المرسومة والغايات المرجوّة من العمليّة التعليميّة.  

وهنا أطرح السؤال الأوّل مرّة أخرى: تعليم أم "من سيربح المليون"؟ أو بالأحرى "من سيربح العلامة؟"