"تكتب عائشة بوضعيّة غير مألوفة لي، تقف في مقعدها، تضع رجلًا على الأرض والثانية مكان جلوسها، ثمّ تضع دفترها على ركبتها، وتبدأ الكتابة دون أن تغيّر هذه الوضعيّة أثناء الكتابة، حتى إذا انتهت عادت لتجلس بالطريقة الاعتياديّة المألوفة مثل بقيّة الطلبة".
هذا وصف المعلّمة خلود حالة الطالبة عائشة في حصص اللغة العربيّة، وهذه الملاحظة لن توردها خلود فقط، بل ظهرت عند المعلّمات اللواتي يدرّسن عائشة كافّة، ما دفع مديرة المدرسة إلى تفهّم حالة عائشة، فأصدرت تعميمًا داخليًّا للمعلّمات اللواتي يدرّسنها طلبت فيه منهنّ التكيّف مع رغبتها بالجلوس كما تشاء، والسماح لها بالكتابة بهذه الوضعيّة.
لقد كانت مديرة المدرسة محقّة في إصدار هذا التعميم الداخليّ.
سنتحدّث في هذا المقال عن مثال من البيئات المدرسيّة يُبيّن أهمّيّة دور المدرسة في التكيّف مع حاجات طلبتها في ما يتعلّق بطريقة الجلوس أثناء الحصص، وأهمّية مراعاة المعلّمين لوضعيّات جلوس الطلبة، وعدم اشتراط وضعيّة واحدة، وألّا تكون جِلسة الطالب التي لا يرغب فيها المعلّم عائقًا في طريق تعلّمه، ذلك أنّ للطّلبة نمطًا من الجلوس يكونون فيه بأقصى درجات العطاء، مع التأكيد على ألّا تتعارض جِلسة الطالب مع نموّه الصحّيّ السليم، وألّا تشكّل خطرًا على زملائه، أو انعكاسًا لسلوك سيّئ يعتزم القيام به أو إظهاره. فماذا تقول لنا البحوث العلميّة عن هذا الموضوع؟
نظريّة التعلّم القائم على الدماغ
تؤكّد هذه النظريّة أنّ التعلّم يحدث عندما يكون الذهن متيقّظًا وحاضرًا ونشطًا. وللوصول بالطالب إلى هذا المستوى من النشاط، فإنّ التعلّم يجب أن يتمّ في بيئة يستثار فيها الدماغ بأنشطة واقعيّة مرحة لا يشعر فيها الطالب بالتهديد أو كثرة المثيرات، أو استثارة الحواسّ بطريقة عشوائيّة غير منظّمة، أو أيّ إجراءات من شأنها تشتيت التركيز الدماغيّ للطالب (السلطي، 2004). وحسب المرجع ذاته، تؤكّد البحوث المستندة إلى تجارب في كيفيّة تعلّم الدماغ، أنّ ثمّة نقطة يمكن عندها أن يكون الدماغ في أعلى درجات الجهوز لاكتساب التعلّم، ونقطة يكون فيها الدماغ غير مستعدّ لاستقبال التعلّم مهما كان بسيطًا، ووجود النقطة من عدمه مرتبط بالبيئة التي يتعلّم فيها الطالب. ولأنّ كلّ النظم التعليميّة يفترض أنّها تسعى إلى هذه النقطة، وإلى تحقيق أهداف التعلّم، فإنّه لا بدّ لها من أن توفّر البيئة التعليميّة المتميّزة، وأحد شروط تحقّق هذه البيئة هو الجلوس بطريقة لا تؤثّر في تعلّم الطالب.
نظريّات داعمة
إنّ التأمّل في الأدب التربويّ الذي قدّمته نظريّات التعلّم المختلفة نجده يؤيّد تعميم مديرة مدرسة عائشة، فالنظريّة السلوكيّة تؤكّد العلاقة بين تجارب المتعلّم وتغيّر استجاباته، وأنّ تحقّق نتائج التعلّم مرتبط بالتعزيز، فإذا تعرّض الطالب لتوبيخ أو اعتراض أو رفض لطريقة جلوسه، فإنّ ذلك سيؤثّر في تعلّمه، وسيشكّل عائقًا أمام تحقّق الأهداف المحدَّدة للتعلّم، علاوة على تفهّم المعلّم لطريقة جلوس الطالب المختلفة ستقترن بدافع إيجابيّ يخلّف في نفس الطالب سلوكًا منتجًا أيًّا تكن طريقة جلوسه، خاصّة أنّ النظريّة السلوكيّة تؤكّد أنّ التعليم المقترن بالعقاب هو تعلّم سلبيّ.
