تُعدُّ مقاربة الكفايات في التعليم من المقاربات التربويّة الحديثة التي راهنت عليها معظم الدول العربيّة للرفع من جودة منظومتها التربويّة، وذلك للانخراط في مجتمع المعرفة، ومواكبة التحوّلات العالميّة، ومسايرة الزحف الكاسح للتكنولوجيّات الرقميّة. هذه المقاربة عبارة عن حركة تصحيحيّة (الدريج، 2000) لتجاوز الاختلالات التي لحقت بالأهداف التي اعتمدت من لدنّ العديد من النظم التعليميّة في العالم العربيّ، والتي ركّزت على المعلّم والمحتوى المعرفيّ، في حين غيّبت دور المتعلّم، وانغلقت بذلك على النزعة الإجرائيّة السلوكيّة وانحرفت بعدها بالفعل التربويّ إلى فعل آليّ تعوديّ يُعدِم الخصوصيّة والتميّز، ويستبعد التفكير الابتكاريّ.
في هذا الإطار، يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على الكفايات بوصفها حركةً تربويّةً تجديديّةً لها أسس ومرتكزات قائمة، تبتغي من خلالها تجاوز جمود الأعراف البيداغوجيّة القديمة، وتصلب المناهج التربويّة التي كانت معتمدةً إلى أمَد قريب، لأجل إرساء تعليم قابل للتحويل مستديم مدى الحياة.
تحديدات أوليّة
الكفايات جمع كفاية، والكفاية كما هي متداولة في معاجم اللّسان العربيّ، اسم لفعل كفى يكفي كفاية. وفي معجم المعتمد، يقال: كفى الشيءُ فلانًا كفايةً، أي حصل له به الاستغناء عن غيره، فهو كفيّ أو كافٍ. وفي المعجم الوسيط، يقال: اكتفى بالشيء أي استغنى به عن غيره. وفي لسان العرب لابن منظور، يقال: كفى الرجل كفايةً، فهو كافٍ أو كفيّ، إذا قام بالأمر وحدَه.
إنّ هذه التعريفات المعجميّة، وإن كانت تبدو عامّة غير دقيقة، تقترب إلى حدّ ما من الحقل الدّلاليّ لمفهوم الكفاية على المستوى البيداغوجيّ حيث نجدها تربط بين الكفاية، وحصول الاستغناء عن الآخر، وتربط بين الكفاية والقيام بالأمر، وهذا ما أكّده برنارد جيني حينما عرّف الكفاية بأنّها كلّ مندمج ووظيفيّ من المعارف والمهارات وقدرات حسن التصرّف وكيفيّة التخطيط والتنبّؤ بالمستقبل (بلحسين، 2004).
كذلك ما أبرزه فليب بيرنو في مؤلّفه "بناء الكفايات انطلاقا من المدرسة"، عندما أوضح أنّ الكفايات في التعليم هي مجموعة قدرات تتمّ تعبئتها في المدرسة وتوظيفها خارج أسوارها في مجابهة مشكلات، وحلّها (بيرنو، 2004).
ومن هذا المنطلق يتّضح جليًّا دور التربية المدرسيّة القائمة على اعتماد الكفايات في إعداد المتعلّم للتوافق والتكيّف مع متطلبات العصر، ومتغيّراته (تسارع تكنولوجي، جوائح، أوبئة). يكون ذلك بمساعدته وتوجيهه من لدنّ المعلّم لاختيار المسارات الملائمة لقدراته ورغباته وتلبية احتياجاته النفسيّة والعاطفيّة.
في السياق نفسه، ومن خلال ما سبق، يبدو أنّه لا يستقيم الحديث عن الكفايات في التعليم دون الحديث عن خلفيّاتها النظريّة، ومرتكزاتها البيداغوجيّة التي تؤطّر الفعل التربويّ بين المعلّم والمعرفة والمتعلّم، وتجعل التعلّم ذا معنًى وجدوًى وفاعليّة.
الخلفيّات النظريّة
الحديث عن المقاربة بالكفايات غير ممكن دون استحضار خلفيّاتها النظريّة المستمدّة من حقول الفلسفة والعلوم الإنسانيّة والعلوم المحضة، وهي التي تعدّ موجّهًا ينظّم الوضعيّات التعليميّة التعلّميّة في هذه المقاربة لبلوغ غايات تربويّة ومرامٍ تعلّمية محدّدة. من أبرز هذه النظريّات نجد: النظريّة المعرفيّة، النظريّة السوسيو-بنائيّة، نظريّة الذكاءات المتعدّدة.
