كيف يرضى المعلّمون عن مهنتهم؟
يحاول هذا المقال معالجة نواحٍ مهمّة في رفاه المعلّمين، من الأجور إلى التقييم إلى التنمية المهنيّة، مع اعتقادنا بأنّ الأجور غالبًا ما تكون من أولويّات اهتمام المعلّمين عند المطالبة بتحسين ظروف العمل، ويقارنونها بأجور نظرائهم في الدول المتقدّمة في القطاع ال
كيف يرضى المعلّمون عن مهنتهم؟
يحاول هذا المقال معالجة نواحٍ مهمّة في رفاه المعلّمين، من الأجور إلى التقييم إلى التنمية المهنيّة، مع اعتقادنا بأنّ الأجور غالبًا ما تكون من أولويّات اهتمام المعلّمين عند المطالبة بتحسين ظروف العمل، ويقارنونها بأجور نظرائهم في الدول المتقدّمة في القطاع ال
محمّد تيسير الزعبي | خبير مناهج اللغة العربيّة وأساليب تدريسها، ومصمم برامج تدريبيّة - الأردن

ما زال صدى عبارة "الطالب محور العمليّة التعليميّة - التعلّميّة" يرنّ في أذني منذ مدّة طويلة، ويوجَّه اهتمام الدراسات والأبحاث والنظريّات صوب الطالب وحده، حتّى بدا وكأنّه العنصر الوحيد في العمليّة التعليميّة - التعلّميّة.    

ربّما حان الوقت لأن نوسِّع دائرة التفكير في تلك العبارة السائدة، لتشمل تأمّل أحوال المعلّمات والمعلّمين الذين سيصلون بنا إلى الطالب الأنموذج الذي يتمحور حوله التعليم، وصفات المعلّم وخصائصه، والظروف الملائمة لعمله كي يبدع ويتفوّق.   

 

تفتح منهجيّات هذا الملفّ المهمّ الذي يحتاج إلى دراسة بحثيّة عميقة في وطننا العربيّ، للغوص في رفاه المعلّم ودوره في تحقيق أهداف النظام التعليميّ بقوّة من الناحيتين القيميّة والأكاديميّة، ذلك أنّ الإنجاز ليس سهلًا، ولا بدّ له من بيئة حاضنة ترعاه، وتتيح له فرص الظهور والنموّ، والبيئات المدرسيّة ليست بعيدة عن هذا المعنى، والحديث الداعي باستمرار للنهوض بأداء طلبتنا، وإكسابهم مهارات القرن الواحد والعشرين، يفرض علينا بالضرورة تحسين بيئات العمل، والاهتمام الكافي بالعوامل التي تؤدّي إلى تحقيق نتيجة النظام التعليميّ النهائيّة.   

يحاول هذا المقال معالجة نواحٍ مهمّة في رفاه المعلّمين، من الأجور إلى التقييم إلى التنمية المهنيّة، مع اعتقادنا بأنّ الأجور غالبًا ما تكون من أولويّات اهتمام المعلّمين عند المطالبة بتحسين ظروف العمل، ويقارنونها بأجور نظرائهم في الدول المتقدّمة في القطاع التعليميّ، وتجاهل هذه الأمور يقودنا إلى التفكير بسؤال مخيف: ماذا لو ترك المعلّمون المتميّزون التدريس؟ 

الحفاظ على استقرار النظم التعليميّة، وجعل المعلّمين يقدّمون أفضل ما لديهم، يدفعانا إلى التفكير في السبل التي تجعل المعلّمين والمعلّمات راضين عن مهنتهم.  

 

من الواقع  

أسباب كثيرة تدفع خرّيجي الجامعات إلى العمل في التعليم، وفي تقديري، قد تكون الرغبة والدافعيّة في آخر القائمة.  

يكاد يكون الأجر أوّل ما يسأل عنه الموظّف في أيّ مجال من مجالات العمل، مع تأكيدنا على أنّه يأتي مع عوامل أخرى كثيرة، منها عدد ساعات العمل، والمهمّات والمسؤوليّات، والبيئة الداعمة والقوانين وآليّات المتابعة وغيرها. وفي مهنة التعليم بات من الضروريّ التفكير جدّيًّا بإعادة النظر في أجور المعلّمين في وطننا العربي كلّه.   

هذا التفكير يعاد لأسباب واجبة وكثيرة:   

1. التطوّرات التي يشهدها قطاع التعليم شاملة ومتجدّدة، وبحاجة إلى أن يواكبها المعلّم.   

2. النظرة إلى أدوار المعلّم التقليديّة تغيّرت، وأصبحنا بحاجة إلى معلّم ماهر يجيد أكثر من مجال.   

3. تفعيل دور المعلّم في البيئة الصفّيّة كاملة، وليس داخل الغرفة الصفّيّة فقط.  

