معًا لتعزيز المساواة في التربية
في عالم مليء بالتحدّيات والتغييرات المستمرّة، يبقى تحقيق المساواة في التربية ركيزة أساسيّة لبناء مجتمعات تعتمد المبادئ الرئيسة للمشاركة وتحقيق العدالة واحترام التنوُّع.
معًا لتعزيز المساواة في التربية
في عالم مليء بالتحدّيات والتغييرات المستمرّة، يبقى تحقيق المساواة في التربية ركيزة أساسيّة لبناء مجتمعات تعتمد المبادئ الرئيسة للمشاركة وتحقيق العدالة واحترام التنوُّع.
نسرين كزبور | معلّمة رياضيّات- لبنان

في عالم مليء بالتحدّيات والتغييرات المستمرّة، يبقى تحقيق المساواة في التربية ركيزة أساسيّة لبناء مجتمعات تعتمد المبادئ الرئيسة للمشاركة وتحقيق العدالة واحترام التنوُّع. فالمساواة في التعليم توفّر فرصًا متساوية لتحقيق إمكانيّات الطلّاب الكاملة، ضمن بيئة تعليميّة آمنة وشاملة وبعيدة عن التمييز والتحيّز، فهي تُسهِم في تعزيز العدالة الاجتماعيّة والتفاهم الثقافيّ وتحقيق التنمية المستدامة. ومن هذا المنطلق، يعدّ اتّباع استراتيجيّات تعزيز المساواة في التربية أداة حيويّة لمجابهة التحدّيات، سواء أكانت هذه التحدّيات اختلافات ذات طابع ثقافيّ أم اقتصاديّ أم غير ذلك. 

 

الشعور بعدم المساواة 

وجدت ثانويّة رسميّة من ثانويّات لبنان عقبة في كيفيّة التعامل لردم الفجوة الموجودة بين طلّاب الفرع الفرنسيّ والفرع الإنكليزيّ في المرحلة الثانويّة، حيث يشعر طلّاب الفرع الإنكليزيّ بالإهمال وعدم التقدير وقلّة اهتمام الإدارة والهيئة التعليميّة، ويعود ذلك إلى عددهم القليل، نسبة إلى أعداد طلّاب الفرع الفرنسيّ. أضف إلى ذلك أنّ الفرع الإنكليزيّ حديث النموّ في هذه البيئة. في المقابل، يرى طلّاب الفرع الفرنسيّ أنفسهم ينتمون إلى طبقة اجتماعيّة أدنى مستوى من التي ينتمي إليها طلّاب الفرع الإنكليزيّ، ظنًّا منهم أنّ طلّاب الفرع الإنكليزيّ آتون من مدارس خاصّة لا يدخلها إلّا الميسورون؛ إذ معظم طلّاب الفرع الإنكليزيّ كانوا يعيشون في دول الاغتراب، وسلوكهم "مميّز" وطريقتهم بالكلام مختلفة، ما أدّى إلى خلق غيرة ونفور وانعدام التوازن في التعامل.   

 

شعرت الهيئتان الإداريّة والتعليميّة بأهمّيّة الأمر، فبادرتا إلى اتّخاذ عدّة إجراءات للتقليل من حدّة الخلاف والاختلاف الحاصل بين الطلّاب، وذلك باتّباع استراتيجيّة معيّنة تجعلهم في وضعيّة مشتركة، وتسلِّط الضوء على أهمّيّة التواصل والتعاون والمشاركة والحوار واحترام الآخرين، وتهدف إلى تقريب المسافات وتعزيز العلاقات وتحقيق المساواة بين طلّاب الفرعين. فالتعزيز يؤدّي دورًا رئيسًا في حلّ مشكلات التعليم، لتوافقه مع خصائص الطلّاب النفسيّة والعقليّة. وهذا ما يؤكّد عليه عطيه (2009)، فمن وجهة نظره: "التعزيز عمل مخطّط له وهادف، ويُمارَس بطريقة فعّالة تنسجم مع خصائص المتعلّمين وطبيعتهم، وهو عامل مهمّ من عوامل التعلّم؛ لما له من أثر في تثبيت التعلّم". 

 

وعليه، فالتربية والتعليم عمليّتان مترابطتان تهدفان إلى تطوير الطالب وتنمية قدراته ومهاراته، حيث تعمل التربية على تنمية القيم والأخلاق والسلوكيّات الإيجابيّة. ويرى عبد الله (2008) أنّ التربية عمليّة تنمويّة شاملة تهدف إلى تنمية قدرات الفرد وقيمه واتّجاهاته وتوجيه سلوكه، ليتكيّف مع مجتمعه. بينما يهدف التعليم إلى نقل المعرفة والمهارات من جيل إلى آخر. فهو من منظور شاهين (2009)، قضية مجتمعيّة يجب أن يشارك فيها جميع أطراف المجتمع، كالأسرة والمدرسة والهيئات الاجتماعيّة وغيرهم، حيث تركِّز على تقديم الدعم والمعارف والتوجيهات إلى الطالب لتحقيق الأهداف.  

