خلافًا لما يعتقده البعض، بدأ التعلّم عن بُعد قبل جائحة كورونا بوقت طويل. في عام 2009 بلغ عدد المتعلّمين عن بُعد في الولايات المتّحدة الأميركيّة أكثر من مليون طالب بين الروضات، والصفّ الثاني عشر، بمعدّل نموّ متزايد يبلغ أكثر من 30% سنويًّا (Thomson, 2010)، وكان ذلك قبل الجائحة بعشر سنوات. ومع توفّر الإنترنت والأجهزة الرقميّة فإنّ استخدام تكنولوجيا المعلومات، ووسائل التواصل قد أصبحا أسلوب حياة وطريقة تعلّم؛ فالطلّاب الموهوبون المنخرطون في التعلّم عن بُعد يتمتّعون بإمكانيّة الوصول إلى مناهج مرنة عالية الجودة، كما ويمكن تجميعهم مع أقرانهم من المستوى نفسه حسب الميل والاهتمامات، خاصّةً أنّه ثمّة طلّاب كثر في جميع أنحاء العالم لا تُلبّى احتياجاتهم في مدارسهم، ومنهم الطلّاب الموهوبون.
تهدف هذه المقالة إلى تسليط الضوء على تجربة تعليم الطلّاب الموهوبين عن بُعد، التي بدأت استجابةً لاحتياجاتهم التعلّميّة الخاصّة قبل جائحة كورونا، واستخلاص الدروس المستفادة التي يمكن تعميمها في التعلّم عن بُعد للطلّاب كافّةً من فئات التربية الخاصّة وغيرهم.
من هم الطلّاب الموهوبون؟
ليس ثمّة تعريف موحّد للموهبة، أو للمتعلّمين الموهوبين، لكن يَسري الاعتقاد أنّ الأفراد الموهوبين هم الذين يُظهرون قدرات متقدّمةً في واحد، أو أكثر من المجالات التعليميّة، ما يتطلّب إجراء تعديلات على الأنشطة التربويّة استجابةً لاحتياجاتهم.
يوصف الطلّاب الموهوبون عمومًا بأنّهم فضوليّون، متعلّمون سريعون، لديهم ذاكرة قويّة، ومستوًى عالٍ من القدرة على حلّ المشكلات، قادرون على إدارة عمليّة التعلّم والإبداع، وهي مهارات مهمّة لتلبية متطلّبات القرن الحادي والعشرين في البلدان النامية (Ilhan Beyaztad & Metin, 2019). أمّا بالنسبة لملامحهم التعليميّة فقد أشارت (Thomson (2010 إلى أنّ الطلّاب الموهوبين يظهرون مسؤوليّةً عاليةً عن تعلّمهم، والتزامًا كبيرًا مع وجود دافعيّة للتعلّم، ومثابرة جدّيّة. في المقابل، ظهر أنّهم يفضّلون التعلّم بمفردهم دون الحاجة إلى تنظيم معيّن، وأنّهم يفضّلون بمستوًى أقلّ التعلّم الموجّه مع الأقران، والتعلّم بوجود شخصيّات ذات سلطة كالمعلّم.
مسوّغات تعليم الموهوبين عن بُعد
إنّ أساليب التعليم الفريدة التي يفضّلها الطلّاب الموهوبون، بالإضافة إلى كفاءتهم الأكاديميّة، ومعدّل التطوّر المعرفيّ السريع، تشكّل أساسًا، ومسوّغًا قويًّا لإجراء تعديلات على المناهج الدراسيّة، ويجري اللجوء هنا إلى التعلّم عن بُعد للمسوّغات الآتية:
- - أظهرت البحوث أنّ أداء الطلّاب الموهوبين في التعلّم عن بُعد كان في درجاته الدنيا مطابقًا لأداء الطلّاب في التعلّم الوجاهيّ، أو أفضل منه، كما أظهرت وجود تحسّن أكبر في التفكير النقديّ، ومهارات البحث، واستخدام الحاسوب، ومهارات أخذ القرارات، وإدارة الوقت (Thomson, 2010).
- - العدد المحدود للطلّاب الموهوبين الذين يتمّ الكشف عنهم في مدرسة واحدة (خاصّة عندما تكون المدرسة صغيرةً) ممّا يقلّل أولويّة الاستجابة لاحتياجاتهم، خاصّةً مع قلّة المتخصّصين في المدرسة، والموارد اللازمة لتعليمهم، وبذلك يخفّف التعلّم عن بُعد من الضغوطات التي تقع على المعلّم لتصميم دروس ومشاريع إثرائيّة لطالب، أو لمجموعة صغيرة من الطلّاب ممّن تختلف حاجاتهم عن بقيّة الصفّ، لا سيّما أنّ المعلّمين الذين يرغبون بالتعلّم المتمايز يواجهون تحدّيات مثل ضيق الوقت، والحاجة إلى تعديل المنهاج، والنقص في التدريب على كيفيّة الاستجابة لحاجات هؤلاء الطلّاب.
