عندما نتحدّث عن دقائق الصباح الأولى في غرفة الصفّ، يتبادر إلى ذهن غالبيّتنا، وبشكل لا واعٍ أو مباشر، المشهد التقليديّ للحلقة الصباحيّة، والتي نتناول خلالها، عادةً، مواضيع عدّة، مثل اليوم، والتاريخ، وحالة الطقس، على رغم أنّ هذه الأنشطة تظلّ جزءًا لا يتجزّأ من روتيننا اليومي. وفي بعض الأحيان، ونتيجةً لضغوطات العمل المتزايدة، نستكمل بعض الأعمال العالقة في دقائق الصباح الأولى.
ومع تزايد الحديث مؤخّرًا حول أهمّيّة بدء اليوم بطريقةٍ صحّيّةٍ وإيجابيّةٍ، تساءلت: لمَ لا نُعيد النظر في هذه الدقائق، ونحوّلها إلى فرصةٍ ذهبيّةٍ لتغذية عقولنا وأرواحنا، بطريقةٍ بسيطةٍ تتناسب مع الفئة العمريّة، إلى جانب الأمور الأخرى التي نتحدّث عنها عادةً في الحلقة الصباحيّة؟ لمَ لا نستخدم هذا الوقت لزرع بذور عاداتٍ إيجابيّةٍ قد تكبر وتنمو مع الطفل، وتسهم في بناء شخصيّةٍ سعيدةٍ ومتوازنةٍ؟ لمَ لا نبدأ يومنا بطريقةٍ تجلب الطاقة الإيجابيّة إلى المكان، وتعزّز نمو الأطفال الداخلي، بدلًا من التسرّع لإنهاء المهامّ المدرسيّة تحت تأثير الضغط والتوتّر؟
أنا أؤمن كثيرًا بأهمّيّة البدايات، وأرى أنّها الأساس الذي نبني عليه بقيّة يومنا، وحياتنا أيضًا؛ فالبدايات، بالنسبة إليّ، ليست مجرّد لحظاتٍ عابرةٍ، بل هي فرصةٌ للتجدّد والنموّ، فالبداية المدروسة في أيّ مجالٍ تحقّق تأثيراتٍ إيجابيّةً على المدى الطويل. وهو ما ينطبق، بالتأكيد، على عملي اليوميّ مع الأطفال.
محطّات دقائق الصباح الأولى
1. محطّة التنفّس العميق
يساعدنا دمج تقنيّة التنفّس العميق في روتين الصباح على تهدئة مشاعرنا وأفكارنا، وبدء اليوم بشعورٍ من الانتعاش والتركيز، ويُعدُّ تنفيذها مع الأطفال أمرًا سهلًا للغاية:
نجلس معًا على السجّادة بطريقةٍ صحيحةٍ ومريحةٍ تساعدنا على التركيز والهدوء. نُغمض أعيننا، ونأخذ نفسًا عميقًا وبطيئًا من الأنف. نكتم النفس قليلًا ونحن نعدُّ إلى خمسة، ثمّ نُخرج الهواء في الزفير بهدوء. نكرّر العمليّة عدّة مرّاتٍ، مع تعزيز الأطفال بعباراتٍ، مثل: "أنتم الآن أكثر هدوءًا وأكثر اتّزانًا". وهنا يأتي دوري، بوصفي معلّمة رياض أطفالٍ، في تحويل تقنيّة التنفّس إلى تجربةٍ ممتعةٍ، وتقديمها بأسلوبٍ طفوليٍّ، فأشمُّ الوردة، مثلًا، وأنفخ على الورقة.
2. محطّة الامتنان
لهذه الممارسة البسيطة والعادة الجميلة تأثيرٌ كبيرٌ في حياتنا وفي إحساسنا بالرضا، فتركيزنا على الأشياء الإيجابيّة وسيلةٌ فعّالةٌ لتعزيز المشاعر الإيجابيّة. أمّا عن كيفيّة تطبيق هذه الممارسة، فأنا أبدأ بنفسي في كلّ مرّةٍ، وأمتنّ أمام الأطفال بصوتٍ لطيفٍ وعباراتٍ واضحةٍ لأشياء حقيقيّةٍ في حياتي. وأفضل ما أحبُّ مشاركته هو أنّني كنت، وأنا معهم، أمتنُّ لوجودهم في عالمي، ورؤيتي وجوههم الجميلة، وسماع ضحكاتهم البريئة ومشاكساتهم. ويمكنني أن أستحضر الآن، وأنا أكتب كلماتي هذه، الابتسامة الجميلة التي كانت ترتسم على وجوهم، فردًا فردًا، وهم يسمعون ذلك من معلّمتهم. عندئذ كنت أحثّهم على الامتنان حتّى لأبسط الأشياء في حياتهم، وأشجّعهم على التعبير عن هذا الامتنان بجملةٍ يقولونها، أو رسمةٍ يرسمونها ويضعونها في سلّة الامتنان، أو أن يتبادلوا الحديث حولها على مبدأ استراتيجيّة "فكّر - زاوج – ناقش". فكانوا يقولون: "أنا ممتنٌّ للعبتي التي تجعلني أستمتع"؛ "أنا ممتنٌّ لماما لأنّها حضّرت لي طعامي"؛ "أنا ممتنٌّ لصديقي، ولصفّي الجميل الذي يشعرني بالسعادة"، وغيرها الكثير من الأمثلة اللطيفة والبسيطة. هذه التقنيّة ستساعدهم على تقدير الأشياء الصغيرة، وستشعرهم بالاتّصال بالعالم من حولهم، كما أنّ لها دورًا في تطوير مهارات التحدّث والتفكير لديهم، إذا ما نظرنا إلى الممارسة من ناحيةٍ أكاديميّةٍ وتربويّة.