 

ينمّي اعتماد مبدأ المساواة في نظام التعليم اتّجاهات الطالب الإيجابيّة للتعلّم، ويساعده على الاندماج في المجتمع، وتحقيق إنجازاته الشخصيّة، وتعزِّز مشاركته ضمان التوازن وتفادي التمييز. يتجلّى ذلك في تطبيق عدّة ممارسات، كتشجيعه على التواصل الفعّال والاحترام المتبادل بينه والمعلّمين، وحثّه على استكشاف وجهات النظر المختلفة وتقييمها، وتعزيز قيم التعاون وقبول التنوّع، بالإضافة إلى تحفيزه على تحمّل المسؤوليّات، وإشعاره بأهميّته فردًا فعّالًا في حلّ المشكلات. يُسهم ذلك في بناء جيل متسامح ومتعاون لضمان بناء مجتمع مزدهر ومتقدِّم، يرتكز إلى قيم العدالة والمساواة.  

 

من هنا، تقتضي المساواة في التعليم توفير فرص متساوية لجميع الطلّاب من مختلف الطبقات للتعلُّم والتطوّر، بما في ذلك تأمين الموارد والدعم اللازم وتلبية احتياجاتهم بحسب اختلاف مستويات مواهبهم وقدراتهم، فضلًا عن اعتماد التنوّع في بيئة التعلُّم لتعزيز التفاهم والاحترام المتبادل. كما تشير، وفق ما يحدّد Mclaughin وBaker (2007)، إلى مبدأ المعاملة العادلة والمتساوية لجميع الأفراد من دون تمييز، بناء على الوضع الاقتصاديّ أو الطبقة الاجتماعيّة أو غيرها، وتسعى إلى تحقيق تكافؤ الفرص والحقوق بين الأفراد. أمّا بالنسبة إلى العدالة الاجتماعيّة، فتعني تحقيق التوازن في الفرص بين الأفراد بُغية تحقيق المساواة للجميع، وتقليل الفجوات الاقتصاديّة والاجتماعيّة بين طبقات المجتمع.  

 

نموذج تجربة في تعزيز المساواة  

في مطلع شهر تشرين الثاني من السنة الدراسيّة 2023-2024، وبعد مرور شهر على انطلاقة السنة الدراسيّة في لبنان، قرَّرت إدارة الثانويّة التي أدرّس فيها اتّباع استراتيجيّة معيّنة في الصفّ الثانويّ الثالث، فرع الاجتماع والاقتصاد، في موضوع الإحصاء في مادّة الرياضيّات، تبدأ بالفرع الإنكليزي وتتوسّع لتصل إلى الفرع الفرنسيّ، وذلك لردم الفجوة بينهما. 

بدايةً، لتطبيق هذه الاستراتيجيّة لا بدّ من توضيح الأدوات المستخدمة فيها، وهي الكتاب المدرسيّ والآلة الحاسبة واللوح وأوراق وأجهزة خلويّة وقناة خاصّة على اليوتيوب.   

 

الحصّة الأولى: توضيح الهدف من الدرس 

وضّح المعلّم الهدف من الدرس وشرح الاستراتيجيّة التي ستنفَّذ، وآليّة تطبيقها، وتبادَل الآراء مع طلّاب الفرع الإنكليزيّ. وبعد إبداء موافقتهم وإعجابهم بالفكرة، انتقلنا إلى مرحلة التنفيذ مزوّدين بدافعيّة وشغف بالتعلّم، ونكون بهذه الخطوة قد حقّقنا جزءًا من الهدف المرجوّ تحقيقه.  

 

الحصّة الثانية: شرح المفاهيم الرياضيّة وإنشاء مجموعات  

بدأت العمليّة التعليميّة في الحصّة الثانية، حيث شرح المعلّم المفاهيم الرياضيّة المتعلّقة بالإحصاءات، مستندًا إلى أمثلة توضيحيّة، وموضِّحًا أهمّيّة الآلة الحاسبة، عارضًا أنواعها. فالآلة الحاسبة هي المحور الرئيس لتعلّم الإحصاء، ومن المتعارف عليه أنّ ثمّة أنواع متعدّدة من الآلات الحاسبة، منها ما هو قديم ومنها ما هو حديث، ولكلّ نوع سعر ونمط معيّن للاستخدام. فكلّما زاد التطوّر، أصبحت مهمّة الاستخدام أسهل. بعد ذلك، طلب إلى الطلّاب إنشاء مجموعات حسب نوع كلّ آلة حاسبة، وكلّفهم بالبحث واستكشاف كيفيّة استخدامها وتوظيفها لحلّ قواعد الإحصاء ومسائله.  