- - الامتداد الجغرافيّ الواسع لبعض الدول، ممّا يقلّل من فرص رعاية الموهوبين الموجودين في المناطق الريفيّة البعيدة. هكذا، يخفّف التعلّم عن بُعد من أثر المشكلة الجغرافيّة، ويسمح بتجميع التلاميذ الموهوبين من أماكن مختلفة ضمن برامج تربويّة تعقد عن بُعد، وتشرف عليها هيئات من الوزارة.
- - من فضائل التعليم عن بُعد للموهوبين أنّه ليس على التلاميذ أن يكونوا معروفين في الصفّ على أنّهم موهوبون، ممّا يخفّف من ضغط الأقران عليهم لمطابقة المعايير الخاصّة ببقيّة التلاميذ ضمن الصفّ الاعتياديّ. يأتي هذا مع السماح لهم بالتفاعل مع طلّاب آخرين من مستواهم، والإفادة من هذه التفاعلات.
- - إن التدريس المنتظم في الصفوف، الذي يركّز غالبًا على مهارات الذاكرة السمعيّة العالية، وتعلّم الحقائق، والتعاون بين الأقران قد لا يكون مثاليًّا لبعض المتعلّمين الموهوبين الذين يتمتّعون بدرجة عالية من التفكير التكتيكيّ، والقدرة على تعلّم المفاهيم، والانفتاح، والمرونة، والتعلّم المستقلّ.
- - يسمح التعلّم عن بُعد للتلاميذ الموهوبين بأخذ مقرّرات متقدّمة تتناسب مع قدراتهم قبل أن يسمح لهم عمرهم الزمنيّ بذلك، كما يسمح لهم بالتعاطي مع معلّمين تكون خبراتهم واهتماماتهم مطابقةً لخبرات واهتمامات المتعلّمين ضمن علاقة تلمذة، وتواصل مفتوح بنّاء.
- - يقدّم التعلّم عن بُعد مرونةً على مستوى السرعة، وعلى مستوى تخصيص التعلّم مع إمكانيّة الوصول إليه على مدار الساعة، وعلى مدار الأسبوع دون الحاجة إلى تغيير مدرستهم، أو الانتقال إلى منطقة أخرى.
دور المعلّم
المعلّم عامل أساسيّ في التعلّم، سواءً كان التعليم عن بُعد أو حضوريًّا، وهو مؤثّر جدًّا في نجاح التلاميذ، وتعلّمهم، وانخراطهم في الأنشطة التعلّميّة، ويمتدّ أثره إلى مشكلاتهم السلوكيّةـ وتكيّفهم الاجتماعيّ.
أمّا في التعلّم عن بُعد للموهوبين، فإنّه يوفّر فرصةً لتشكيل مجتمع افتراضيّ يضمّ الطلّاب ومعلّميهم، ويسمح ببناء المعرفة في عمليّة تفاعليّة تقوم على التفاوض حول التفسيرات المختلفة المتنوّعة للمفاهيم ضمن علاقة تلمذة تسمح للطالب بالوصول إلى المعلّم، والتفاعل معه بطريقة مختلفة، وبما هو أبعد ممّا يحصل في السياق العاديّ، وقد تتطوّر العلاقة لتبلغ الجانب الشخصيّ. وقد أكّد 26 معلّمًا من الذين علّموا عن بُعد، وتفاعلوا مع طلّاب موهوبين في دراسة أجرتها Thomson (2010) على أهمّيّة التواصل الجيّد بين المعلّم والطالب مع أهمّيّة خاصّة للثناء المتكرّر بصورة دوريّة، والتشجيع، والتغذية الراجعة الفرديّة من خلال البريد الإلكترونيّ الشخصيّ، إذ شكّلت هذه المراسلات الإلكترونيّة حيّزًا كبيرًا من التفاعل والتعلّم عن بُعد، مشدّدين على أنّ ذلك سمح بالتعمّق في مناقشة موضوع محدّد لمدّة أطول ممّا يحصل في التعليم الحضوريّ. من جهة أخرى ظهرت أهمّيّة دور المعلّم في تقديم التدعيم Scaffolding في بداية التعلّم عن بُعد، وتدرّجه في ترك الطالب الموهوب ليصبح متعلّمًا ذاتيًّا مستقلًّا، وقد ظهر أنّ غياب هذا الدور أثّر سلبًا في النتاجات التي يمكن تحقيقها في التعلّم عن بُعد، وهذا مطابق لما يحصل في التعلّم الحضوريّ؛ إذ إنّ دور المعلّم أساسيّ في تدعيم التعلّم في بداياته قبل أن يستطيع الطالب التخلّي عن هذا الدعم والعمل بصورة مستقلّة لاحقًا (Ng & Nicholas, 2010).