• النظريّة المعرفيّة
تقرّ هذه النظريّة بكون المعرفة ليست مجرد نسخة من الواقع، بل هي نتاج عمليّات عقليّة، وبأنّ النشاط المعرفيّ للفرد هو عبارة عن سيرورة لاكتساب المعارف بوساطة قدرات ذهنيّة كالتفكير، والإدراك، والتذكّر، والعلم (اللّحية، 2007). كما تؤكّد هذه النظريّة على أنّ الذات تلعب دورًا في التعلّم، وفي معالجة المعلومات، وحلّ المشكلات في وضعيّات محدّدة، إذ تقيم العلاقات بين المعارف، تحلّل، تعيد النّظر، تدمج، تصحّح، تبدع...
كما تنظر هذه النظريّة إلى التعلّم من زاوية السياقات المعرفيّة للمتعلّم، وتعطي أهميّة لمصادر التعلّم واستراتيجيّاته: معالجة المعلومات، والفهم، والاكتساب، والتوظيف. إنّ وعي المتعلّم بما اكتسبه من معرفة يزيد من نشاطه المعرفيّ لتطوير تعلّمه.
• النظرية السوسيو-بنائيّة
تُعدّ السوسيو-بنائيّة منظورًا مخالفًا للمقاربة التجريبيّة المعتمدة في بيداغوجيا الأهداف، إذ لم تعد المرجعيّة حسب هذا المنظور مقتصرةً على مضامين البرامج الدراسيّة بوصفها معطيات موجودةً بصورة مستقلّة عن المتعلّم، وأصبحت معارف المتعلّم هي موضوع الاهتمام في المقام الأوّل. كذلك، لم يعد الأمر يتعلّق بتعليم مضامين مجرّدة بقدر ما أصبح متعلّقًا بتحديد وضعيّات يستطيع المتعلّمون بناء معارفهم أو تعديلها ضمنها، ولم يعد المضمون المدرسيّ غايةً في ذاته، بل هو وسيلة لتنمية كفايات يحتاجها المتعلّم في حياته الاجتماعيّة (الخطابي، 2010)، فالمعرفة وفق هذا المنظور ثمرة نشاط المتعلّم الذي يبني معارف جديدةً في وضعيّة تفاعل مع محيطه البيئيّ والمجتمعيّ، وفي إطار عمليّة ديناميكيّة لبناء المعارف ومساءلتها وتكييفها وتنميتها.
• نظريّة الذكاءات المتعدّدة
تؤكّد الأبحاث الحديثة أنّ كلّ ممارسة تربويّة ستتأثّر وتُوجَّه بنوع تصوّرنا عن المتعلّم وعن قدراته الذهنيّة، إذ من الواضح أنّ أيّ تصوّر للعقل عندنا يفترض بالضرورة ممارسةً تربويّةً تُبنى عليه. إذا كنّا نتصوّر وجود ذكاء واحد لدى المتعلّم، فهذا يقود إلى وجود ممارسة نمطيّة واحدة. أمّا إذا كنّا نتصوّر وجود ذكاءات متعدّدة لديه، فإنّ هذا يقود إلى ممارسات بيداغوجيّة مختلفة. في هذا الإطار أكّد Gardner امتلاك الأفراد لذكاءات متعدّدة، نذكر منها∶ الذكاء اللّغويّ، الذكاء المنطقيّ الرياضيّ، الذكاء الحسّ-حركيّ، الذكاء الاجتماعيّ، الذكاء الموسيقيّ، الذكاء الوجوديّ، الذكاء الباطنيّ، و هذه الذكاءات لم تكشف عنها فقط الاختبارات التي تقيس تجليّاتها في الإنجازات، بل وأكثر من ذلك، فقد أثبتتها الدراسات العصبيّة والتشريحيّة للدماغ (جابر، 2003).
المرتكزات البيداغوجيّة
تستوجب مقاربة الكفايات في التعليم التخلّي عن البيداغوجيّات التقليديّة المتمركزة حول المعرفة والمعلّم، والاعتماد على أخرى نشطة فعّالة تستند إلى طرائق التنشيط وتقنيّاته، وديناميّة الجماعات، وتتمحور حول المتعلّم، ومن أهمّها بيداغوجيا الخطأ، وبيداغوجيا حلّ المشكلات والبيداغوجيا الفارقيّة.