 

الحصّة الثالثة: تنفيذ الأنشطة التطبيقيّة وتلخيصها 

كان الطلّاب موزّعين إلى ثلاث مجموعات، كلّ مجموعة يترأسها قائد يدير العمليّات بموافقة أعضاء المجموعة. وزّع المعلّم ورقة تتضمّن أنشطة تطبيقيّة موحّدة لجميع المجموعات، وطلب إليهم البدء بقراءتها ليصار إلى حلّها بعد التأكّد من أنّ كلّ مجموعة لديها، بالحدّ الأدنى، ثلاثة طلّاب قد اكتسبوا مهارة استعمال الآلة الحاسبة لحلّ المسائل الإحصائيّة. وبالفعل، بدأ عمل المجموعات، وكان المعلّم يتابع سير العمل ويتدخّل عند الحاجة، وعند الانتهاء من كلّ نشاط تطبيقيّ، يلخّص المعلّم شفهيًّا، ويطلب مندوبًا من كلّ مجموعة ليوضِّح للجميع كيفيّة توظيف النوع المستخدَم من الحاسبات في مجموعته، حرصًا على تحقيق المساواة بينهم في استخدام التكنولوجيا، أو بمعنى آخر، حتّى لا يعتقد الطالب الذي يمتلك آلة حاسبة قديمة أو غير متطوِّرة أنّه أقلّ معرفة أو أقلّ تطوُّرًا من أقرانه. 

 

تصوير الفيديو 

بالتزامن مع هذا الجهد المبذول، طلب المعلّم إلى الطلّاب تصوير فيديو توضيحيّ يشرح فيه طالب كيفيّة استخدام الآلة الحاسبة الخاصّة به، وذلك بعد الاطِّلاع على اليوتيوب على كيفيّة توضيح ذلك. أنجز الطلّاب الفيديوهات بعد تعديلها عدّة مرّات، لتكون مميّزة لنقل الخبرات للفرع الفرنسيّ والأجيال اللاحقة، حيث خُزِّنت في قناة خاصّة. استغرق هذا النمط من العمل أربع حصص على مدار ثلاثة أيام، تقدّمنا فيها في تحقيق الأهداف المرجوّة من ناحية زيادة دافعيّة الطلّاب، ونشر ثقافة التعاون والحوار وتكافؤ الفرص في بيئة الفرع الإنكليزيّ، وبعدها انتقلنا إلى مرحلة جديدة، وهي التحضير للدخول إلى الفرع الفرنسيّ.   

 

الفرع الفرنسيّ: شرح آليّة العمل  

قبيل التطبيق في الفرع الفرنسيّ، شرحنا ما سيتمّ فعله في الأيّام المقبلة، وطلبنا إلى الطلّاب أن يوزّعوا أنفسهم إلى ثلاث مجموعات كما فعلنا مع طلّاب الفرع الإنكليزيّ بعدما تأكّدنا من امتلاكهم الأنواع نفسها من الآلات الحاسبة؛ ممّا سهّل المهمّة علينا.  

 

الخطوة الأولى 

إرسال روابط الفيديوهات التي أعدّها طلّاب الفرع الإنكليزيّ، للاطِّلاع على المحتوى وتبسيط عمليّة التفسير والفهم.  

 

الخطوة الثانية: إنشاء مجموعات   

في اليوم التالي، وفي الوقت نفسه، وزّعنا ستّة طلّاب (طالبين من كلّ مجموعة، والمقصود هنا كلّ طالبين معهما آلة حاسبة يختلف نوعها عن طلّاب المجموعتين الأخريين) إلى شعب الفرع الفرنسيّ الثلاثة، مصطحبين معهم آلاتهم الحاسبة الخاصّة بهم. فبدأت الحصص الدراسيّة المخصّصة بالرياضيات، بوجود المعلّم والطلّاب المدرَّبين من الفرع الإنكليزيّ، وطلّاب الصفّ الذين كانوا موزّعين إلى ثلاث مجموعات بانتظار تلقّي المعلومات.  

 

الخطوة الثالثة: شرح الأهداف والمفاهيم وكيفيّة استخدام الآلة  

بدأ المعلّم بشرح أهداف الدرس، وكتابة المفاهيم على اللوح وترك المهمّة بعد ذلك للطلّاب المدرّبين لتوضيح المفاهيم، وشرحها وكيفيّة استخدامها وتطبيقها باستعمال الآلة الحاسبة المخصّصة للمجموعة. وأثناء تطبيق هذا العمل كان المعلّم يراقب جدِّيّة التنفيذ، ويتدخّل، إن دعت الحاجة، بالمساعدة أو تزويد الطلّاب بتغذية راجعة، واستمرّ هذا النمط من العمل لمدّة أسبوع خلال حصص الرياضيّات.  

