عندما تصنع الإدارة الفرق: دور السياسات المدرسيّة في تكامل العمليّة التعليميّة
عندما تصنع الإدارة الفرق: دور السياسات المدرسيّة في تكامل العمليّة التعليميّة

أصداء الدردشة قراءات في سؤال من أسئلة قسم الدردشة في منهجيّات، تختار فيها هيئة التحرير سؤالًا من نسخة من نسخ الدردشة في المجلّة، بناءً على ارتباط السؤال بملفّ العدد، أو بأهمّيّة الموضوع أو راهنيّته المستجدّة، حيث تُدرَس إجابات مجموعة من المعلّمين، ويُجمع بينها باستنتاجات أو خلاصات منها. في كلّ عدد من منهجيّات صدى جديد من أصوات معلّمينا ومعلّماتنا. 

في عالم التعليم، لا يمكن فصل جودة العمليّة التعليميّة عن السياسات التي تتبنّاها المدرسة وإدارتها. فالمدرسة ليست مجرّد مساحة يجتمع فيها الطلّاب والمعلّمون؛ بل هي بيئة متكاملة تحكمها قواعد تنظيميّة، ورؤية تربويّة، وهيكل إداريّ يسهم في تحديد ملامح التجربة التعليميّة للطلبة والمعلّمين على حدّ سواء. ومع ازدياد التحدّيات التي تواجه الأنظمة التعليميّة، بدءًا من تنوّع احتياجات الطلّاب، ومرورًا بتطوّر أساليب التدريس، ووصولًا إلى الضغوط المجتمعيّة والاقتصاديّة، يصبح من الضروريّ التساؤل: هل تستطيع سياسات الإدارة المدرسيّة أن تقدّم بيئة مرنة، ومحفّزة، ومتوازنة، تعزّز من تكامل العمليّة التعليميّة، أم أنّ بعض هذه السياسات قد يشكّل عائقًا أمام تحقيق الأهداف التربويّة المنشودة؟ 

إنّ تكامل العمليّة التعليميّة لا يعني مجرّد إيصال المحتوى الأكاديميّ إلى الطلّاب، بل يشمل العديد من العوامل الأخرى. فإدارة المدرسة القادرة على التكيّف مع المتغيّرات وإيجاد حلول مبتكرة للمشكلات، تؤدّي دورًا محوريًّا في تعزيز اندماج جميع العناصر التعليميّة في منظومة واحدة، تعمل بتناغم لتحقيق أفضل النتائج. لكن في المقابل، قد تكون هناك سياسات تقليديّة أو غير مرنة، تؤثّر سلبًا في المناخ التعليميّ؛ ما يخلق فجوة بين ما يُراد تحقيقه نظريًّا، وما يحدث فعليًّا داخل المدارس.  

في هذا المقال، نحاول الإجابة عن السؤال الهامّ: "ما دور سياسات المدرسة وإدارتها في خلق الجوّ الملائم لتكامل العمليّة التعليميّة؟" بتحليل إجابات مجموعة من المعلّمين وخبراء التعليم الذين طُرح عليهم هذا السؤال في إحدى نسخ الدردشة لعام 2023. بناءً على آرائهم وتجاربهم العمليّة، يتناول المقال تأثير الإدارة المدرسيّة في تحقيق التكامل التعليميّ، والعوامل التي تعزّز هذه العمليّة. 

 

التخطيط والتنظيم التعليميّان 

تقوم السياسات المدرسيّة والإدارة بتهيئة البيئة المناسبة لتكامل العمليّة التعليميّة؛ فتضع الأطر التنظيميّة التي تضمن الالتزام برؤية واضحة وأهداف تربويّة محدّدة، واعتماد سياسات تحفيزيّة، وهو رأي تتبنّاه تمارا حدّاد. بينما تشير مرسال حطيط إلى دور الإدارة في توفير بيئة داعمة للمعلّمين، بإتاحة فرص التطوير المهنيّ، وضمان بيئة تعليميّة مرنة تواكب المستجدّات التربويّة. وتؤكّد رويدا فوّاز على الأثر الإيجابيّ لتحفيز المعلّمين، فتقول: "يؤثّر التحفيز في دافعيّة المعلّمين، وزيادة إنتاجيّتهم وإبداعهم. وعلى الإدارة العمل على توفير الدعم المادّيّ بكلّ السبل المتوفّرة، وتضمين سياساتها خططًا ومنهجيّات واضحة وفعّالة تكمّل دور المعلّمين، وتبلور رؤيتهم التعليميّة". 

