غزّة تحترق في بؤرة الثقب الأسود
هل يمتلك هؤلاء الأطفال الصغار الذين هم بعمر أطفالهم، هذه القدرة الهائلة على التحمّل؟  وهل لهؤلاء الطلّاب الذين انقطعوا سنة كاملة عن الدراسة إنجازات علميّة يسجّلها التاريخ في غياب المعلّم والكتاب والمدرسة؟
غزّة تحترق في بؤرة الثقب الأسود
هل يمتلك هؤلاء الأطفال الصغار الذين هم بعمر أطفالهم، هذه القدرة الهائلة على التحمّل؟  وهل لهؤلاء الطلّاب الذين انقطعوا سنة كاملة عن الدراسة إنجازات علميّة يسجّلها التاريخ في غياب المعلّم والكتاب والمدرسة؟
ميسون أبو موسى | معلّمة علوم حياتيّة وعلوم عامّة- فلسطين

عندما كنت صغيرة، في المرحلة الإعداديّة، كنتُ أجد راحة نفسي عندما أقرأ قصص الخيال العلميّ للدكتور نبيل فاروق، رحمه الله. وكنت أستمتع بالقراءة إلى الحدّ الذي أجدني أبحر معه بين شوارع المدن التي يسافر إليها بطل القصّة، وأتمشّى معه بين أروقة الحارات، وأتجوّل بين الأبنية؛ أعيش البدايات وأذرف الدموع في النهايات. كانت الفكرة التي سيطرت على تفكيري، أثناء قراءتي القصّة، حتّى هذا اليوم، هي فكرة "السفر عبر الزمن". كيف يتسنّى للشخص أن يسافر عبر الزمن، فيختار حقبة زمنيّة ويرحل إليها؟ وما وسيلة السفر إذاً؟ هل هي مصباح علاء الدين مثلاً؟ أم صعود على المكنسة الطائرة للساحرة الشريرة؟!  

 

بين الخيال العلميّ والواقع 

ما زالت تلك الأسئلة الغريبة تتردّد في ذهني فترة طويلة، والشغف والحماس يراوداني لمعرفة مدى إمكانيّة تحقّق السفر عبر الزمن، على رغم إيماني المطلق باستحالته. لكنّه الخيال العلميّ الذي يفعل هذا بمحبّيه. تطرّقت كثيرًا إلى رحلة الإسراء والمعراج التي حصلت مع النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم، من مكّة إلى القدس، صعودًا إلى السماء، وتساءلت إن كانت سفرًا عبر الزمن؛ فالمكان متغيّر هنا كما الزمان. وكوني معلّمة علوم لفت انتباهي الثقب الأسود الذي يعدّ منطقة في الفضاء فيها جاذبيّة قويّة جدًّا، حيث لا يمكن للضوء الإفلات منها، وفق ما تصرّح بذلك وكالة الفضاء الأميركيّة "ناسا" التي وضّحت الأمر: "تحدث الجاذبيّة القويّة بسبب الضغط الحاصل في مساحة صغيرة. ويمكن أن يحدث هذا الضغط في نهاية حياة نجم ما. بينما تظهر بعض الثقوب السوداء نتيجة موت أحد النجوم". 

 

ولم يلبث آينشتاين أن تسلّل إليّ بنظريّة النسبيّة التي أشار فيها إلى أنّ التنقّل عبر الزمن يحدث بثقوب سوداء، تكون جاذبيّتها عالية جدًّا، حيث الأجسام التي تتحرّك بسرعة الضوء قد تعبر الثقوب، فيظهر الجسم المُبتَلع للناظر إليه، وكأنّه متجمّد في مكانه. أمّا الأجسام من حوله فتمرّ كالبرق (Badran, 2022). لكن، جذبتني أيضًا أبحاث العالم الفيزيائيّ ستيفن هوكينغ حول الموضوع ذاته، إذ لم يكن مقتنعًا بفرضيّة كوننا قادرين في المستقبل على استخدام الثقوب السوداء في الفضاء، للسفر إلى الماضي. فيقول: "ستكون نهايتك أليمة إذا ألقيت بنفسك في ثقب أسود".   

حسناً... ما الذي أتى بي إلى حقائق هوكينغ وثقوبه السوداء؟ 

أوّلًا: السعي إلى فهم حقائق الكون والوجود من باب العلم المثبت بالبرهان. 

ثانيًا: قرأت لهذا العالم الكبير شرحًا عن الثقوب السوداء وجاذبيّتها الهائلة وقدرتها على ابتلاع الأجسام السريعة، فقفزت إلى ذهني فكرة الثقب الصهيونيّ الظالم الذي ابتلع غزّة وأخفاها عن العالم: بقطع الاتّصال، وقطع الطرق، وإغلاق المعابر، وتدميرها تدميرًا وحشيًّا.  فغدت غزّة وكأنّها تسير ببطء شديد حِيال التقدّم الكبير في عصر التكنولوجيا والإلكترونيّات. 

