الطالب المُنسحب من التعلّم
الطالب المُنسحب من التعلّم
2023/04/02
محمّد تيسير الزعبي | خبير مناهج اللغة العربيّة وأساليب تدريسها، ومصمم برامج تدريبيّة - الأردن

يسعى أغلب المعلّمين والمعلّمات إلى أن يمتلك طلبتهم مهارات عالية في التحدّث. يحبّ المعلّمون والمعلّمات خوض الطلبة حوارات جيّدة، تُظهر امتلاكهم حصيلة عالية من المفردات، وتبرز مهاراتهم الشخصيّة في الإقناع والمحاججة، أو التحدّث بانسيابيّة وطلاقة أمام حشد من المستمعين في حفل، أو في برنامج الإذاعة المدرسيّة اليوميّة.  

وهذه المهارة، التي يشعر المعلّمون بالفخر عندما يمتلكها طلبتهم، تبدو كأنّها مسؤوليّة معلّم اللغة العربيّة وحده، بينما في الحقيقة يسهمُ معلّمو المباحث كلّها في تطويرها وإثرائها، وهي قاسم مشترك بين المباحث التدريسيّة كلّها. فالطالب بحاجة إلى التحدّث ليشرح لنا كيف توصل إلى الحلّ في حصّة الرياضيّات، أو القانون الذي اتبعه لتفسير سبب انكسار الضوء في حصّة العلوم، أو بيان الأسباب التي أدّت إلى انتصار المسلمين في معركة حطّين، والمحطّات التي مرّت بها دولة قطر في رحلة استضافتها بطولة كأس العالم 2022. ويتمنّى معلّمو المباحث كلّها أن يتحدث طلبتهم بطلاقة في حصصهم، مع المدير أو المشرف التربويّ أو أيّ ضيف زائر، وبين بعضهم بعضًا.

لكنّ المعلّمين، بقصدٍ أو من دون قصدٍ، يدفعون الطلبة إلى الانسحاب من التحدّث، فيختارون الصمت مع أنّهم قد يمتلكون المفردات والجرأة اللازمتين.

 

لا يخفى على المعلّمين في حصص اللغة العربيّة، تحديد الشروط المثلى لتنمية مهارة التحدّث، فهم يعرفونها، ولو طلبنا منهم سردها واستظهارها لأبدعوا في ذلك. لكن، في الحصص الصفّيّة، ما إن يبدأ الطالب بالتحدّث حتى يقاطعه المعلّم، إذ ما زلنا نعاني إلى اليوم في صفوفنا، سيطرةَ المعلّم الواسعة على مجريات الحصّة، وبقاءه المتحدّث الأكبر أغلب الوقت. هذا الأمر هو أوّل ما يدفع الطالب إلى الانسحاب من التحدّث، واختيار الصمت؛ فالطالب، فعليًّا، لم ينل الفرصة لقول ما يريد قوله، حتّى وإن ظنّ المعلّم أنّه يعرف ما سيقوله الطالب، وأنّه بمقاطعته طالبه تلك وفّر وقت الحصّة وجهد الطالب، وهو في الحقيقة دفع الطالب إلى الصمت.

في الجانب الآخر، يميل بعض المعلّمين إلى سماع آراء بعينها، ويقلقهم طرح الطالب رأيًا مُخالفًا لرأي المعلّم. لذلك، فإنّ الطالب يتعرّض إلى حملة رفض أو مقاطعة أو تشويش أو تقليل مدّة تحدّثه، عندما يطرح رأيه الخاصّ. بل إنّ بعض المعلّمين يمنحون الفرصة أكثر للآراء المتوافقة مع ما يرغبون سماعه، وهذا الأمر يدفع الطالب إلى الانسحاب، ويغرس داخله نزعة سلبيّة، بحيث يصمت في مواقف تتطلّب الكلام، أو يحجم عن قوله لأنّه لا يمتلك الشجاعة الكافية لذلك. وإذا تحلّى المعلّم بالمرونة، فإنّه يبدأ بتوجيه رأي الطالب إلى حيث يريده، الأمر الذي يثير في نفس الطالب شعورًا سلبيًّا، وتصله رسالة مفادها أنّ رايكَ غير مرحّب به، وعليك أن تتبنّى هذا الرأي وإلّا فلن تكمل حديثك.

مجال آخر يدفع الطالب إلى الانسحاب من التحدّث، هو إبراز أخطاء اللغة التي يقع فيها الطالب أثناء التحدّث. ورغم أنّ هذا الأمرَ محورُ التعلّم في حصص القواعد والقراءة، وأنّ الطالب يجب أن يتحدّث بالعربيّة الفصحى الخالية من الأخطاء، ألّا أنّني أنصح المعلّمين بتأجيل تصحيح الأخطاء ولا سيّما إذا كانت بسيطة، والتركيز على تنمية التحدّث، أو تصحيح الأخطاء بذكاء كأن نذكر جملة أخطأ بها الطالب ونعيدها بالشكل الصحيح، من دون أن ندع هذا الخطأ يوقف دفقه بالتحدّث، وانطلاقه في التكلم.     

 

عندما سألتُ المعلّمة دلال عن سبب صمت الطالبة زينة المتكرّر، أخبرتني باندفاع أنّها لا ترفع يدها، فقلتُ للمعلّمةُ: سأطرح عليها سؤالًا مرتبطًا بموضوع الدرس الذي كان يتحدّث عن ذكاء بعض الحيوانات.

سألتُ الطالبة: هل حدث أن وقعتِ في مشكلة ما ونجحتِ بالتخلّص منها بذكاء؟ 

بدت على وجه زينة ملامح الانتباه، ورفعت يدها إلى خدّها، وراحت تسرد بحماس كيف أنّها نجحت بمساعدة أمّها بتحويل قميصها، الذي تمزّق في إحدى الرحلات، إلى ثوب لدميتها التي تحبّها، ومقلمة تضع فيها أقلام التلوين في البيت؛ فالقميص الذي تحبّه تحوّل لتأدية مهمّة أخرى.

في أثناء انهماك زينة بالتحدّث، كنتُ أراقب المعلّمة التي بدت عليها ملامح الدهشة. وما إن توقّفت زينة عن التحدّث، حتّى رفعت بعض الطالبات أصابعهنّ لطلب الإذن بالتحدّث، لكنّني اعتذرت بسبب قرب انتهاء وقت الحصّة.

بعد انتهاء الحصّة أخبرتُ المعلّمة دلال أنّ كلّ ما قمتُ به هو توفير مناخ آمن للطالبة زينة كي تتحدّث.

 

تتفهّم القيادات التربويّة في المدارس انشغال المعلّم، والمهمّات الكثيرة المطلوبة منه، والتي عادة لا تسمح بإجراء حوارات طويلة أو مكثّفة أو مستمرّة تضمن ترسّخ هذه المهارة في ممارسات الطلبة. لكن، ما أودّ قوله أنّه يمكن للمعلّمين إتاحة المجال للطالب كي يتحدّث بأمان، وإشعاره أنّ رأيه موقع ترحيب في كلّ وقت وحين، وأنّ جميع ما نملكه من أفكار نظريّة لا قيمة له، إذا لم نلتزم به إجرائيًّا في غرفة الصفّ.