وتقول رينيه مزاهرة: "يجب أن تعمل إدارة المدرسة على إرساء العلاقات بين أعضاء التنظيم وتنظيمها، ولا ننسى أهمّيّة وجود نظام جيّد للاتّصال، سواء كان هذا الاتّصال خاصًّا بالعلاقات الداخليّة للمدرسة، أو بينها وبين المجتمع المحلّيّ، وبينها وبين المؤسّسات التعليميّة الأخرى العامّة والخاصّة". وتتّفق معها روزان علو، وشريهان بكرون ودليلة بونحوش في هذا الرأي؛ إذ تقول بونحوش: " الإدارة التي تتعامل مع الطاقم التعليميّ التربويّ بقدر من الليونة والتفهّم، وتُشعر المعلّم أنّ دوره محوريّ، فتشجّعه، وتدفعه إلى الإبداع، وتثمّن مجهوداته، كما تلفت انتباهه عند التقصير، هي إدارة يمكنها أن تقود مدرسة ناجحة". 

 

توفير البيئة الفيزيقيّة والنفسيّة للطلّاب 

تخلق سياسات المدرسة وإدارتها المناخ الملائم لتكامل العمليّة التعليميّة، وذلك بتوفير بيئة فيزيقيّة ونفسيّة مناسبة للطلّاب. فالمدرسة التي تهتمّ بتجهيز الفصول الدراسيّة بالإضاءة والتهوية الجيّدة، وتوفير مرافق تعليميّة متكاملة، مثل المكتبات والمختبرات والملاعب، تسهم في تعزيز التفكير الإبداعيّ للطلّاب، وتشجيعهم على الاستكشاف والابتكار. 

تقول ياسمين العويسي عن أثر البيئة التعليميّة المناسبة: "يظهر جليًّا على تقدّم أداء الطلبة، ورفع تحصيلهم الأكاديميّ، وزيادة نشاطاتهم وإبداعاتهم الفكريّة في مجالات مختلفة؛ فبيئة الطالب الفيزيقيّة داخل المدرسة تحفّز الطالب على التفكّر، وتشجّعه على عالم أخضر نظيف". إلى جانب ذلك، تؤثّر البيئة النفسيّة المريحة بشكل مباشر في تحصيلهم الأكاديمي،ّ وزيادة دافعيّتهم إلى التعلّم. وتشير باسمة عبد الصمد إلى تأثير شعور الطالب بالأمان والراحة في بيئته المدرسيّة، في جعله أكثر استعدادًا للمشاركة الفعّالة في الأنشطة التعليميّة. 

كما لا بدّ للإدارة من فهم الخلفيّات الثقافيّة للطلّاب، واحتضان التنوّع داخل المدرسة، فتقول سوسن الخوري: "من الضروريّ أن تكون الإدارة ملمّة بالبيئة التي يأتي منها الطالب، ففي المدارس الدوليّة تتعدّد الثقافات". تسهم الإدارة الواعية لهذا التنوّع في تعزيز شعور الطلّاب بالانتماء؛ ما ينعكس إيجابًا على تحصيلهم الأكاديميّ، وتفاعلهم داخل المجتمع المدرسيّ. 

 

التشاركيّة في صنع القرارات 

لا بدّ أن تعتمد سياسات المدرسة وإدارتها نهجًا تشاركيًّا يشمل جميع أفراد المجتمع المدرسيّ. تؤكّد روزين رزق على ضرورة إشراك المعلّمين، والأهل، والطلّاب في صياغة السياسات وتحديثها؛ الأمر الذي يعزّز الشعور بالانتماء والمسؤوليّة المشتركة، ويخلق بيئة تعليميّة إيجابيّة ومتعاونة. 

