هل من السهل أن يتلقّى الأطفال التعليم بلغتين مختلفتين في صفّ واحد في الوقت نفسه؟ هل يمكن العمل مع شريكة داخل الصفّ طوال الوقت؟ أسئلة تبادرت إلى ذهني عندما بدأتُ العمل في مدرسة ثنائيّة اللغة، والتي يتعلّم الأطفال فيها باللغتين العربيّة والإنكليزيّة، حيث تتواجد في الصفّ معلّمتان طوال الوقت، كلّ منهما متخصّصة بإحدى اللغتين.
يهدف هذا المقال إلى تبيان مفهوم التعليم ثنائي اللغة، وتوضيح الاستراتيجيّات اللازم اتّباعها لإنجاحه، من اتّفاق وتخطيط وتعاون، وذلك بالاستناد إلى تجربة شخصيّة.
مفهوم التعليم ثنائي اللغة وأشكاله
يُعرَف التعليم ثنائيّ اللغة بالإنكليزيّة باسم "Dual-language education"، وقد كان يُعرَف سابقًا باسم "Bilingual Education". وهو طريقة في التعليم تمّ تطويرها في الولايات المتّحدة الأميركيّة وكندا، في ستينيّات القرن الماضي (Genesee F. & Kathryn L. 2008). كما نجد له تعريفات كثيرة في الأدبيّات، تختلف في المفردات، ولكنّها ذات دلالة واحدة.
يُعرِّف مركز اللسانيّات التطبيقيّة في واشنطن التعليم ثنائي اللغة بأنّه نهج فعّال لتطوير اللغة وإتقانها، ومعرفة القراءة والكتابة باللغة الإنكليزيّة ولغة الشريك (Center for Applied Linguistics, 2022). والمقصود بلغة الشريك لغةُ المعلّم الثاني في الصفّ نفسه. وقد أوضحت تعريفات أخرى الهدف من التعليم ثنائيّ اللغة، واعتبرَت أنّه طريقة في التعلّم، هدفها توفير المعرفة بالمحتوى المتّصل بمستوى الصفّ، من خلال اللغة الإنكليزيّة ولغة أخرى، لتحقيق تحصيل أكاديميّ عالٍ (Valdez, et al., 2016).
للتعليم ثنائيّ اللغة عدّة أشكال، تختلف باختلاف المدارس والأماكن والهدف الذي انتُهِج من أجله هذا النظام في التعلّم. تُعرَف هذه الأشكال بأنّها برامج تطويريّة ثنائيّة اللغة (Developmental, or maintenance, bilingual programs)، يتمّ فيها، في المقام الأوّل، تسجيل الطلّاب الذين تكون لغتهم الأم لغةَ الشريك. ومنها ما يُعرَف ببرامج دمج ثنائيّة الاتّجاه أو ثنائيّة اللغة (Two -way Bilingual Immersion Programs)، وفيها يُجمع الطلّاب الذين تكون الإنكليزيّة لغتهم الأم، مع الذين تكون لغة المعلّم الشريك لغتهم الأم في صفّ واحد.
ومن مميّزات التعليم ثنائيّ اللغة، محافظته على اللغة الأمّ التي تعتبر مصدر الحياة الكاملة للطفل، لأنّها تساعده في الحفاظ على ماضيه وحاضره، وتُعرِّفه بثقافته، ويصل بها الطفل إلى التفكير والفهم العميق، وتُمكِّنه من الحفاظ على التواصل القويّ مع الآخرين. يسهم التعليم ثنائيّ اللغة في إعداد طفل مستعدّ للحياة داخل مجتمع، ومتعدّد الثقافات، ومحافظ على بيئته الثقافيّة، ومتقبّل للاختلافات.
دور التعاون في تحقيق التكامل داخل الصفّ
لا يعني التعليم ثنائيّ اللغة أن يكون معلّم اللغة العربيّة مُترجِمًا لما يقوله المعلّم الشريك باللغة الإنكليزيّة، بل هو يدير عمليّة التعلّم مع شريكه؛ إذ عليه أن يكمل المفاهيم والمعارف باللغة الأمّ للطفل. ومن خلال هذه التجربة، لم أعد مجرّد معلّمة للغة العربيّة، بل أصبحتُ معلّمة صفّ، أشارك في تعليم المعارف والمهارات جميعها، ولا سيّما في مرحلة الطفولة المبكّرة التي تبدأ من عمر3-6 سنوات. تطلَّب ذلك منّي أنّ أعلِّم اللغة داخل سياق، بدلًا من تعليمها بالطريقة التقليديّة، وفي ساعات دراسيّة محدّدة.