 

اخترقت غزّة الزمان وسافرت عبر آلة الزمن الصهيونيّة إلى الماضي البعيد، وإلى الحياة البدائيّة. ورحلت بعيدًا إلى حياة المعارك والحروب والدمار الشامل، ووصلت إلى مرحلة الصفر وانعدام الإمكانات. عاش أهلها في الخيام وجمعوا الحطب لطهو الطعام، وها هم يقطعون المسافات البعيدة للبحث عن المياه، وبالكاد يحصلون على ماء الشرب وفُتات الطعام، حيث أصبحت المجاعة عدوّهم الثاني.  

 

استطاع الإنسان القديم التحايل على الطبيعة، وفهم مكنونها. وذلك ما حصل مع أهل غزّة وأطفالها وطلّاب المدارس فيها، حيث أيقظ كلٌ منهم حدسه لرؤية الأشياء بطريقة مغايرة، وتقديم الاختراعات محاولةً للعيش، ووسيلة تشبّث بثوب الحياة قبل المغادرة.    

                                              

متعلّمو غزّة يخترقون الثقب الأسود  

هنا، من غزّة بالذات، ظهر الطلّاب والأطفال ظهورًا يربك العالم، جعل الجميع يراجع حساباته مع نفسه ودينه ومعتقداته. هل يمتلك هؤلاء الأطفال الصغار الذين هم بعمر أطفالهم، هذه القدرة الهائلة على التحمّل؟  وهل لهؤلاء الطلّاب الذين انقطعوا سنة كاملة عن الدراسة إنجازات علميّة يسجّلها التاريخ في غياب المعلّم والكتاب والمدرسة؟ والإجابة نعم؛ كان لهؤلاء الطلّاب العديد من الاختراعات. دعونا نقف عند بعضها:  

أوّلًا: وظّف طفلٌ الرياحَ لإنتاج الطاقة الكهربائيّة للمخيّم الذي يعيش فيه، وسُمّي نيوتن غزّة. 

ثانيًا: اخترع أحدهم إبرة لخياطة الملابس، باستغلال مفتاح علب اللحوم، حيث استخدم بعض الأدوات المساعدة، كالكمّاشة والمطرقة والمبرد لإخراجها كالإبرة، واستخدامها في خياطة قماش خيمة النزوح.  

ثالثًا: قطعت إحدى الفتيات خرطوم المياه إلى قطع صغيرة، تتجاوز القطعة عقلة الإصبع، ثمّ قطعتها من طرفها باستخدام مشرط لتصبح ملقطًا للغسيل.  

رابعًا: استخدام خلايا السليكون الكهروضوئيّة، واستخدامها لتوليد الطاقة الكهربائيّة، وإيجاد البديل لشحن البطّاريّات والجوّالات.    

خامسًا: انعدام الوقود لم يقف حاجزًا ضد تنقّل السيّارات، حيث استبدل السائقون السولار والبنزين بزيت القلي الممزوج بالقليل من البنزين وقودًا يساعد المركبات على التنقّل عبر المدن والشوارع المدمّرة.  

سادسًا: استخدم أحد الطلّاب عبوّة الدهان المضغوط الذي يستخدم للطلاء، جرسًا لخيمته. 

سابعًا: تحضير الخبز باستبدال الخبّازة  الكهربائيّة، بأداة أخرى ذات فتحة علويّة وشبكة يوضع أعلاها الفحم المشتعل.  

ثامنًا: استخدام النار الباردة المتولّدة عن اشتعال الكحول في الطهو، والإفادة من صفائح الزيت في إنشاء أفران صغيرة للمنازل الضيّقة.  

تاسعًا: الإفادة من العلب الفارغة من المعلّبات في بناء الخيم وأماكن الإقامة، وفي صنع الدمى المتحرّكة بالخيوط أيضًا، وذلك من باب الترفيه عن الأطفال.  

عاشرًا: الإفادة من طعام المعلّبات غير القابل للأكل، ومحاولة تغيير استخدامه بإضافة بعض النكهات والتغييرات ليحاكي أكلات فُقدت من بداية الحرب، مثل الاستعاضة عن البيض الضروريّ في صنع الكيك واستبداله بالخلّ والبيكنغ صودا. 

أخيرًا: إدخال بدّالة الدراجة الهوائيّة في حوض ماء وملابس، ثمّ تحريكها لتحاكي الغسّالة الكهربائيّة في دورانها.  

