واجه النظام التعليميّ في دول العالم كلّه تحدّيًا كبيرًا، عندما أُجبِر، فجأةً دون تحضير مسبق، بسبب "كورونا" على تطبيق "التعليم عن بُعد" لمختلف المراحل التعليميّة، وكان لكلّ دولة خبرة فريدة تنسجم مع سياقاتها المختلفة، مع وجود ملامح مشتركة عامّة بينها.
في فلسطين، كان التحدّي كبيرًا جدًّا، خصوصًا في مرحلة رياض الأطفال، ومرحلة التعليم الأساسيّة الأولى (الصف الأول إلى الرابع)، وألقى الضوء على جوانب عدّة تحتاج إلى تطوير في النظام التعليمي المتّبع، سواء من جهة أساليبه وآليّاته، أو دور الطفل فيه مقابل دور المربّية، أو غيرها من الجوانب. قد بيّن هذا التحدّي الحاجة الملحّة إلى العمل على تطوير معرفة المربّين والمربيات وكفاءاتهم، وفهمهم لطبيعة الخصائص النمائيّة للطفل، وما ينسجم معها من أساليب تعلُّم وتعليم، انطلاقًا من مبادئ تعلُّم طفل هذه المرحلة، وهي التي لا تأخذها كثير من الروضات والمدراس في عين الاعتبار. ولأنّ حالات الطوارئ تُعدّ محكًّا صادقًا لفحص الواقع، فقد كشفت عن ضعف كل الأبعاد السابقة في رياض الأطفال والمدارس قبل الوباء، ولولا هذا الضعف، لكان حجم المعضلة التي واجهناها، وأثرها على كل من الطفل والمربية أقلّ بكثير، ولاستطعنا عبور حالة الطوارئ الحالية بخسائر تربوية ونفسية أقلّ.
أما وقد انتبهنا إلى الخلل، فكيف سيتم التعامل معه في العام الدراسيّ الجديد؟ ثمّة عدد من الأسئلة بلا إجابات، وهذا عند أطراف العمليّة التربويّة جميعها مع الفروق الكبيرة في وجهات النظر بينهم. ما نسمعه من قرارات أو توجيهات من الجهات المتخصّصة هو سياسات عامّة غير واضحة، وإرشادات ضبابيّة، تدور حول "ماذا سنفعل؟" دون الإجابة عن "كيف سنفعل ذلك؟". إنّها لا تتضمن اقتراحات واضحة قابلة للتطبيق. تأتي هذه المقالة لتقترح منطلقات لمعالجة هذا الأمر.
لا يعدّ التعليم الإلكترونيّ، بصيغته الحاليّة، مناسبًا لتعلّم طفل هذه المرحلة، إذ إنّه يتجاهل الاحتياجات النفسيّة للطفل
مبادئ وأسس
لا بدّ هنا، من إلقاء الضوء على مجموعة من الأسس والمبادئ العامّة لنموّ الطفل وتطوّره، وذلك استنادًا على النظريّات النمائيّة، والتربويّة، والنفسيّة بما ينسجم مع خصائصه وإمكانيّاته، وآليات التعلّم لديه. يفترض أن تكون هذه الأسس حجر الزاوية لأيّ قرارات ستؤخذ في العام الدراسيّ القادم، إلى جانب أهمية توفّر الشروط الصحيّة والوقائيّة اللّازمة، وهو الأمر الذي يترك لأصحاب الاختصاص. ومن أبرز هذه الأسس ما يأتي:
- يتعلّم الطفل في هذه المرحلة بالعمل والممارسة، أي من خلال التفاعل الذاتيّ المباشر مع الموادّ والتجهيزات، لاكتساب المعرفة ذاتيًّا عبر عمليّات الاكتشاف والبحث، وحلّ المشكلات وغيرها من استراتيجيات توظّف المهارات العقليّة العليا للطفل، ممّا يؤدّي إلى تعلّم ذي معنى، قابلٍ للنقل من سياق إلى آخر.