تقول دينا حسنين عن هذا التشارك: "المعلّم الذي يشعر بالتقدير، وبأنّ صوته ورأيه مسموعان من قبل الإدارة، سيعكس ذلك في طريقة تعامله مع طلّابه داخل البيئة الصفّيّة. ولا ننسى الأهل والطلبة، والذين إذا وجدوا دعمًا وتعاونًا من قبل الإدارة، ووضوحًا في سياستها، سيصبحون أكثر تعاونًا وانتماءً إلى المجتمع المدرسيّ". 

ويقول مصطفى شريف: "تكامل العمليّة التعليميّة يحتاج إلى تعاون جماعيّ بين إدارة المدرسة والأسرة معًا. وفي رأيي، إشراك الإدارة المدرسيّة الأسرةَ يساعد في خلق جوّ وبيئة تعليميّة جيّدة"، وتنعكس هذه الشراكة إيجابيًّا على كلّ المشاركين فيها، سواء كانوا داخل المدرسة أو خارجها. فعندما يدرك الفرد أنّ له دورًا في وضع هذه السياسات، يزداد التزامه بتطبيقها؛ ما يسهم في تحقيق الأهداف التعليميّة بسلاسة وفعّاليّة. بهذا الشكل، تصبح المدرسة مساحة ديناميكيّة تتفاعل فيها الآراء والتجارب؛ الأمر الذي يدعم جودة التعليم، ويضمن استدامة تطوّره. 

تعكس إجابات المعلّمين والتربويّين تعدّد الزوايا التي تُسهم فيها سياسات المدرسة وإدارتها في تحقيق التكامل التعليميّ. يرى بعضهم أنّ نجاح العمليّة التعليميّة يعتمد على وضوح الرؤية والتخطيط الفعّال؛ إذ تضمن السياسات المدروسة تحفيز المعلّمين، وتعزيز التواصل داخل المدرسة ومع المجتمع المحيط بها. بينما يشير آخرون إلى أنّ العوامل المادّيّة والنفسيّة تؤدّي الدور الأساسيّ، مؤكّدين على أنّ بيئة التعلّم الجيّدة، سواء من حيث المرافق أو المناخ النفسيّ الداعم، تعزّز من تحصيل الطلّاب وانخراطهم في التعليم. أمّا التشاركيّة، فتظهر باعتبارها عنصرًا أساسيًّا يُشعر جميع أفراد المجتمع المدرسيّ بالمسؤوليّة؛ ما يجعل تطبيق السياسات أكثر سلاسة وتأثيرًا. 

ومن جانبنا، نرى أنّ التكامل الحقيقيّ يعتمد على بناء نظام إداريّ ديناميكيّ، قائم على البيانات والتقييم المستمرّ؛ إذ لا يقتصر دور الإدارة على وضع سياسات ثابتة وتنفيذها بشكل آليّ، بل يتجاوزه إلى مراقبة تأثير هذه السياسات وتحليل نتائجها، ثمّ إجراء التعديلات اللازمة لضمان تحقيق الأهداف التعليميّة المرجوّة. فالتكامل الحقيقيّ للعمليّة التعليميّة لا يتحقّق بوجود خطط مجرّدة، أو قرارات إداريّة فوقيّة، لكن عبر نموذج تفاعليّ، يجعل البيانات والمخرجات التعليميّة أساسًا للتخطيط وصنع القرار، ما يعزّز استجابة السياسات المدرسيّة للتحديّات والاحتياجات الفعليّة داخل البيئة التعليميّة. 

 

تحليل أثر السياسات التربويّة على الأداء التعليميّ 

لا يكفي أن تقوم المدرسة بوضع خطط التطوير المهنيّ للمعلّمين، أو تبنّي أساليب حديثة في الإدارة؛ لكن لا بدّ أن يكون هناك نظام تقييم مستمرّ، يقيس مدى تأثير هذه السياسات في الأداء التدريسيّ ومستوى تحصيل الطلّاب. كما يجب أن تُجري الإدارة اختبارات تقييميّة منتظمة، وتقارن نتائج الطلّاب قبل وبعد تطبيق سياسات معيّنة، ويمكنها جمع آراء المعلّمين والطلّاب حول فاعليّة البرامج المقدّمة، باستخدام استبانات دوريّة ومجموعات نقاشيّة تحليليّة. بهذه الطريقة، تصبح الإدارة قادرة على ضبط استراتيجيّاتها بما يتناسب مع واقع المدرسة واحتياجات طلّابها. 