4. تحويل الأفكار والرؤى الحديثة، ودعوات التجديد إلى مهارات وأنشطة تظهر في أداء الطلّاب. 

 

هذه الأسباب وغيرها ممّا تمكن إضافته، تضع قضيّة الأجور في صلب الاهتمام، ويكون المعلّم الماهر الذي يستطيع تحقيق هذه الأهداف ويُحدِث هذه التغييرات، مُطمَئِنّ البال بأنّ الأجر يضمن له مستوى معيشيًّا لا يدفعه إلى التفكير بالعمل بعد الظهر، أو الاعتراض المستمرّ على كثرة المهمّات وتنوّعها، أو تنفيذها من دون اكتراث لما ستحقّقه من نتائج متدنّية.  

 

رأي المعلّم 

تلك الرؤى التي تحدّثنا عنها في الفقرة السابقة تجعل المعلّم أسعد، ويُقبل على تنفيذها بهمّة عالية وحرص شديد، عندما يكون جزءًا من صياغتها ووضعها واعتماد آليّات تنفيذها. ذلك أمر ضروريّ لأنّ المعلّم أخبر بحاجات الطلبة ومستوياتهم، وإن كانت ملائمة البيئة التي يعمل فيها، وبالموارد اللازمة لتحقيقها. وإن كانت المهمّات صدرت عن نظام الدولة المركزيّ، فأعضاء فريق المدرسة كلّهم يكيِّفون تلك المهمّات لتلائم الواقع الحقيقيّ الذي يعملون فيه ضمن المستوى المطلوب من الجودة.   

لن يبخل المعلّمون والعاملون في المدرسة بوقتهم وتعبهم وحرصهم عندما يكون بالهم مطمئنًّا تجاه مسؤوليّات أسرهم وعائلاتهم المعيشيّة؛ حيث لا يضطرّون إلى التفكير خارج حدود المدرسة، بل سيكون الأمر مدعاة لاستثارة إبداعهم، وابتكار الحلول التي تجعل التطبيق أكثر واقعيّة ودقّة.   

 

أوقات متاحة للتعلّم   

لا يتوقّف المعلّمون والمعلّمات عن التعلّم، فبالهم مطمئنّ لأنّ الحاجات المعيشيّة مُلبّاة. وهذا الأمر يعني أنّ أيّ فرصة للتعلّم واكتساب مهارات جديدة متاحةٌ، ولا تتعارض مع متطلّبات الحياة خارج اليوم المدرسيّ. فتحسين المخرجات التعليميّة سيكون القاسم المشترك بين المسؤولين في السلطة التعليميّة، والمعلّمين والمعلّمات، وهذا الأمر يحتاج إلى تنمية مهنيّة وتدريب، وإلى إكساب المعلّمين والمعلّمات المهارات الضروريّة اللازمة للوصول إلى المخرجات المتوقّعة. بالإضافة إلى ذلك، يحتاج تحسين المنتج التعليميّ إلى الاشتراك في دورات تدريبيّة، قد تُعقَد بعد انتهاء الدوام المدرسيّ، أو تحتاج إلى تنفيذ أوراق عمل وأنشطة، والتحضير الجيّد الكافي، أو قد يحتاج المعلّم إلى قراءات محدّدة ليعرف الخطوات التي يجب عليه القيام بها.   

 

مجالات أخرى للرفاه  

رفاه المعلّم مرتبط بمجالات عديدة إلى جانب الأجر، حيث ارتبطت عمليّة التقييم، في الأذهان، بالقلق والتوتّر، بل قد ترتبط في بعض المجالات بالفصل من العمل. ولكن لا بدّ منها، وهي جزء رئيس من الفكرة الكبيرة التي تقول إنّه مقابل الحقوق توجد واجبات. لذلك، فالحرص على رفاه المعلّم وسعادته بالتزامن مع تنفيذ عمليّة تقييم الأداء الضروريّة والمطلوبة، يتطلّب إجراءها بطريقة يكون فيها التقييم أحد مداخل تحقيق الرفاه وتوفير السعادة.  