تعلّمتُ من هذه التجربة الكثير، مثل العمل مع شريكة جعلتني أكثر مرونة لتقبّل آراء الآخرين وفهمهم، واطلاع أكبر على المعارف والثقافات المختلفة، وكيفيّة دمجها مع ثقافتي وثقافة الأطفال. لذلك، كان من المهمّ جدًّا الحفاظ على روح التعاون والاحترام المتبادل طوال الوقت بين الطرفين، ما يخلق أجواء مريحة وممتعة في العمل. ولكنّ الأمر لا يخلو من تحدّيات، فقد واجهت تحدّيات جديدة ومختلفة لم أختبرها من قبل خلال مسيرتي المهنيّة.
أهمّيّة الاتفاقيّة الصفّيّة من أجل بداية ناجحة
في البداية كان عليّ كسر الجليد مع شريكتي في الصف، ومحاولة تقديم نفسي لها. لذلك، وضعنا اتفاقيّة بيننا، فيها بعض البنود التي تُوضِّح خطّة عملنا خلال السنة، وهي شبيهة بالاتفاقيّة الصفّيّة التي تتمّ كتابتها في بداية العام الدراسيّ مع المتعلّمين. عملنا في هذه الاتفاقية وفق مستويات ملامح المتعلّم في نظام البكالوريا الدوليّة حتّى تصبح نهجًا نسير عليه، ونعلّم الأطفال على أساسها. فاتّفقنا على أن نكون:
متواصلتين كفريق، نناقش المواضيع بشفافية عالية؛ ومتسائلتين، نتيح الفرصة لطرح الأسئلة والتعلّم من بعضنا البعض؛ ومفكّرتين، نبادر في تطبيق مهارات التفكير النقديّ والإبداعيّ لحلّ المشكلات المعقّدة ومعالجتها واتّخاذ القرارات الصائبة، شجاعتين، في خوض تجارب جديدة والتعلّم منها؛ منفتحتين، نحترم الآخرين ونتقبّل الاختلافات بيننا، خصوصًا أنّنا من ثقافات مختلفة؛ متوازنتين، نحاول الموازنة بين حياتنا العمليّة والشخصيّة قدر الإمكان؛ متأملتين، في ممارستنا التعليمية ومتطلعتين للتجديد والتطوير فيها.
دَعَتني هذه التجربة الجديدة إلى تطوير لغتي الإنكليزيّة بشكل كبير، حتّى أستطيع التواصل مع شريكتي طوال الوقت. وقد دعمَت إدارة المدرسة ذلك بصورة كبيرة، ووفّرت لنا دورات لتعليم اللغة الإنكليزيّة، ساهمت في تحقيق التواصل والتفاهم مع المعلّم الشريك.
التحدّيات وضرورة التخطيط من أجل تحقيق التطوّر
تخلّيتُ عن اعتقادات كثيرة مارستُها لسنوات خلال مسيرتي المهنيّة من أجل إنجاح هذه العمليّة التعليميّة. وجرّبتُ طرقًا ومناهج جديدة في التعليم، أكسَبَتني خبرات جديدة من المشاهدات الحيّة داخل الصف. ولكن لم تخلُ أجواء المشاركة من بعض الاختلافات في التعامل مع بعض الأحداث داخل الصف الدراسيّ مع المعلّمة الشريكة؛ أذكر، مثلًا، أنّنا اختلفنا على التأمّلات مع الأطفال، وتساءلنا معًا، هل نتأمّل في بعض التصرّفات التي صدرت عنهم في الوقت نفسه الذي حدث فيه التصرّف؟ أم نجلس ونتأمّل مع الطلّاب بعد انتهاء التصرّف؟ وعندما عجزنا عن الوصول إلى اتفاق، لجأنا إلى المختصّين لدينا في المدرسة لنأخذ رأيهم.
من ناحية أخرى، شكّل مفهوم إعطاء الحرّيّة للطلّاب في اختيار طريقة تعلّمهم، تحدّيًّا كبيرًا بيني وشريكتي، ولا سيّما أنّنا في نظام يتّبع نهج التعلّم من خلال اللعب. من جهتي، كنت أضيف إلى هذا النهج ضرورة الحفاظ على الروتين اليوميّ للمدرسة، والقوانين التي يجب أن يلتزم بها الأطفال داخلها؛ فالحرّيّة لا تعني مخالفة القواعد العامّة للمدرسة. بينما اعتبرت شريكتي ذلك تقييدًا للحرّيّة التي يحتاج إليها الطلّاب للإبداع. مثل هذه الاختلافات تتطلّب وقتًا للحوار والمناقشة والتجربة، حتّى نصل إلى اتّفاق يُقارِب بين وجهتي نظرنا. من هنا، قمنا بتحديد بعض النشاطات والأماكن التي يجب على الأطفال اتّباع قوانينها أثناء أداء تلك المهام أو التواجد في بعض الأماكن، في حين خصّصنا أوقاتًا ونشاطات تكون لدى الأطفال فيها الحرّيّة الكاملة.