تتّفق النظريّة البنائيّة في هذا الجانب مع النظريّة السلوكيّة، إذ تبيّن أهمّيّة النموّ في حدوث التعلّم، وأنّ التعلّم مرتبط بالتطوّر النمائيّ للمتعلّم، وهذا التطوّر يتمّ عادة في هيئات تلائم المتعلّم بالدرجة الأولى، إذ يمكن أحيانًا ملاحظة أنّ بعض الطلبة لا تجذبهم الحصّة خارج الغرفة الصفّيّة، بينما يبدع بعضهم إذا كانت الحصّة في المكتبة أو المختبر أو حتّى في حديقة المدرسة، بالتالي لن ينجح تحقيق أهداف التعلّم وإكساب المتعلّم المهارات التي تناسب مرحلته العمريّة، إلا إذا حدث في وضعيّة تناسب المتعلّم، وتتّفق مع دماغه.
مواءمة وضعيّة جلوس الطلبة مع تحقّق أهداف التعلّم
يؤكّد مؤيّد (أستاذ) أنّ نسبة مرتفعة من أولياء أمور الطلبة الذين لديهم طريقة مختلفة في الجلوس يراجعون المدرسة لوضع هذه الملاحظة بين يديّ إدارتها، فبعض أولياء الأمور يلفت نظر المعلّم إلى طريقة جلوس ابنه المختلفة، وبعضهم يريد مساعدة المدرسة في تغيير طريقة جلوس ابنه لأنّها تسبّب إحراجًا لهم خارج البيت، وفي العلاقات الاجتماعيّة، بينما بعضهم يخشى تعرّض ابنه للتنمّر ويؤثّر ذلك سلبًا في تحصيله وأدائه العلميّ.
يسعى المعلّمون لتحقيق أهداف التعلّم بأبسط الطرق وأسهلها، ومن دون أن يدخلوا في مشادّات مع الطلبة أو أيّ نوع من أنواع الارتباك الصفّيّ، أو أيّ أمر يعيق التعلّم مهما كان بسيطًا. وأحد مسبّبات الإرباك هو الطلب من الطلبة الجلوس باعتدال، وفي نظر المعلّمين وفهمهم فالجلوس باعتدال هو جلوس الطالب بظهر مستقيم وجسم مشدود، دون أيّ ميلان، أو غرق في المقعد يجعل الطالب يبدو وكأنّه جالس على ظهره. والأولويّة من وجهة نظر المعلّمين هي للناحية الصحّيّة، فيطلبون الجلوس باعتدال كي لا تتأثّر صحّة الطلبة أو يتأثّر نموّهم. وعلى الرغم من صحّة ما قيل وأهمّيّته، غير أنّ للعلوم التربويّة وجهة نظر تضاف إلى وجهة نظر المعلّمين، وهي أنّ لوضعيّة جلوس الطلبة دورًا أساسيًّا في فهمهم وتركيزهم، وأنّ الجلسة المعتدلة ليست بالضرورة مشدودة أو كما هي في أذهان المعلّمين (ناصف، 2004).
على المعلّم أن يضع في حسبانه أنّ الجلوس مدّة طويلة بوضعيّة واحدة وثابتة أمر يؤثّر في الصحّة والبنية الجسميّة، علاوة على أنّ طبيعة الأنشطة التعليميّة في الغرفة تتطلّب وضعيّة جلوس ملائمة لآليّة تطبيق النشاط. فعندما يطبّق المعلّمون نشاطًا جماعيًّا، فإنّه من الضروريّ أن تتغيّر طريقة جلوس الطلبة، وعندما يطلبون إلى الطلبة عقد حوارات ثنائيّة، فإنّ الجلسة تتغيّر لضمان التفات الطالب إلى زميله والتحاور معه، وعندما يقف الطالب متحدّثًا أمام بقيّة الصفّ ومتجوّلًا أمامهم، أو يحلّ مسألة على اللوح، فإنّ عيون الطلبة تتابعه وتنظر إليه، وكي يراه الجالسون في المقاعد الخلفيّة من الغرفة الصفّيّة، فإنّ وضعيّة جلوسهم سوف تتغيّر، فضلًا عن أن بعض الطلبة يرغبون في تدوين بعض الملاحظات أثناء الاستماع للمعلّم أو لزملائهم فيصبح من غير المنطقي إيقاف الدرس لمجرّد تنبيه الطالب لمخالفته وضعيّة الجلوس التي يريدها المعلّم.