 

الخطوة الرابعة: تصوير فيديو  

في السياق نفسه، طلبنا إلى طلّاب القسم الفرنسيّ إعداد فيديوهات مشابهة لما قام به طلّاب القسم الإنكليزيّ لحفظها في القناة، مع احتساب ما قاموا به كمشروع إضافيّ يضاف إلى درجاتهم. وبعد الانتهاء من إتمام مهمّة الطلّاب المدرَّبين من الفرع الإنكليزيّ، أجرى المعلّم اختبارًا شفهيًّا لكلّ طالب على حدة، ليتأكّد من اكتسابه جميع المفاهيم المطلوبة،   

 

آراء المتعلّمين 

سُئِل كلّ طالب عن رأيه بهذا الإجراء، وماذا أفاد معرفيًّا واجتماعيًّا منه. عبَّر معظم الطلّاب من الفرع الفرنسيّ عن شعورهم بالرضا، وتأكّدوا من تحقّق عمليّة الاكتساب التامّة بالاختبار الذي أجراه المعلّم. بالإضافة إلى الانطباع الجديد الذي تبلور لدى طلّاب الفرع الفرنسيّ عن زملائهم في الفرع الإنكليزيّ بأنّهم لطفاء وخلوقون ويحبّون مساعدة غيرهم وغير متعجرفين، والأهمّ من ذلك أنّهم متساوون في عمليّة التعلّم، ماديًّا ومعنويًّا، ويمتلكون الآلات الحاسبة نفسها، ويقدرون على إعداد الفيديوهات. أمّا طلّاب الفرع الإنكليزيّ فاستطاعوا تقدير ذواتهم، وأثبتوا امتلاكهم مهارات قياديّة؛ ممّا عزّز ثقتهم بأنفسهم، ومكَّنهم من تنظيم معلوماتهم وبناء خبراتهم وتثبيت المفاهيم وتنمية تفكيرهم الناقد، فضلًا عن تعزيز مهاراتهم البحثيّة التي وفّرت لهم فرصة للابتكار، باستدعاء المعرفة السابقة وصياغتها بصورة جديدة، والأهمّ تخطّي شعورهم بإهمال الإدارة لهم. 

 

أمّا بالنسبة إلى الإدارة، فراقبت سلوك الطلّاب في الملاعب للتأكّد من عمليّة الإدماج، وراقبت درجاتهم الفصليّة وقارنتها بالسابقة. كما تمّ ذلك في الأنشطة اللاصفيّة التي طلبت إليهم خارج إطار الساعات المدرسيّة، حيث لمست الأثر الواضح لهذا التحرّك من ناحية السلوك والتعامل والاندماج والتعاون والتعلُّم.   

 

* * * 

وفي الختام، يتبيَّن لنا أنّه بتوفير فرص متساوية لجميع الطلّاب، نستطيع أن نحقّق التقدّم والازدهار للمجتمعات. وبالتالي، نبني عالمًا أكثر عدالةً وتنميةً مستدامة، حيث يتمكّن الجميع من تطوير مهاراته. لذا، وجب على التربويّين والمعلّمين ابتكار استراتيجيّات جديدة تعزِّز المساواة والعدالة الاجتماعيّة، وتتبنّى ثقافة العمل الجماعيّ والتعاون في التعليم، ضمن بيئة متفاهمة تشجِّع على الابتكار والتعلّم المستمر والتطوير الشخصيّ، لأنّ تمكين الطلّاب كافّة من جميع الطبقات والخلفيّات المختلفة، يضمن استدامة التطوّر والنموّ على المدى الطويل. فنجاح العمليّة التعليميّة يرتكز إلى فهم احتياجات الطلّاب وتوفير بيئة محفّزة وداعمة لهم، مع تقديم الدعم النفسيّ والاجتماعيّ للطلّاب، بالإضافة إلى حثّهم وتشجيعهم على التشارك والتحاور وتطوير أدائهم، فضلًا عن تعزيز الإبداع والتفكير الناقد لديهم ودمج التكنولوجيا في التعليم.    

 

المراجع  

- شاهين، عماد. (2009). مبادئ التعليم المدرسيّ للأهل والمعلّمين. دار الهادي.   

- عبد الله، محمّد. (2008). الفلسفة التربويّة ودورها في التنمية. دار كنوز المعرفة العلميّة. 

- عطيه، محسن. (2009). المناهج الحديثة وطرائق التدريس. دار المناهج.  

-Mclaughlin, E and Bakar, J. (2007). Equality, Social justice and Social Welfare: A Road Map to the New Egalitarianisms. Cambridge Core. 6(1). 53-68.  

http://dx.doi.org/10.1017/S1474746406003393