ستكون عمليّة تقييم أداء المعلّم:  

1. بعيدة عن المعايير السلوكيّة المحدَّدة مسبقًا. فالمعلّم الماهر يستطيع التعامل مع الموقف التعليميّ بأكثر من طريقة، وبأساليب قد لا نستطيع التنبّؤ بها، أو تفسيرها، بناءً على المعايير المحدَّدة مسبقًا. وفي هذه الحالة، تنسجم عمليّة التقييم مع ما قام به المعلّم وفق متطلّبات النظام التعليميّ: درّبنا المعلّم، وأكسبناه المهارات اللازمة للتغيير والتحسين وتجويد المخرج التعليميّ، ثمّ أتحنا له الفرصة لتطبيق ما اكتسبه داخل بيئته المدرسيّة، ثمّ قيّمنا أداءه استنادًا إلى ما تعلّمه، وليس وفق معايير محدَّدة مسبقًا. وباعتقادي، سيكون المعلّم في هذه الحالة مستعدًّا لقبول التحسين والتطوير والتعديل، وما يذكره أعضاء لجنة التقييم، أكثر ممّا لو وضعناه في قالب محدّد، وطلبنا إليه عدم كسره، وقيّدناه بمساحة ذلك القالب للتحرّك. إنّنا بالفعل نضيّق على المعلّم، ونقلّل رفاهه وسعادته، من حيث اعتقدنا بأنّ تقييمه سيطوّر أداءه ويحسّنه.  

2. معروفة الأهداف ومحدّدة الإجراءات. فالمعلّمون والمعلّمات على دراية كاملة بها، والمعلّم يعرف لماذا سنقيّم أداءه، وفي أيّ المجالات: في التدريس؟ أم في توظيف مصادر التعلّم وموارده؟ أم في الأنشطة خارج غرفة الصف؟ أم في الجوانب الشخصيّة والمظهر الخارجيّ؟ معرفة المعلّم ستكون سببًا في تعامله الجدّيّ مع هذه العمليّة، فلن يُصدَم، ولن يجد نفسه يبحث عن مبرِّرات ويختلق الأعذار ليفسِّر ما صدر منه. والمسؤول في عمليّة التقييم، كذلك، لن يجد نفسه مفتّشًا أو مُتصيّدًا عثرات المعلّم وزلّاته. هما يعرفان جيّدًا أنّ التقييم يحقّق مصلحة أطراف العمليّة التعليميّة كلّها، وأنّ النتيجة النهائيّة لها ستحقّق المصلحة للجميع.    

3.  موحَّدة الرؤية والهدف لدى المعلّم والمسؤول، فلا تدع مجالًا لفكر المقيِّم ومزاجه الخاص، ولا تؤثِّر الآراء الذاتيّة نحو القضايا التربويّة أو الاجتماعيّة أو السياسيّة في جودة عمليّة التقييم. فالإجراءات ستكون محدَّدة ومعروفة للأطراف كلّها، وسهلة للمعلّم والمسؤول، وخبرة المقيِّم فيها عميقة لا مجال للاجتهاد الفرديّ فيها، والحكم الذي يصدره موضوعيّ مرتبط بمجال التقييم. وحتّى لو وقع اختلاف واضطررنا إلى الاستعانة بطرف ثالث، فلن نجد أنفسنا أمام مزاج ثالث وفكر ثالث، بل سنجد الأدلّة والمؤشِّرات تفصل في الأمر، وتكون هي الفيصل. كما يمكن لهذه الفكرة أن تعيد التركيز من جديد على المعايير والأدلّة. وذلك يحقّق جانبًا مهمًّا من سعادة المعلّم عندما يرى ما يقوم به يُثبِت إسهامه في تجويد المنتج التعليميّ وفق المعايير المحدَّدة.  

4. مرتبطة بالمسؤوليّة، حيث المعلّم مسؤول ضمن معاييره، ومدير المدرسة مسؤول ضمن معاييره، والطالب مسؤول ضمن معاييره، فتحقيق الرفاه والسعادة في البيئة التعليميّة نابع من تحديد الأدوار والمسؤوليّات. لا يتحمّل المعلّم أو المعلّمة أخطاء الآخرين، ولا يتحمّل مدير المدرسة أخطاء المستهترين المتكاسلين، ولن يقوم معلّم بأضعاف ما يقوم به زميله. هذه المشكلات التي تعانيها البيئات المدرسيّة تسبِّب غياب السعادة والرفاه، وتدعو إلى مواجهتها بتحديد الأدوار والمسؤوليّات. واستنادًا إلى ذلك، يكون التعزيز والمساءلة أو المكافأة والمحاسبة.    

5. لها رؤية مستقبليّة، حيث ترصد الجوانب التي نحتاج فيها إلى المعالجة، لتوفَّر الشروط اللازمة للإبداع والإنجاز، والاستجابة للتطوّرات الحاصلة في الميدان التربويّ. وهذا الأمر ليس من باب الترف، أو الإجراءات الشكليّة، بل هو الاستجابة الطبيعيّة للإخفاقات والتطوّرات الحاصلة في مفاهيم الإدارة والقيادة؛ إذ تحرص المؤسّسات على توفير الإدارة القادرة على دعم أداء الموظّفين والعاملين وتحسينه، والتخلّص من اختلاف مستويات الأداء بين العاملين في المؤسّسة الواحدة، إذ بات من غير المنطقيّ وجود أشخاص في بيئة عمل واحدة تتباين مستوياتهم في الإنتاجيّة. ويوجد فرق كبير في إسهاماتهم في تحقيق رؤية المؤسّسة، ويكون الفرق في رضاهم عن العمل وبيئته كبيرًا (العيسى، 2020).   

