يكثر الكلام في الأوساط التربويّة في العالم العربيّ عن تحدّيات التطوير التربويّ، وعن الأدلّة حول عجزه عن تمكين القطاع التربويّ من تأدية دوره التنمويّ، وما زلنا بعد عقود ملأتها التطلّعات والمحاولات نتأمّل بحزن إنجازات البلدان المتقدّمة والنامية غير قادرين على اللحاق بركب تقدّمهم، أو على إنتاج معرفة علميّة مبتكرة تنتشل مؤسّساتنا التربويّة من عجزها عن إعداد جيل قادر على قيادة التنمية، والتطوير الذي تحتاجه مجتمعاتنا المثقلة بالتزايد في معدّلات الفقر. تصل نسبة من هم دون خطّ الفقر لدينا إلى 40% (ESCWA, 2019)، ومن جهة توزيع الدخل نرى 60% من إجماليّ الدخل مع 10% من الفئة العاملة (Halabi et al., 2017)، إلى جانب معدّلات البطالة العالية.
أينما كنّا من مشرق الوطن العربيّ إلى مغربه، سواءً إن كنّا نرزح تحت اللجوء، أم ننعم بالخيرات الطبيعيّة، ما يزال أداء المتعلّمين ضعيفًا، ويقلّ كثيرًا عن المتوسّط في التقييمات الدوليّة التي تقارن بين الطلّاب في جميع أنحاء العالم بناء على معايير التفكير النقديّ، والإبداع، والقدرة على حلّ المشكلات. أظهرت الدراسات مؤشّرات واضحةً لتدنّي جودة التعليم في أغلب الدول العربيّة؛ إذ أنّ نصف الطلّاب في المدارس عاجزون عن التعلّم، وذلك بسبب تدنّي مهاراتهم في القراءة، والكتابة، والرياضيّات، ما يؤدّي إلى الارتفاع في معدّلات الرسوب والتسرّب المدرسيّ (Halabi et al. 2017). أشار البنك الدوليّ إلى عدم وجود تطابق بين المهارات المكتسبة للطلّاب في المدارس وبين ما يطلبه سوق العمل (Dhillon et al., 2009).
من صلب هذا الواقع وتحدّياته، انطلق مشروع تمام (التطوير المستند إلى المدرسة) بوصفه مختبرًا بحثيًّا تطويريًّا قائمًا على الشراكة بين المدارس والجامعات، يهدف إلى إحداث تغيير جذريّ في المنحى الفكريّ للتربويّين في العالم العربيّ، مؤمنًا بأنّ هذا التغيير لا بدّ أن يكون نابعًا من المدرسة، وأنّه يجب أن يبدأ ببناء القدرات القياديّة للممارسين التربويّين، إذ تتّفق الدراسات بأنّهم العامل المؤثّر الأساسيّ في تحسين فرص التعلّم عند الطلّاب وتوسيع نطاقها (Hattie, 2012)، وأنّ الطالب المبدع المبتكر القائد بحاجة إلى معلّم مجدّد يقتدي به، ويحصل على رعايته ودعمه.
يرتكز تمام على مبدأ أنّ التربية هي أساس التنمية الاجتماعيّة، وأنّ التعليم الجيّد حقّ لكلّ طالب، وأنّ الوقت قد حان لإنتاج معرفة علميّة وعمليّة هدفها بناء نظام تربويّ عصريّ مجذّر في نسيج ثقافتنا وتراث مجتمعاتنا. لا يقدّم تمام حلولًا جاهزة أو أجوبة معلّبة؛ لأنّها ليست موجودة في سياقاتنا، لكنّه يعتمد البحث الإجرائيّ التعاونيّ (بين الباحث والممارس)، إذ تُجمَع الأدلّة مع الممارسين التربويين ومنهم، وتُبتَكر الحلول، وتُنمذَج التجارب الناجحة، وتُترجم إلى برامج تقدِّم الدعم اللازم لتمكين الممارس التربويّ، وتفعيل دوره في قيادة التطوير المدرسيّ المتّصف بالاستدامة.