- الطفل هو محور العمليّة التعلّميّة التعليميّة ومركزها، بينما يكون دور المربّية ميسّرًا لعملية تعلّمه، أي يكون التركيز على عملية التعلّم وليس على التعليم. دور المربّية هنا هو التخطيط والتنظيم للخبرات التعلّميّة التي يحقّق الطفل من خلال تفاعله فيها المعرفة حسب أهداف كلّ خبرة.
- يتعلّم الطفل من خلال اللعب المُخطّط له، أي من خلال التفاعل والحركة، لا الجلوس واستقبال المعلومات من المربّية، عندها يحدث الاندماج والاستمتاع بالتعلّم، ويصبح محركًا لدافعيّة الطفل الداخليّة للتعلّم النشط.
- لا يستطيع الطفل في المراحل المبكّرة التعامل مع أشكال المعرفة المُجرّدة، أو القيام بالعمليّات العقليّة أو الحسابيّة المُجرّدة، ويجب أن يبدأ تعريضه لها فقط في ما بعد مرحلة الروضة بصورة تدريجيّة. يعتمد نجاح ذلك على مدى نجاح رياض الأطفال على تنمية معرفة الطفل حسيًّا.
- قدرة الطفل على التركيز والانتباه في هذه المرحلة قصيرة المدى، مع وجود تفاوت بسيط في مدّتها بين الأطفال بحسب العمر. وتزداد مدة التركيز والانتباه كلّما كان الطفل مهتمًا بمحتوى التعلّم، مستمتعًا به، نشطًا خلاله.
انطلاقًا مما سبق، لا يعدّ التعليم الإلكترونيّ، بصيغته الحاليّة، مناسبًا لتعلّم طفل هذه المرحلة، إذ إنّه يتنافى تمامًا مع الأسس السابقة، ويتجاهل الاحتياجات النفسيّة للطفل. هذا حتى في الظروف الطبيعيّة قبل الوباء. أما وقد اضطرّنا الوباء لأشكال تعلّم جديدة، فعلينا أن نميّز بين التعلّم عن بُعد والتعليم الإلكترونيّ، ويجب الاعتماد على نظام التعلّم عن بُعد، لا التعلّيم الإلكتروني فقط. يجب أيضا الانتباه إلى الأضرار الصحيّة والنفسيّة الجمّة التي تتركها الأجهزة الذكيّة على الطفل، وهي ما كنّا نحذّر بسببه من إدمان الأطفال عليها قبل الوباء، إذ إنّها تؤثر على النموّ الذهنيّ والاجتماعيّ والانفعاليّ والحسّيّ-الحركيّ السليم للطفل. إنّ التعليم الإلكترونيّ يأخذ أشكالًا متعدّدة، كتوظيف برامج مختلفة للتعلّم والتعليم الافتراضيّ يلتقي فيها الطفل/الأطفال مع المربّية عبر تطبيقات إلكترونية مختلفة، أو من خلال تفاعل الطفل مع موادّ تربويّة سابقة الصنع.
معظم المدارس والأهل لم يكونوا مهيئين مسبقًا لنوع التعليم الذي طبّق خلال الجائحة، ما أدّى لتساؤلات وجيهة حول نجاح هذه العمليّة، إذ لم نفرّق بين التعلّم عن بعد واستراتيجيّاته المتنوّعة من جهة، وبين التعليم الإلكترونيّ من جهة أخرى. التعلّم عن بعد لا يحدث باتصال رقميّ بين المعلّم والمتعلّم فقط، هو عمليّة معقّدة لها شروط متعدّدة، وقد لا يكون فيه مكوّن إلكترونيّ أصلًا.