وجهة نظر أهل الموهوبين في التعلّم
على مدى التاريخ التربويّ القديم والحديث، ظهر أنّ الأهل كانوا قادرين على تأمين بدائل تعلّميّة لأولادهم عندما لم تستطع المدارس ذلك. لذلك، فإنّ لوجهة نظرهم في التعلّم عن بعُد أهمّيّة كبيرة. في دراسة أعدّتها (Blair, 2011) عن تعلّم الموهوبين عن بُعد من وجهة نظر الأهل، عبّر الأهل بدايةً عن أنّ التعلّم عن بُعد يوفّر مرونةً في أخذ صفوف متقدّمة، أو موادّ إضافيّة ضمن جداول زمنيّة تناسب أولادهم، وأنشطتهم حين تكون النشاطات اللّاصفيّة أحيانًا ضاغطةً عليهم.
كما عبّر الأهالي عن أنّ التعلّم عن بُعد وفرّ نوعيّة تعليم غير موجودة في المدرسة حيث يوجد الطفل، ممّا ساهم في توفير جوّ تنافسيّ يسمح بالتعرّض لأسئلة من مستوى تفكير أعلى، أو الاطّلاع على موادّ جديدة، وبالآتي كان ذلك فرصةً وحيدةً للتفاعل مع أقران من المستوى الفكريّ نفسه. وعدّ بعضهم أنّ من منافع التعليم عن بُعد منافع على المستوى الاجتماعيّ خاصّةً للأطفال الانطوائيّين، إذ منحهم ثقةً بالنفس في ظلّ عدم وجود الآخرين حولهم. من جهة أخرى، كان التعلّم عن بُعد في حالة الموهوبين حلًّا للعائلات المتنقّلة بحكم طبيعة عمل الوالدين مع إمكانيّة الاحتفاظ بدائرة العلاقات نفسها ضمن مجتمعهم الافتراضيّ.
ممارسات فضلى في تعلّم الموهوبين عن بُعد
أظهرت الدراسات (Ilhan Beyaztas & Metin, 2019) أنّ اعتماد التعلّم غير المتزامن عامل أساسيّ في نجاح التعلّم عن بُعد للطلّاب الموهوبين؛ لأنّه يوفّر مزيدًا من الوقت للتفكّر، والتأمّل في التعليم. ثمّة ممارسات تربويّة إضافية جرى استخلاصها من بحوث عدّة بين سنة 2010 و2019، يمكن أن تكون دليلًا إرشاديًّا للمدارس، والمعلّمين الذين يسعون للاستجابة لاحتياجات الطلّاب الموهوبين، والإفادة منها لضمان نجاح عمليّة التعلّم عن بُعد، هذه الممارسات يمكن تلخيصها بالآتي:
- - التخطيط الدقيق للانخراط المنظّم للطالب في النشاط التعلّميّ، ومع الآخرين.
- - مواكبة المعلّم القريبة للطالب في بدايات التعلّم عن بُعد، ومن ثمّ التقليل من الدعم المقدَّم عندما -يظهر الطلّاب قدرةً على التعلّم المستقلّ، والتفاعل الصحيح.
- - ضرورة أن ترتبط أنشطة التعلّم بالمصلحة العامّة، حيث أظهرت البحوث أنّ الطالب الموهوب يكون أكثر انخراطًا عندما يحقّق النشاط مصلحةً عامّةً أبعد من المصلحة الشخصيّة.
- - ضرورة أن يكون الموقع الإلكترونيّ منظّمًا، سهل الاستخدام، يوفّر خيارات وموارد متنوّعةً عديدةً مع شروحات، وتعليمات واضحة.
- - إنشاء نمط من التواصل السريع المتكرّر من قبل المعلّم يُعدّ أمرًا إيجابيًّا للحفاظ على دافعيّة الطالب العالية للتعلّم، مع ضرورة أن تكون التغذية الراجعة صادقةً شفّافةً.