 

هل تتّبع هذه الاختراعات مبدأً علميًّا معيّنًا، أم هي مَحض صدفة؟   

بالطبع، هذه الاختراعات لها مبادئ علميّة، فطاقة الرياح وطاقة الشمس من الطاقات المتجدّدة التي تستخدم خلايا السليكون أو طواحين الهواء، وتولِّد مجالًا كهربائيًّا يُشغِّل الأجهزة المختلفة بطاقةٍ وتردِّد معيّنين. 

أمّا صنع الإبرة فيعتمد على أنّ بعض العناصر الفلزيّة قابلة للطرق والسحب، والمعلّبات هي في الأصل معادن، فبطرقها وسحبها يتغيّر شكلها وتستخدَم بطريقة مفيدة مغايرة لما كانت عليه.  

أمّا تحريك عجلات الدرّاجة الهوائيّة واستخدامها في الغسيل، فيعتمد على مبدأ التروس الأماميّة والتروس الخلفيّة والسلسة التي تنقل الحركة في الدرّاجة. وبالتالي، تتحرّك الملابس تحرّكًا مُشابهًا لحركة الغسّالة الكهربائيّة.  

وبالنسبة إلى البيض الذي فُقد منذ فترة طويلة، فثمّة تفاعل كيميائيّ يحدث عند مزج البيكنغ صودا مع الخلّ، فينتج عنه الماء وثاني أكسيد الكربون. وهذا بدوره يعطي المخبوزات خفّة وطراوة تَحلّ مكان البيض الذي لم يتناوله الطلبة أكثر من تسعة أشهر بسبب إغلاق المعابر.  

بينما رأى آخرون أنّ استخدام زيت الطهو الأرخص سعرًا مناسب لتوليد حرارة كافية عند احتراقه؛ ممّا يكفي لإشعال محرّك السيّارة، بدلًا من الوقود الذي حُرم القطاع منه لفترات طويلة.   

أمّا النار الباردة التي تنتج عن خلط الكحول الإيثيليّ بالقطن أو الصوف، فكفيلة بإنتاج النار الزرقاء التي لا ينتج عنها أكاسيد ضارّة بالإنسان، وتستخدم للطهو السريع.   

 

هل هذه الاختراعات صديقة للبيئة أم ضارّة بها؟  

دُمّرَت البيئة الفلسطينيّة بالكامل، فلا تكاد تخرج متجوّلاً في شوارع المدينة حتّى ترى الكثير من المنازل التي دُمّرت، وكذا المدارس والمحلّات التجاريّة وأرصفة الشوارع وأعمدة الإنارة وأسلاك الكهرباء. الأمر أشبه بزلزال أو فوّهة بركان نَشُطت وألقت حِممًا بركانيّة أحرقت البُنى التحتيّة والفوقيّة معًا. لكنّ الأجمل من ذلك أنّه، وعلى رغم ذلك كلّه، فأصدقاء البيئة صامدون يجمعون المواد البلاستيكيّة والعلب المعدنيّة ويعملون على إعادة تدويرها وإخراجها بشكل أجمل وأفيد من ذي قبل. حتّى بقايا الركام، من أحجار وحصى، يجمعها الأطفال ويفتّتونها لإعادة استخدامها مرّة أخرى في البناء. البيئة الفلسطينيّة قابعة في القلب، يُربّت الجميع على كتفها بحنوٍّ بالغ، ويمسحون عبراتها ودم الكفّ نازف. فذاك الثرى ضمّ في جوفه الشهيد وقدمَ المُصاب المبتورة وعظامَ جثثٍ تحلّلت، ولم يُعرَف أصحابها، فاستشهدوا والغموض يكتنفهم حيث كُتب على جثثهم عبارة "الشهيد مجهول الهويّة". 

* * * 

تُرى، مَن ستبتلع ثقوب هوكينغ السوداء بعد غزّة في المرّة القادمة؟ وهل سيلفظ الحوت غزّة بعد أن غشيها الظلام في بطنه؟! وهل سَيَمُرّ على غزّة بِضع من السَيّارة (المسافرين) لينقذوها بعدما ألقاها إخوتها في غيابة الجبّ؟! لا أقول إلّا ما قاله سيّدنا يعقوب عندما جاءه أبناؤه يبكون كذبًا على سيّدنا يوسف: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} (يوسف، 18). 

 

المراجع   

- Al Gharbi, Little Muhammad. (2019). Travel through wormholes is possible, but slow. Al Jazeera.  

Al-Jazeera.ney https://aja.me/jkgnbz   

- Badran, Walid. (2022, January 10). Stephen Hawking: The story of Newton's heir who developed a "theory of everything" to explain the universe. BBC

https://www.bbc.com/arabic/science-and-tech-59927857.amp