لا تكمن الأزمة الحقيقيّة في كون قيمة المعلّم الرمزيّة قد بدأت في الخفوت إزاء حلول التقنيّة مكانه، أو إزاء الانتقاص الذي طال مكانته. بل قد عصفت الأزمة بقيمته الاجتماعيّة كذلك نتيجة تنحيته عن أدواره المركزيّة المرتبطة بالمعاني، والتي ما انفكّت تنضوي تحت لوائه؛ إذ لم يعد المعلّم هو الحامل الرئيس لمشعل التهذيب والتربية، وبات من الممكن الاستغناء عنه في مجتمع لم تسلم فيه المدرسة من الإساءة والإذلال. فلا المدرسة ولا المعلّم تحصّنا ضدّ الخدوش والوصمات الاجتماعيّة التي تتربّص بهما، في زمن أضحت فيه المظاهر أسمى من الجواهر. والحال أنّ قيمة المعلّم التي كانت تضعه موضع الاحترام والتقدير باكتسائها طابعًا إيجابيًّا ينبع من المجتمع، قد تعرّضت للتبخيس والاستصغار بموجب مجموعة من التغيّرات التي مسّت المجتمع، محدِثة أزمة في القيمة، وهي الأزمة التي أثّرت تأثيرًا سلبيًّا في مهنة المعلّم، والتعليم عامّةً.
رأسمال المعلّم الرمزيّ: مقاربة سوسيولوجيّة لسؤال القيمة
أبدع عالم الاجتماع الفرنسيّ بورديو (1998) مفهومَ الرأسمال الرمزيّ (Capital symbolique) الذي يدلّ به على الموارد المتاحة للفرد، نتيجة توفّره على خصائص محدّدة كالشرف والهيبة والمكانة والحظوة والسمعة الطيّبة والسيرة الحسنة، وهي خصائص تُدرَك وتقيَّم من أفراد المجتمع، وتُمنَح قيمة ويُعترف بسلطة من يملكها. وبالتالي، فهي قيمة مستمدَّة من الخارج، أي من المجتمع.
ينشأ هذا الرأسمال نتيجة تكاتف مجموعة من الرساميل الأخرى على النحو الآتي:
-
- الرأسمال الاقتصاديّ "Capitale économique" الذي تقصد به الموارد الماليّة التي يمتلكها الفرد، والتي تمنحه استقلاليّة وأمنًا ماليًّا، يستطيع بموجبه أن يشتري ما يرغب فيه.
-
- الرأسمال الاجتماعيّ "Capital social"، والذي يتمثّل في الحظوة الاجتماعيّة التي يكتسبها الفرد بشبكة من العلاقات التي يحوكها مع أفراد آخرين في مواقع اجتماعيّة مختلفة، بحيث يستطيع، بمقتضى هذا الرأسمال، أن يمتلك قيمة اجتماعيّة تمكِّنه من التفاعل الإيجابيّ المتّسم بالتعاون والتكافل (Bourdieu, 1980).
-
- الرأسمال الثقافيّ أو المعرفيّ "Capital cognitif"، والذي يتجلّى في مختلف المعارف والتجارب والخبرات التي يتمتّع بها الفرد، وتمنحه قدرة على التعامل مع مختلف الوضعيّات الاجتماعيّة التي يتصادف معها (شوفالييه وشوفيري، 2005). فالفرد الذي يملك هذا الرأسمال يمكنه أن يساعد شركة على رفع أرباحها، أو يخلِّص مجموعة من الأفراد من جهلهم وأميّتهم، أو يفكّ بعض المشكلات المتعلّقة بالمجتمع، لأنّه يوظِّف معارفه في السياقات التي تستلزمها، بالإضافة إلى تحلّيه بأدبيّات الحوار والنقاش.
وعليه، فقيمة المعلّم الرمزيّة تتحدّد في مدى ترابط هذه الرساميل وتكاملها، إذ إنّ غياب أحدها ينتج عنه خلل في القيمة الرمزيّة. فالمعلّم، مثلًا، لا يكفيه الرأسمال الثقافيّ الذي اكتسبه من الجامعة وتشرّبه من تخصّصه الأكاديميّ، ما لم ينتفع منه لكسب الثروة. أي أنّ الرأسمال الثقافيّ، إذا لم يجسر العلاقة لتصل بينه والرأسمال الاقتصاديّ، هو رأسمال فارغ الرصيد، ولا يقضي لصاحبه أيّ مصلحة، ولا سيّما أنّ المعرفة التي يحملها المعلّم تُصرَف بالتعليم، لا بتلك المعرفة التقنيّة أو الأداتيّة التي تفضي إلى نتائج آنيّة وملموسة، ويمكن أن نسمّيها بالمعرفة البراغماتيّة السائدة في عصرنا الحاليّ.