3. محطّة الكلمات الإيجابيّة
الكلمات الإيجابيّة ليست مجرّد عباراتٍ، بل هي ذات تأثيرٍ كبيرٍ في طريقة تفكيرنا. وهي أدواتٌ قويّةٌ تُسهم في تعزيز الثقة بالنفس، فعباراتٌ مثل: "أنا قادرٌ"؛ "أنا أستطيع"؛ "أنا قادرٌ على التعلُّم"؛ "أنا أستطيع مواجهة التحدّي"؛ "أنا مميّزٌ"؛ "أنا قويٌّ"؛ "أنا قادرٌ على تحقيق النجاح"؛ "أنا مفكّرٌ"؛ "أنا أستطيع أن أقرأ"، وما إلى ذلك من عباراتٍ إيجابيّةٍ، لها أثرٌ كبيرٌ في الطفل. وهنا أشجّع كثيرًا على أن يستخدم الطفل المرآة وينظر إلى نفسه أثناء ترديد هذه العبارات، فتكرار هذه الكلمات وتعرّضه إليها بشكلٍ مستمرٍّ ومنتظمٍ سيعزّز ثقته بنفسه، وستصبح العبارة ومعناها جزءًا من هويّته، وسببًا في رؤية نفسه بطريقةٍ إيجابيّة.
4. محطّة المشاعر
هي محطّةٌ عميقةٌ جدًّا، ولها دورٌ كبيرٌ في مساعدة الأطفال في التعرّف إلى مشاعرهم أيًّا كانت، كالفرح، والحبّ، والحماس، والغضب، والتعب، والغيرة، وغيرها الكثير. كما لها دورٌ مباشرٌ في تطوير مهارات الأطفال اللغويّة والاجتماعيّة والعاطفيّة على حدٍّ سواء. خلال هذه المحطّة نساعد الأطفال على التعبير عن هذه المشاعر باستراتيجيّةٍ آمنةٍ وداعمةٍ، ويُترَك لكلّ معلّمٍ ومعلّمةٍ استخدام الطريقة والاستراتيجيّة التي تتناسب مع الفئة العمريّة التي يعملون معها، ومن بينها "كُرة المشاعر" و"بطاقات المشاعر"، وهي مجموعة بطاقاتٍ تحمل كلّ واحدةٍ منها صورةً تعبيريّةً لشعورٍ معيّن، يُطلب من الطفل اختيار البطاقة التي تعبّر أفضل من غيرها عن شعوره، ونشجّعه على ترجمة هذا الشعور إلى كلماتٍ، لمساعدته على فهم مشاعره من جهةٍ، ومساعدته على تجاوزها، أو علاجها، من جهةٍ أخرى.
5. محطّة الاتّفاقيّة الصفّيّة
تُعدُّ دقائق الصباح الأولى فرصةً ذهبيّةً لبناء الأسس التي ستحدّد مجرى يومنا، فهذه اللحظات الهادئة، وحالة التركيز في بداية اليوم، توفّر بيئةً مثاليّةً لننسج معًا اتّفاقيّاتنا، سواء كانت عامّةً تنظّم السلوك داخل الصفّ، أو خاصّةً بهذا اليوم، كاتّفاقيّاتٍ حول أنشطةٍ مخصّصةٍ ليومنا هذا تحديدًا، مثل الرحلات، أو الزيارات لصفوفٍ أخرى، أو التجارب، أو فعّاليّاتٍ أخرى مميّزةٍ.
استخدموا دقائق الصباح الأولى لبناء التوقّعات مع الأطفال حول هذا اليوم، وأفسحوا لهم المجال لمشاركة آرائهم وملاحظاتهم حول القواعد والاتّفاقيّات.