ومن التحدّيات الأخرى التي واجهتنا، تحديد أهداف التعلّم التي يتمّ التركيز عليها، وكيفيّة تقييم الطلّاب، ولا سيّما في وحدات البحث التي تستمرّ كلّ وحدة فيها عدّة أسابيع. لذلك، وضعنا نماذج متعدّدة نحدّد فيها كيف نضع الأهداف وآليّات تقييمها، الأمر الذي أعطى التأمّل اليوميّ والأسبوعيّ أهمّيّة خاصّة.
كان علينا التخطيط لكلّ يوم وكلّ نشاط داخل الصف، والتحضير له بصورة جيّدة حتّى تتعرّف كلّ معلّمة إلى دورها ويكون التعلّم متكاملًا، ومن ثمّ توثيق هذا التخطيط إلكترونيّا بشكل منظّم.
كما واجهنا بعض التحدّيات اللغويّة عند الأطفال؛ فأحيانًا بعضهم لا يتكلّم العربيّة، وأحيانًا أخرى لا يتكلّم الإنكليزيّة. لذلك، كان علينا الموازنة بين اللغتين داخل الصف، بحيث لا تطغى إحداهما على الأخرى، ونساعد الأطفال على تطوير لغتهم بالصورة المرجوّة.
ومن التحدّيات الكبيرة وقوع ظروف الطارئة مع إحدى المعلّمتين، ما يضطرّها إلى الغياب لفترة. هذا الوضع في برنامج ثنائيّ اللغة يؤدّي إلى حصول خلل في نظام التعليم داخل الصف، لأنّ التعلّم يصبح أحادي اللغة، ما يؤثّر في أداء الأطفال.
بالإضافة إلى ذلك، يقتضي التعليم ثنائيّ اللغة اطلاعُ المعلّمتين على المصادر التي تستخدمانها، لجعل البيئة الصفّيّة واضحة وآمنة للجميع. يتطلّب ذلك بحثًا عن كتب وقصص باللغتين، من شأنها أن تخدم الوحدة البحثيّة. وكنتُ قد تعلّمتُ، أثناء تجربتي، ضرورة الاتّفاق على طريقة التواصل مع أولياء الأمور، ليدركوا التناغم والتفاهم والتكامل بيننا. عملتُ أنا وشريكتي على ذلك بجهد كبير، إذ كنّا قبل أيّ لقاء نحدّد النقاط الأساسيّة التي نتحدّث عنها مع أولياء الأمور وفق طريقة تواصل جيّدة، تستند إلى فيديوهات نتشارك فيها الحوار مع الأهل، لتحديد الأشياء المرجوّة منهم.
***
بناءً على ما تقدّم، نجد أنّ العمل في برنامج ثنائيّ اللغة يمكن أن يحقّق للمعلّم نجاحًا كبيرًا وخبرة مُكثَّفة، وهذا يظهر عندما تكون الأهداف المشتركة مع المعلّم الشريك هي الأكثر تحقًّقا. ذلك ما حدث معي خلال سنتين من العمل في برنامج ثنائيّ اللغة، لأنّي لم أشعر بأنّي أسير وحدي، وإنّما هناك من يسير معي ويدعمني ويصحّح أخطائي ويُطوِّر أفكاري، من أجل أن نحقّق هدفًا مشتركًا، وهو مصلحة الأطفال.
المراجع
- Center for applied linguistics. (2022). Bilingual and Dual Language Education. https://wpdev.cal.org/index.php/areas-of-impact/english-learners/bilingual-dual-language-edu/
- Genesee, F., and Kathryn, L. (2008). Dual Language Education in Canada and the USA. Encyclopedia of Language and Education. 2(5). 253-263. https://www.psych.mcgill.ca/perpg/fac/genesee/21.pdf
- Valdez, Veronica E., Juan A. Freire, and Delavan M. (2016). The Gentrification of the dual language education. The Urban Review. 4(48). 601-627.