نحن نعلم علم اليقين أنّ التعليم وظيفة، والمعلّم مجرّد موظّف أجير بالمنطق الوظيفيّ، والوظيفة لا يمكن أن تحقّق لممارسها الثراء والغنى. لذلك، يبقى أمل المعلّم معلّقًا لكسب قيمته على "البنك المعرفيّ" المُتوفِّر عنده، عسى أن ينعم منه بالحظوة والمكانة الاجتماعيّة التي يستحقّها.
قيمة المعلّم الاجتماعيّة: مَن المسؤول عن تصدّعها؟
نشهد في عالمنا العربيّ اليوم انتقادات غير مسبوقة لقيمة المعلّم. ونعرض، في سبيل فحص هذه الانتقادات، دراسة أجرتها منظّمة التضامن الجامعيّ في يوليو سنة 2019 في المغرب حول العنف ضد الهيئة التعليميّة، شارك فيها 9038 من أعضاء الهيئة، وخلصت الدراسة إلى أنّ 46% من المشاركين تعرّضوا لحالة عنف واحدة على الأقل (لفظيّ أو جسديّ أو تحرّش)، خلال مسيرتهم المهنيّة.
تومئ هذه الدراسة بالفعل إلى أزمة حقيقيّة بدأت تطارد أطر المنظومة التعليميّة، وتتجلّى هذه الأزمة تجليًّا واضحًا في تجاوز الحدود التي كانت تفصل بين المعلّم والمتعلّمين؛ بحيث تمزّقت قيمة المعلّم الرمزيّة والاعتباريّة تمزّقًا جعل المتعلّمون يتجاسرون عليه، ويتجرّؤون على إلحاق الضرر به إن قُصِد الانتقام منه، أو قُصِدت السخرية منه. والمشكلة هنا أعمق ممّا نتصوّر، فالعنف المدرسيّ ما هو إلّا نتيجة وامتداد لظاهرة اجتماعيّة تنطوي على ديناميّة وتغيّر مستمرّين، وهي ظاهرة العنف الاجتماعيّ التي اجتاحت المدرسة أيضًا باعتبارها مؤسّسة اجتماعيّة متجذّرة في المجتمع، وكلّ ما يمسّ هذا الأخير يمسّها بالضرورة. فالمتعلّمون الذين يصدر منهم سلوك عنيف ضدّ بعضهم، أو ضدّ معلّمهم، إنّما تشرّبوه من البيئة الاجتماعيّة التي نشؤوا فيها. كما أنّ المعلّم ليس الوحيد الذي تأثّر بظاهرة العنف، بل فئات اجتماعيّة لا تقلّ عنه مكانة، والمجتمع يعمل على ضبط العنف الاجتماعيّ، لكنّه لا يسعى إلى محوه واجتثاثه من أصوله. لذلك، تجده يعاقب المتعلّمين الذين يجسّدون الظاهرة، لكنّه لا ينقِّب عن حلّ جذريّ لها.
أمام هذه المعطيات التي تطفو على السطح، هناك أمور أخرى تثويها التمثّلات الاجتماعيّة المتمحورة حول المعلّم، والتي تظهر خلسة كوصمات لطيفة تُقذَف بها شخصيّة المعلّم: حيث ينظر إليه بعض الناس على أنّه شخص يرتدي أرخص الثياب، وبعضهم الآخر يراه نموذجًا لامعًا للطبقة الفقيرة الجديدة كما يسمّونها، وذلك في زمن باتت فيه المظاهر تطغى على تمثّلات الناس للأشخاص والأشياء عوض الجواهر. فبدل أن ينظر المجتمع إلى الوظيفة الشريفة والقيمة الرمزيّة التي توشِّح المعلّم، ينجذب نظره البرّاق إلى راتبه الشهريّ وثيابه وسيّارته.
إذا تعقّبنا الوصمات الاجتماعيّة اللصيقة بالمعلّم، نجد أنّ مصدرها لا يخرج من نطاق السياسة التربويّة والفلسفة التعليميّة التي تنهجها الدولة ممثَّلة بالوزارة الوصيّة على قطاع التربية والتعليم. فعلى رغم أنّ هذه السياسة لا تتقصّد من وضع مناهجها وبرامجها ومشاريعها تنكيس قيمة المعلّم الاجتماعيّة، إلّا أنّها تخرِّب التعليم من حيث لا تدري. فصحيح أنّ هذه السياسات تبتغي من وراء المشاريع التي تخطّط لها تحقيق نتائج محمودة، إلّا أنّ سوء التخطيط وعقم التصميم، فضلًا عن استنساخ نماذج أجنبيّة واقتباسها من دول أخرى حقّقت نجاحًا ملحوظًا انعكس إيجابًا على إحراز تقدّم تعليميّ فيها، حالا دون بلوغ النتائج المرجوّة. فهذه السياسة يجب أن تعمل على إقحام المعلّم في صلب مخطّطاتها وغاياتها، ويجب ألّا تزيحه عن مركزه القياديّ، باعتباره فاعلًا في تخطيط السياسة التربويّة وتقعيد مشاريعها وتحديد إصلاحاتها. كما يجب أن تمنحه الحرّيّة في اختيار البرامج والمناهج التي يعتمد عليها بما يتوافق مع شخصيّته ووضعيّته في إطار ديموقراطيّ، وبما يتلاءم في الوقت نفسه مع احتياجات المتعلّمين؛ وذلك بغية استنبات حبّ المهنة لدى المعلّم بالطريقة التي تحفِّزه على التفاني في الأداء، والإتقان في الإنجاز، والإخلاص في العمل، من دون أن ننسى دور الامتيازات والتحفيزات الماليّة في تعزيز حبّ المهنة. ويجب على السياسة التربويّة كذلك أن تسعى إلى ابتكار نماذج تعليميّة وتربويّة تنبثق من قلب المحيط التربويّ، وتراعي حاجاته والنواقص التي تعتريه.