6. محطّة اليوم والتاريخ
محطّةٌ مهمّةٌ جدًّا في تطوير إدراك الأطفال للتنظيم الزمنيّ، يتعرّفون خلالها إلى أيّام الأسبوع، والعدّ، والأشهر وترتيبها. ويكون ذلك، عادةً، من خلال الأناشيد والألعاب والأنشطة التفاعليّة والبطاقات وغيرها. يمتدُّ التعلُّم خلال هذه المحطّة إلى تفاصيل لغويّةٍ أخرى أثناء تعلُّم كتابة التاريخ، وهي فرصةٌ جميلةٌ نتطرّق فيها إلى كتابة الهمزات، و"ال" التعريف، والحروف في أسماء الأيّام والشهور. وقد تمكنّا مع نهاية العام الدراسيّ الماضي من الوصول إلى نسبةٍ جيّدةٍ من أطفال مرحلة الروضة الثالثة، قادرةٍ على كتابة التاريخ كاملًا بشكلٍ شبه مستقلّ.
7. محطّة رسالة الصباح
أذكر أنّني تلقّيت نصيحة إدراج رسالة الصباح ضمن البرنامج اليوميّ من مشرفة الروضة. في الحقيقة، لم أدرك أهمّيّة هذه النصيحة إلّا بعد الالتزام بتنفيذها، وثبت لي أنّها مسألة غاية في الأهمّيّة، فقد صار الأطفال ينتظرون رسالة الصباح يوميًّا وهم في غاية الحماس، إذ أظهرت تأثيرها الإيجابيّ فيهم مع مرور الوقت. أمّا عن محتوى هذه الرسائل، فيمكنه أن يتناول التحديثات اليوميّة، كالإعلان بطريقةٍ حماسيّةٍ عن رحلةٍ، أو فعّاليّةٍ، أو أيّ تغييرٍ في جدولنا اليوميّ. وقد يكون عن حدثٍ حماسيٍّ، مثل عيد ميلاد أحد أطفال الصفّ، أو عيد ميلاد المعلّمة، أو يأخذ شكل رسائل إيجابيّةٍ وعباراتٍ تشجيعيّةٍ لهم، أو عن مناسباتٍ عامّةٍ، مثل العيد، أو شهر رمضان المبارك، أو حتّى اليوم الوطنيّ.
ساعدت رسائل الصباح في تطوير القراءة واللغة لدى الأطفال، وساعدتهم في التنظيم والتخطيط لما هو متوقّع في ذلك اليوم، وتوجيه انتباههم نحو ما سيحدث. وأذكر كيف صاروا، مع نهاية العام، هم من يبادرون في صياغتها مع المعلّمة، ويفكّرون في محتواها. كما أنّها عزّزت من انتمائهم إلى بيئتهم الصفّيّة، فذكر تفاصيل إيجابيّةٍ وشخصيّةٍ أسهم في بناء علاقةٍ إيجابيّةٍ في ما بينهم أنفسهم، ومع المعلّمة، ومنحهم إحساسًا بالأمان واستعدادًا أفضل لليوم. وهكذا، لم تكن رسائل الصباح تذكيرًا باليوم فقط، بل أداةً تعليميّةً ووسيلةً إيجابيّةً وداعمةً للأطفال في دقائق الصباح الأولى.
***
قد يتبادر إلى ذهن القارئ سؤالٌ بديهيٌّ وطبيعيٌّ حول كيفيّة تغطية كلّ هذه المحطّات، ودمجها في مدّةٍ زمنيّةٍ قصيرةٍ لا تتجاوز الثلاثين دقيقةً، والإجابة تكمن هنا في ركيزتَين أساسيّتَين، هما: التدرّج والاستمرار.
يُعدُّ التدرّج في طرح المحطّات مفتاحًا أساسيًّا لتحقيق أقصى استفادة منها. وبدلًا من تغطيتها جميعًا في بداية العام، في يومٍ واحدٍ، أو خلال أسبوعٍ واحدٍ، يمكننا تبنّي نهجٍ تدريجيٍّ يمكّن الأطفال من التفاعل مع كلّ محطّةٍ بشكلٍ عميقٍ ومنظّمٍ، مثل البدء بمحطّتَين في الأسبوع الأوّل، ومنحهما الوقت الكافي، ثمّ الانتقال في الأسبوع الثاني إلى المحطّة التالية، مع ضرورة تقييم أثر ما تمّ تطبيقه، والتأكّد من فاعليّته قبل الانتقال إلى محطّةٍ أخرى.
أمّا عنصر الاستمراريّة، فإنّه يضمن التكرار والممارسة، ويسهم بشكلٍ كبيرٍ في ترسيخ العادات الإيجابيّة، خصوصًا لدى الفئات العمريّة الصغيرة.
في النهاية، تكمن القوّة الحقيقيّة في البدايات، ومقدرتنا على الاستفادة من هذه المحطّات تكمن في الالتزام والمثابرة، وفي تنفيذها بطريقةٍ مرنةٍ وملهمةٍ ومتنوّعة.