 

دور البيانات في تعزيز المشاركة الفعّالة  

ينبغي أن يعتمد إشراك المعلّمين، والطلّاب، وأولياء الأمور في اتّخاذ القرارات داخل المدرسة على معطيات واضحة، تعكس واقع المدرسة واحتياجاتها الفعليّة. فعلى الإدارة ألّا تكتفي فقط بعقد اجتماعات مع المعلّمين؛ بل أن تقدّم حلولًا قائمة على تحليل الأسباب الحقيقيّة لتدنّي نتائج الطلّاب، مثل الحاجة إلى وسائل تعليميّة أكثر تفاعليّة، أو تطوير برامج دعم نفسيّ للطلّاب الذين يعانون مشكلات في المشاركة الصفّيّة. ببناء قاعدة بيانات تشمل تقارير الأداء الأكاديميّ، ونتائج التقييمات المستمرّة، وآراء الطلّاب وأولياء الأمور، يمكن للإدارة أنّ تتّخذ قرارات أكثر دقّة وفاعليّة، تعكس احتياجات الجميع، وتضمن تنفيذ سياسات تعليميّة مؤثّرة ومستدامة. 

 

التكيّف مع المستجدّات وإدارة التحدّيات المستقبليّة  

أحد أبرز التحدّيات التي تواجه المدارس، القدرة على التكيّف مع المتغيّرات السريعة في المجال التربويّ والتكنولوجيّ، وهنا يأتي دور النظام الإداريّ الديناميكيّ الذي يعتمد على التقييم المستمرّ، وليس على التمسّك بسياسات تقليديّة جامدة. فمع تزايد اعتماد التقنيّات الحديثة في التعليم، يجب على الإدارة ألّا تكتفي بمجرّد إدخال التكنولوجيا إلى الصفوف؛ ولكن عليها قياس مدى تأثيرها في التحصيل الدراسيّ، والتأكّد من أنّ المعلّمين يمتلكون المهارات اللازمة لاستخدامها بفعّاليّة. كما أنّ مواجهة تحدّيات، مثل تفاوت المستويات الأكاديميّة بين الطلّاب، أو ضعف الدافعيّة نحو التعلّم، تستدعي أنّ تكون الإدارة مرنة في تعديل خططها، فتطبّق نماذج تعليميّة مختلفة وفقًا لاحتياجات الطلّاب، بدلًا من فرض نموذج تعليميّ موحّد لا يناسب الجميع. 

 

مدرسة متطوّرة وتكامل تعليميّ مستدام  

إنّ المدرسة التي تجعل من البيانات والتقييم المستمرّ بوصلتها، بدلًا من الإدارة التقليديّة التي تُملي القرارات من القمّة إلى القاعدة، مدرسة تنبض بالحياة، وتسير بخطى واثقة نحو التكامل التعليميّ الحقيقيّ. فبدلًا من الاكتفاء بتوفير بيئة دراسيّة جيّدة، أو تطبيق سياسات تحفيزيّة من دون قياس فعّاليّتها، تضع هذه المدرسة كلّ قرار إداريّ تحت مجهر التحليل، لترصد أثره في الأداء التعليميّ، وتعدّل مساره إن لزم الأمر. إنّها منظومة ديناميكيّة لا تركن إلى الجمود؛ بل تتجدّد باستمرار؛ ما يجعلها قادرة على التكيّف مع المستجدّات، ومواجهة التحدّيات بمرونة، وخلق بيئة تعليميّة متكاملة، تتفاعل فيها جميع عناصر العمليّة التعليميّة بتناغم وانسجام. 

 

منهجيّات