أزمة القيمة: هل هي سبب في تردّي التعليم أم نتيجة؟
الغريب كذلك في مسألة تدنّي قيمة المعلّم الاجتماعيّة أنّها ترتبط بأسباب لا تمتّ إليه بصلة. ومثال ذلك أنّ فشل المنظومة التربويّة في بلد معيّن يُعزى إلى المعلّم الذي يُحمّل وزر الإخفاق، وتثقل كاهله بالمشاريع والبرامج الإصلاحيّة، ويؤمَل منه أن يعمل بكدّ وجهد على تنزيلها. في حين أنّ هذه المنظومة تتلكّأ عن تفعيلها بنفسها، بالتدخّل المباشر والعينيّ، وبمجرّد أن تخفق من جديد يتصدّر المعلّم لائحة الأسباب، ليوضَع موضع المساءلة والمحاسبة.
تكمن مشكلة هذه المسألة الغريبة في كون الآباء وأولياء الأمور يتوجّهون بأصابع الاتّهام إلى المعلّم، فلا تقع اللائمة إلّا عليه، وينتج عن ذلك فهم فظيع لما يحدث بالفعل. فإذا كان هذا الجيل من المتعلّمين متفوّقًا، فذلك يرجع إلى الجهود المبذولة من الجهات المسؤولة. وإذا كان هذا الجيل مخفقًا، فذلك يعود إلى كون المعلّمين من دون كفاءة واستحقاق، مع تجاهل أنّ المسؤولية الكاملة في فشل التعليم في بلد ما، تتحمّلها مختلف الأطراف المتدخّلة في هذه العمليّة، بدءًا من سياسة الدولة، ومرورًا بتدخّلات المجتمع، وصولًا إلى إسهام المعلّم. فلا معنى من أن ننتقد المعلّم ونحطّ من قيمته، لمجرّد أنّ المنظومة التعليميّة مشلولة وفاشلة، فليس في ذلك منطق ولا فهم سليم؛ لأنّ الانسياق مع هذا المنطق يؤدّي إلى خلق مواجهة مباشرة بين الرأي العام والمعلّم. ومثل هذه المواجهة تفرز نوعًا من التحامل على هيئة التعليم، وإصدار الأحكام المجحفة والجائرة في حقّها، مع ما في ذلك من انحياز أعمى إلى السياسات التعليميّة التي تضع المناهج والبرامج.
الصحيح، إذن، أن نقول إنّ فقدان المعلّم قيمته الاجتماعيّة يعزى بالدرجة الأولى إلى انحطاط المنظومة التربويّة التي تتخلّلها عمليّات التعليم. ويتجذّر هذا الانحطاط عميقًا في السياسة التربويّة والفلسفة التعليميّة في بلد معيّن. وأمكننا القول، تبعًا لذلك، إنّ أزمة القيمة أزمة ضاربة بجذورها في الأعماق، فالجذور المتراخية لا ينتج عنها إلّا أوراق ذابلة.
* * *
دعونا نعترِف- بمنتهى الحياديّة – أنّ تدنّي مستوى المعلّم ليس سببًا، بل نتيجة، بمعنى أنّ المعلّم ليس سببًا في تردّي مستوى التعليم في بلد معيّن، بل هو نتيجة عاكسة لهذا التردّي نفسه؛ إذ إنّ المعلّم فاقد القيمة لا يسعه أن يتفانى في عمله، لأنّ القيمة هي المحرّك الأساسيّ والدافع الرئيس للعمل، فإذا انتفت، تثبط عزيمته وتحبط إرادته، فأيّ قيمة ننتظر أن يقدِّمها معلّم مسلوب القيمة؟
المراجع
- بورديو، بيار. (1998). أسباب عمليّة: إعادة النظر بالفلسفة. دار الأزمنة الحديثة.
- شوفالييه، ستيفان، وشوفيري، كريستيان. (2005). معجم بورديو. علي مولا للدراسات والنشر.
- Bourdieu, Pierre. (1980). Actes de la Recherche en Sciences Sociales. Boulevard Raspail Paris.