يكتب معلّم الرياضيّات مسألة على اللوح ويطلب إلى الطلبة حلّها في دفاترهم، ويقرأ معلّم اللغة العربيّة أو الاجتماعيّات لطلبته قصّة أو موقفًا تاريخيًّا قبل بدء الدرس، مثل هذه الأنشطة سيكون الطالب سعيدًا أكثر وهو ينفّذها بوضعيّة جلوس تلائمه وتناسبه ولا تكون مفروضة عليه، فالحريّة التي تمنح للطلبة تجذبهم لتنفيذ المهمّة بأعلى مستويات الجودة. فعلى سبيل المثال، يؤكّد مهنّد الذي يعمل في مدرسة في منطقة شعبيّة في عمّان يتجاوز عدد طلبتها الألف طالب، وفي غرفته الصفّيّة 52 طالبًا أنّ هذا الأمر صحيح، إذ بيّن أنّ في صفّه طالبًا قصير القامة، متميّزًا، ويبذل جهدًا لافتًا في الغرفة الصفّيّة، ولتجنّب الإحراج وعدم رؤية المعلّمين له والابتعاد عن الوقوف كي يكون مرئيًّا للمعلّم في الصفّ، فإنّه يثني رجله ويجلس عليها كي يبدو للناظر بالطول الطبيعيّ لأبناء صفّه. هذه الطريقة في جلوس الطالب لم تثر المعلّمين كما يقول مهنّد بل لاقت تفهّمًا، أفسّره بأنّ تفوّق الطالب وتميّزه ربّما جعلا المعلّمين يتساهلون معه، الأمر الذي دفعني للطلب منهم بتفهّم مثل هذه الحالات بخاصّة أنّها لا تعيق التعلّم ولا تؤثّر في سير الحصّة الصفّيّة بصورتها الاعتياديّة.
سيكون الطلّاب أكثر سعادة عندما يُسمح لهم بالمشي في الحديقة واكتشاف الأزهار وحدهم، وإذا وُضعوا في حيّز محدود، فإنّ صوت صراخهم وإزعاجهم سيعلو ويرتفع كلما امتدّت الفترة الزمنيّة التي يمضونها في هذا الحيّز.
حلول أكثر نجاعة
يحتاج الطلبة في العصر الحديث إلى طرق تدريس مختلفة، تتّسق مع التطوّرات الهائلة في محيطهم الاجتماعيّ والتعليميّ بخاصّة بعد الجائحة. والحديث عن فاقد تعليميّ نتج من البقاء مدّة طويلة في المنازل وينبغي تعويضه، وما رافق ذلك من جلوس الطلبة يستمعون للدروس عن بعد بوضعيّات بعيدة جدًّا عن وضعيّات الجلوس في المدرسة، لا يبدو أمرًا سهل المنال بل إنّ العودة إلى الوضع الطبيعيّ لما قبل الجائحة سيتطلّب وقتًا، وهذا يفرض على المعلّمين تحدّيات في تفهّم هذا الأمر، ومنحه الوقت الكافي لالتزام الطلبة به خصوصًا أنّ بعض المعلّمين يؤمنون بأنّ وضعيّة الجلوس في مقعد الدرس لها خصوصيّة كبيرة لا ينبغي التهاون بشأنها.
المعلّم الماهر لا يشترط جلسة بعينها، أو وضعيّة محدّدة يلزم بها الصفّ كلّه، بل يضع معايير يجب أن يراعيها الطلبة في الجلسة مهما كان نوع النشاط الذي ينفّذونه، لذلك اتّفق مع طلبتك على سلوكات حركيّة محدّدة ترافق كلّ نشاط أو مهمّة تعليميّة، وحدّد لهم ما تتوقّعه منهم كالتالي:
- - صِف للطلبة مواصفات وضعيّة الجلوس الصحّيّة الإيجابيّة بكلمات واضحة ومختصرة.
- - ذكّر طلبتك في كلّ مرّة بهذه المواصفات تذكيرًا سريعًا، ولا تكرّرها باستفاضة على مسامعهم كأنّك تقولها للمرّة الأولى.
- - إذا وصلت لمرحلة متقدّمة من انضباط الطلبة، فإنّ هذه الكلمات المختصرة والسريعة قد تصبح إشارات مرئيّة أو مسموعة تعبّر كلّ واحدة منها عن سلوك على الطلبة أن يقوموا.
إنّ تدريب الطلبة العميق والكافي على هذه الإشارات يضمن أن تصبح روتينًا ثابتًا في ممارساتهم اليوميّة.
خلاصة
المعلّم الماهر هو الذي يكيّف وضعيّة جلوس الطالب مهما بدت مختلفة عن تصوّراته المسبقة في تحقيق أهداف التعلّم، فتراه يحدّد معايير ومواصفات لهذه الوضعيّة تجعل الطلبة يشعرون بأنّهم أحرار في طريقة جلوسهم، وفي الوقت نفسه، فإنّ حرّيّتهم محدّدة بمواصفات المعلّم ومعاييره، لا أن يكون تركيز المعلّم بالدرجة الأولى على إجلاس الطلبة كما يرغب، الأمر الذي يعيق تحقيق أهداف التعلّم.
المراجع:
السلطيّ، ناديا سميح. (2004). التعلّم المستند إلى الدماغ. دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة.
ناصف، مصطفى. (1983) نظريّات التعلّم. سلسلة عالم المعرفة.