 

الرضا الوظيفيّ 

جدير بنا أن نطرح السؤال الآتي بين مدّة وأخرى على المعلّمين والمعلّمات: هل يشعرون بالسعادة والدافعيّة العالية عندما يستيقظون صباحًا للذهاب إلى مدارسهم؟  

سيجد المسؤولون جوابًا في الدراسة التي أعدَّتها مؤسّسة الملكة رانيا سنة 2018، حيث جاءت الإجابات صادمة، والرغبة بالانخراط بالتدريس كانت الأدنى بين الإجابات التي قدّمها المستجيبون، مبرِّرين ذلك بانخفاض الأجور، وتدنّي النظرة المجتمعيّة إلى المعلّم.    

يمكن أن تكون تلك الدراسة نافعة باعتبارها نقطة انطلاق للنظم التعليميّة العربيّة في تحقيق رفاه المعلّمين ورضاهم، ولو قرَّر المسؤولون طرح السؤال بأنفسهم على العاملين في الميدان التربويّ، فسيحصلون على إجابات متنوّعة، وإذا لم توجد حوافز حقيقيّة تدفع بالمعلّمين والمعلّمات لتأدية مهمّات العمل بأعلى درجات الجودة، أو لم تكن إنتاجيّة المعلّمين والمعلّمات عالية، فعلى المسؤولين التفكير بتوفيرها، والحرص على شعور المعلّمين بالراحة والسعادة.   

 

جوانب أخرى تحقِّق سعادة المعلّمين ورفاههم 

تحقيق سعادة المعلّمين ليس مهمّة صعبة. ربّما تحتاج الأفكار التي طرحها المقال إلى وقت وجهد كبيرين، ولا بأس من التطرّق إلى إجراءات سريعة يكون لها أثر في إسعاد المعلّمين والمعلّمات. فسعادة المعلّمين لن تقتصر عليهم وحدهم في هذا المجال، بل ستشمل أطراف العمليّة التعليميّة كلّها.   

أوّلًا: تجنّب الطلبات السريعة، أو وضع أوقات غير كافية لإنجاز المهمّة على النحو المطلوب.   

ثانيًا: التركيز على الأعمال ذات الفائدة الكبيرة، فيشعر المعلّم أنّه يُفِيد ويستفيد في الوقت نفسه.   

ثالثًا: إتاحة الفرص الكافية للمعلّمين كي يُظهروا إبداعاتهم، وتقديرها تقديرًا مناسبًا.  

رابعًا: إضافة قيمة يؤمن بها المعلّمون على أعمالهم، وأنّهم يسهمون في إبراز القيم المجتمعيّة، مثل القيادة والإبداع.   

خامسًا: توفير الاحتياجات المادّيّة من وسائل وأدوات، وتلبية الحاجات الفعليّة في التدريب والتطوير المهنيّ، وعدم إضاعة وقت المعلّمين بالدورات المكرَّرة وذات المضمون النظريّ الجاف.  

سادسًا: العدالة في تحديد الأجور المناسبة، ونظم المكافآت المنطقيّة المرتبطة بالإنجازات، ودقّة إنجاز المهمّات.   

 سابعًا: غرس شعور حقيقيّ في نفس المعلّم، بأنّ جهوده هي المحرّك الأوّل لتنفيذ المهمّات وتحقيق الإنجازات، وأنّ دوره محوريّ في تحقيق رؤية النظام التربويّ ورسالته.   

 

* * * 

أيّ نظام تعليميّ من المفترض أن يسعى للتحسين والتطوير، بناءً على المخرَجات التي يريد تحقيقها، وحرصًا على التزام أعلى درجات الجودة، ومواكبة المستجدَّات الحاصلة في الميدان التربويّ. ولتحقيق ذلك، يجب توفير الأجور للعاملين فيه، والوسائل والأدوات والتشريعات التي تضمن تحقيق النتائج المتوخّاة. وفي المقابل، يضع القائمون على النظام مقياسًا للتأكّد من سير العمل بالطريقة المحدّدة ووفق الخطّة الموضوعة، وأنّ ما يقوم به المعلّمون سيحقِّق المخرجات التي يريدها النظام التعليميّ، وربط ذلك كلّه بأهمّيّة العمل في حياة العاملين الشخصيّة كي يكون للمدرسة التأثير المتوقَّع في حياة طلبتها. 

 

المرجع 

- العيسى، إيناس. (2020). إدارة الإدارة: إدارة التغيير وإدارة الجودة الشاملة والإدارة الإلكترونيّة. دار الشروق.