• بيداغوجيا الخطأ
يتفق كثير من الباحثين على القيمة الاستراتيجيّة للخطأ في تاريخ البناء العلميّ للمعارف الإنسانيّة وأنّ ما يميّز تاريخ العلم مثلا حسب الفيلسوف الفرنسيّ باشلار هو محورية الخطأ في دينامية الفرضيّات العلميّة، وعلى هذا الأساس قامت المدارس السيكولوجيّة بمقاربة المنطق النفسي-المعرفي للخطأ في السيرورة الاكتسابيّة.
في هذا الصدد يؤكّد علماء التربية على أنّ كل سيرورة للتعلّم لا بدّ أن تبنى على قاعدة الاقتراب والمحاولة والخطأ، ويرون الخطأ رسالةً تعبّر عن مسار التعلّم، وتفصح عن وجود صعوبة ما يواجهها المتعلّم في تحقيق كفاياته، وأن يخطئ المتعلم، حسبهم، معناه أنّه يبذل جهدًا للتعلّم، ومعناه كذلك أنّه يحتاج تدخّل المعلّم لإزالة مختلف العوائق التي تعترضه في عمليّة التحصيل الدراسيّ.
• بيداغوجيا حلّ المشكلات
تُعدّ بيداغوجيا حلّ المشكلات استراتيجيّةً ناجعةً، ومنتجة لتدبير سيرورة التعليم والتعلّم في الموادّ الدراسيّة كلّها، مع ضرورة الارتكاز على ضوابطها الإجرائيّة والمنهجيّة، وعلى مستويات صيغ التواصل والتفاعل داخل جماعة الفصل الدراسيّ، ومنها∶
- الإعداد الماديّ لفضاء القسم∶ صيغ الجلوس، ترتيب الطاولات، توفير الوسائل التعليميّة.
- ضبط آليّات التواصل وفق المنطق البيداغوجيّ، وحسب عمليات التنشيط التي يديرها المعلّم.
- الحرص على التلاؤم بين الوضعيّات المشكلة، وبين إجراءات التواصل البيداغوجيّ.
- توفير الأدوات والوسائل التعليميّة، والدعامات، والأسناد وجعلها في متناول المتعلّمين.
• البيداغوجيا الفارقيّة
تنطلق هذه البيداغوجيّة من المسلمة القائلة: إنّ المتعلمين يختلفون من جهة المكتسبات، والسلوك، والقدرات المعرفيةّ، وإيقاعات التعلّم وغيرها. لهذا السبب، يكون المدرّس مدعوًّا لتنويع طرائق التدريس وأدواته.
تقوم الأسس النظريّة لهذه البيداغوجيا على الإيمان بإمكانيّات الكائن البشريّ، وتكافؤ الفرص للجميع، مع الاعتراف بحقّ الاختلاف للفرد التلميذ. كما تتحدّد الغاية والأهداف من هذه البيداغوجيا في محاربة الفشل الدراسيّ وتذليل الصعوبات التي تعترض المتعلّمين في تطوير قدراتهم، وفي تشجيع رغبتهم في التعلّم.
خاتمة
يبدو مما سبق أنّنا أمام نموذج تربويّ ناجع يتوخّى المردود التربويّ، ويتطلع إلى ربط فضاء المدرسة بالحياة العمليّة ربطًا وظيفيًّا في تكامل وتوازن دائم يستجيب لشروط العصر، ويحافظ على استمراريّتها بوصفها مؤسّسة لإنتاج المعرفة وأدواتها. كما يتّضح أنّنا أمام تصوّر مقعّد ومسدّد للفعل التعليميّ، لا يقف عند حدود تمكين المتعلّمين من قدرات ومهارات خاصّة، بل الارتقاء بهم إلى مستوى الإبداع والخلق والإنتاج الجيّد.
مراجع:
- بلحسن، أحمد (2004). بيداغوجيا الكفايات وتدريس الفلسفة. بحث غير منشور.
- بيرنو، فليب (2004). بناء الكفايات انطلاقا من المدرسة. ترجمة لحسن بوتكلاي، منشورات عالم المعرفة.
- جابر، عبد الحميد (2003). الذكاءات المتعددة والفهم. دار الفكر العربي.
- الخطابي، عز الدين (2010). الأطر المرجعية للمقاربات البيداغوجية. مجلة دفاتر التربية والتكوينز (2)، 8- 15.
- الدريج، محمد (2000). الكفايات في التعليم. المعرفة للجميع.
- اللحية، الحسن. (2007). الكفايات في علوم التربية. أفريقيا الشرق.