- - اعتماد أسلوب تواصل مع المجموعة يختلف عن أسلوب التواصل مع الطالب فرديًّا؛ فالتواصل مع المجموعة يجب أن يتمّ بصورة رسميّة استباقيّة، إذ يجري تحديد المطلوب إنجازه، ومعايير هذا الإنجاز، بينما يكون التواصل الفرديّ مع الطالب أقلّ رسميّةً، وشبه شخصيّ، يستجيب لحاجاته الفرديّة، فيحرص المعلّم على التعرّف عن قرب على الطالب، وبناء علاقة تفاعليّة متينة معه.
- - فرادة التعلّم لكلّ طالب حسب اهتماماته، وحاجاته، مع توفير مستويات متقدّمة ضمن مقرّرات المناهج المدرسيّة، ومقرّرات إضافيّة من خارج المناهج الدراسيّة.
أسئلة حول جهوزيّة الطفل للتعلّم عن بُعد
لا يمكن لتجربة التعلّم عن بُعد سواءً للموهوبين، أو لغيرهم من الطلّاب أن تنجح، إذا لم تتوفّر بعض الأساسيّات، ويمكن تحديد هذه الأساسيّات من خلال الإجابة عن الأسئلة الآتية:
- هل يمتلك طفلي المهارات الأساسيّة في استخدام الحاسوب، وتصفّح الإنترنت؟
- هل لطفلي القدرة على القراءة، والفهم اللازمين لاتّباع التعليمات المكتوبة بدقّة؟
- هل عند طفلي الوقت الكافي في جدوله الزمنيّ لتكريسه لتعلّم مقرّر إضافيّ عن بُعد؟
- هل لدى العائلة، أو المعلّم الوقت الكافي في جدولهم الزمنيّ لتقديم الدعم اللازم الذي يحتاجه الطفل في التعلّم عن بعد؟
- هل يتحلّى طفلي بالصبر، والمرونة، والقدرة على التكيّف اللازمة للتعامل مع الإحباطات غير المتوقّعة (أيضًا المثابرة، والاستقلاليّة، والقدرة على حلّ المشكلات...)؟
- هل تتوفّر لطفلي الفرصة للتواصل بصورة متكرّرة فعّالة مع المعلّم، والأقران؟
- هل تتوفّر موارد باللغة العربيّة تلبّي اهتماماته، وإذا لم تتوفّر هل يتقن ولدي اللغة الأجنبيّة المناسبة بصورة كافية تسمح له بالتعلّم المستقلّ عن بُعد؟
خلاصة
في تجربة تعليم الموهوبين لمدّة تزيد عن عشر سنوات في بلد يكافح على المستوى الاقتصاديّ والمعيشيّ، كان التعلّم عن بُعد وسيلةً بديلةً عند غياب الخبرات، والموارد التي يحتاجها الطالب في المدرسة، لكنّ عوائق كثيرةً واجهتنا، منها غياب البنية التحتيّة اللازمة، وعدم توفّر الإنترنت والأجهزة، ومحدوديّة المواقع المتاحة باللغة العربيّة، ووجوب دفع بدلات ماليّة للاشتراك في بعض المواقع، وتواصل الطلّاب مع أساتذة من غير مجتمعاتهم وبيئاتهم التعلّميّة، ووجود فارق ثقافيّ وبيئيّ. لذلك، ثمّة أسئلة كثيرة أظهرتها الدراسات والتجربة العمليّة، لا بدّ من طرحها قبل الانطلاق في التعلّم عن بُعد لم يتسنَّ لنا طرحها أثناء جائحة كورونا بسبب انخراط أطفالنا في التعلّم عن بُعد فجأةً دون تحضير مسبّق.
إنّ اعتماد التعلّم عن بُعد خيارًا لتلبية احتياجات المتعلّمين الموهوبين لسنوات طويلة قبل جائحة كورونا وفّر لنا دروسًا مستفادةً يمكن البناء عليها لتطوير التعلّم عن بُعد لكافّة الطلّاب من ذوي الاحتياجات الخاصّة، لا الموهوبين فقط.
المراجع
- Blair, R. (2011). Online learning for gifted students from the parents' perspectives. Gifted Child Today Magazine, 34(3), 28-30. [Internet]
- Thomson, D. L. (2010). Beyond the classroom walls: Teachers' and students' perspectives on how online learning can meet the needs of gifted students. Journal of Advanced Academics, 21(4), 662-712. [Internet]
- Ilhan Beyaztas, D., & Metin, E. N. (2019). Learning approaches, self-regulation skills, learning strategies of gifted students and factors affecting their learning characteristics. International Online Journal of Educational Sciences, 11(5). [Internet]
- Ng, W., & Nicholas, H. (2010). A progressive pedagogy for online learning with high-ability secondary school students: A case study. The Gifted Child Quarterly, 54(3), 239-251. [Internet]