العام المقبل
استنادًا إلى تصوّر وزارة التربية والتعليم الفلسطينيّة لآليّة التعلّم خلال السنة الدراسية القادمة 2020-2021، سيطبّق التعليم المُدمج ما بين التعليم الحضوريّ في الصفوف الدراسيّة والتعليم عن بُعد، وذلك ضمن مجموعات قليلة العدد من الأطفال. وقد يعتمد التعليم عن بُعد بصورة كلّيّة، إذا تطلّبت الحالة الوبائيّة ذلك. رغم أن هذه الآليّة هي المثلى للمرحلة ضمن الظروف الحاليّة، إلّا إنّه ثمّة تساؤلات عن قابليّة تطبيقها في سياق واقع روضاتنا ومدارسنا والإمكانيّات المتاحة. يأتي ذلك في ظلّ العبء على المربّيات، والصفوف المكتظّة، والشروط الصحية من تعقيم بعد كل ورديّة، وغيرها الكثير، وأهمّها عدم قدرة الأطفال على التباعد الجسديّ ما بينهم داخل الصفوف وساحات اللّعب، خصوصًا مع مرور فصلي الخريف والشتاء، موسم الرشح والإنفلونزا. هذه التحدّيات كلها تحتاج لمقالة منفصلة لمناقشتها.
عطفًا على مقترح الوزارة السابق، فإنّ تركيز الأنشطة سينصبّ على الأبعاد المحورية فقط بالمحتوى؛ لأن المدّة التي سيقضيها الطفل في المدرسة ستكون نصف ما كانت عليه سابقًا. إضافة إلى ذلك، فإنّ الجزء المحوريّ من المحتوى يجب أن يُطرح بطريقة مثيرة ومشوّقة، وليس بطريقة التلقين المُعتمدة حاليًّا في تعليم كثير من أطفالنا، فهي غير مناسبة في الوضع الطبيعيّ، واليوم بعد غياب الطفل مدّةً طويلة عن المدرسة، ومع الظروف المحيطة الصعبة التي مرّ بها، فإنّه لن يستطيع التعلّم، إذا سيطرت الاستراتيجيّات السابقة ذاتها.
نجاح هذه الخطّة يعتمد على قدرة المربّية على تمكين الأطفال بالمهارات والاستراتيجيّات، وتدريبهم خلال تواجدهم في المدرسة على آليّة إنجاز مهمّات تعطى بوضوح، ويراعى فيها التنوّع، بالتعاون مع من حولهم أو بصورة فرديّة، على أن يحدث ذلك في الأيام التي لا يحضرون فيها إلى المدرسة أو الروضة (أيام التعلّم عن بعد)، إذ يعتمد القدر الأكبر من العملية التعليمية على التعلّم عن بُعد، وليس على التعلّم الإلكترونيّ، عندها تصبح هذه المهمّات بديلًا أساسيًّا. هنا يلعب أولياء الأمور داخل البيت دورًا محوريًّا في هذه العمليّة. ويجب أن يتم العمل قبل بدء العام الدراسيّ على عقد لقاءات من قبل الروضات والمدارس مع أولياء الأمور ضمن مجموعات صغيرة، وتوضيح دورهم المركزيّ في هذه العمليّة، ومناقشة أُسس تعلّم الطفل، بما ينسجم مع خصائصه النمائيّة وإمكاناته، والتخطيط معًا لبناء آليّة تواصل خلال الفصل الدراسيّ، ليتمّ تزويدهم بالنشرات وبأفكار الأنشطة والمواد التربويّة اللّازمة بصورة منظّمة. هكذا، يشرفون على تعليم أطفالهم ويساندونهم.
فوق ذلك، تبقى الحاجة إلى التواصل بين الأطفال والمربيّات عبر التطبيقات الإلكترونيّة لإتمام عمليّة التعلّم عن بُعد، ضمن مجموعات صغيرة، أو فردياً، أو مع أولياء الأمور، خاصّة حال تعذر وصول الأطفال إلى المدارس والروضات، حيث تطبّق الأنشطة التفاعليّة معهم مثل الحوارات الجماعيّة، أو رواية القصة ومناقشتها، أو الاطمئنان عليهم، وعلى سير تعلّمهم بالمنزل، وإعطائهم الإرشادات. كذلك، إرسال التسجيلات الإثرائيّة (المسموعة أو المرئيّة)، أو أوراق عمل تطبيقيّة بين الحين والآخر. لكن هذا يجب أن يكون مساندًا لعملية التعلّم، لا أساسها كما كان خلال المرّة السابقة، لأنّ الطفل لا يتعلّم إلّا من خلال التفاعل النشط.
فلنستثمرْ هذه الفرصة بصورة صحيحة، رغم كلّ الظروف المحيطة المحبطة، ولنركّزْ على التعلّم التفاعليّ النشط، والتعلّم الذاتيّ، والتعلّم بالاستكشاف والبحث والتقصّي
التدريب والتخطيط
يجب أيضًا توضيح الدور المركزيّ للمربّيات والمربّين في التخطيط السليم للتعلّم عن بُعد، أي في تطوير أنشطة ومهمّات ومشاريع تغطّي الأجزاء الرئيسة من المحتوى، وتأخذ شكلًا تفاعليًّا تطبيقيًّا. وبعد أن ينفّذها الطفل بالتعاون مع أفراد أسرته، أو الكبار والصغار حوله، يأتي دور النشرات الإرشادية لأولياء الأمور، واللقاءات المستمرة معهم. ويجب توضيح دورهم في عمليّة التقييم المستمرّ لتعلّم الطفل بتوظيف أدوات التقييم المتنوّعة، وبإشراك الأهل أو من يتابع تعلّم الطفل. هنا، تبرز أهمية تمكين المربين والمربيات لتجاوز هذه المرحلة، لأنه حسب رؤيتي الواقع التربويّ للروضات والمدارس، إنّ الغالبيّة العظمى منهم لا يملكون هذه المهارات، إذ لم يتطلب عملهم ذلك سابقاً. كذلك، مهارات توظيف التكنولوجيا وتطبيقاتها بمختلف أشكالها.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ التصوّر السابق للتعلّم لن يعطي أيّة نتيجة إذا لم نتحرّر من الاتّجاهات التقليديّة في النظرة إلى تعلّم الطفل في هذه المرحلة، أي الانتقال من التركيز على قدسيّة المعرفة وإتقانها، إلى التركيز على نوعيّة العمليّات المعرفيّة التي يمرّ بها الطفل، وهي التي تسهم في نمو شخصيّته بمختلف أبعادها، ونموّ مهاراته وقدراته الذهنيّة والاجتماعيّة والانفعاليّة والحسيّة-الحركيّة. هذا هو مركز الاهتمام بهذه المرحلة النمائية، خصوصًا مرحلة رياض الأطفال، وليس تكديس المعرفة المجرّدة التي لا معنى لها عند الطفل.
فلندعمْ تعلّم أطفالنا خلال العام الدراسيّ القادم، فإن هذا العام فرصة فريدة ستدفع النظام التربويّ الفلسطينيّ بمختلف مكوّناته إلى العمل على تطوير ذاته وآليّاته ورؤيته لعملية التعلّم والتعليم. فلنستثمرْ هذه الفرصة بصورة صحيحة، رغم كلّ الظروف المحيطة المحبطة، ولنركّزْ على التعلّم التفاعليّ النشط، والتعلّم الذاتيّ، والتعلّم بالاستكشاف والبحث والتقصّي، فهذا هو النهج الذي يكون فيه الطفل مندفعًا ذاتيًّا إلى التعلّم بقوّة ورغبة مستمتعًا بما يتعلّمه، لأنّ هذا السبيل الوحيد للخروج من التحدّي التربويّ الكبير الذي فرضته علينا المرحلة.