التطوير التربويّ في الثقافة التنظيميّة السائدة
تتّسم معظم مؤسّساتنا التربويّة ما قبل الجامعيّة على تنوّعها واختلاف ظروفها (حكوميّة، وخاصّة ذات موارد قليلة، أو وفيرة...) بهيكليّة تنظيميّة لا تساعد على إطلاق التغيير، والتخطيط له، وتنفيذه، إذ إنّها لا تعطي المساحة للممارس التربويّ ليمارس مهنيّته، فيكون فاعلًا في التغيير (agent of change). وقد انبثق عن هذه الهيكليّة ثقافة تنظيميّة طبعت هويّة الممارس التربويّ بسمة التابع المنفّذ غير المسؤول عن تطوير أدائه داخل الصفّ، أو في مؤسّسته، الفاقد لجاهزيّة قيادة التطوير، وهذا يشكّل عائقًا أساسيًّا يحدّ من قدرة هذه المؤسّسات على التغيير أو التجدّد.
تشير الدراسات حول المناهج والاستراتيجيّات التعليميّة المستخدمة في البلدان العربيّة أنّ معظمها ما زال يعتمد على التلقين، ويفتقر إلى استراتيجيّات تنمّي مهارات الحياة مثل التفكير النقديّ، والابتكار، ومهارات التواصل الاجتماعيّ. مع جائحة كورونا تكشّفت أوجه كثيرة للقصور تجلّت في نواح عديدة من العمليّة التربويّة: عدم مرونة المناهج، وإهمال الجانب النفسيّ والاجتماعيّ للمتعلّم، وضعف التمايز، وغياب آليّات الشراكة مع العائلة والمجتمع المحلّيّ.
في ظلّ هذه الثقافة التنظيميّة، يتّفق الباحثون التربويّون العرب على بعض الخصائص، والتحدّيات المشتركة للإصلاح التربويّ في المنطقة العربيّة؛ إذ مبادرات الإصلاح التربويّ مسيّسة مُسقَطة على المدارس، لا تلبّي حاجاتها وخصوصيّة سياقها، وتفتقر إلى تصاميمَ وآليّاتٍ للتطوير، وليس لديها خطط مرنة للتنفيذ والمتابعة. بالإضافة إلى ذلك، تتشابه معظم وزارات التربية في الدول العربيّة في تهافتها على الخبراء الخارجيّين، لا سيّما الغربيّين منهم، مع تهميشٍ لدور الممارسين التربويّين، والخبراء المحلّيّين في المبادرات التطويريّة.
فوق هذا، تغيب ثقافة التقييم لمبادرات الإصلاح على كلّ المستويات مع إقصاء كامل لإشراك الممارسين التربويّين فيها، سواءً من جهة استشراف آرائهم فيما يتعلّق بالتخطيط للمشاريع التطويريّة، أو الانخراط بالتقييم الذاتيّ لممارساتهم التربويّة، وينعكس ذلك على صورة إهمال في رفع جاهزيّة الممارسين التربويّين المحلّيّين بالكفايات والمهارات الأساسيّة لقيادة التطوير المستند إلى المدرسة. يصاحب هذا ندرة في البحوث التربويّة التجريبيّة والإجرائيّة لا سيّما المتعلّقة منها بالتطوير المدرسيّ في الوطن العربيّ، ممّا جعل الممارسين وصنّاع السياسات التربويّة يفتقرون إلى قاعدة معرفيّة متّسقة مع ظروفهم تغنيهم عن الاعتماد على الأفكار المستعارة من الأدبيّات الدوليّة والغربيّة في أغلب الأحيان في سياق تصميم وتنفيذ مبادراتهم الإصلاحيّة.
الجائحة فرصة لتغيير تحوّليّ شامل
كسرت جائحة كورونا الجمود في الممارسات التربويّة، وزعزعت نمطيّتها؛ إذ انكبّ العديد من التربويّين حول العالم على بذل كلّ ما في وسعهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من العمليّة التربويّة كما عهدوها، وأجبرت الممارسين التربويّين في المدرسة على أخذ زمام المبادرة في محاولة تصميم حلول مبتكرة لتأمين ما يلزم لتعلّم طلّابهم، وشكّلت فرصةً ذهبيّةً طال انتظارها نقلت مسؤوليّة الابتكار والتجديد من مكاتب واضعي السياسات التربويّة إلى الخطوط الأماميّة في العمليّة التعليميّة مع التربويّين على مستوى المدرسة، ورفعت من جاهزيّتهم للانخراط في تغييرات تحوّليّة في المنحى الفكريّ لإعادة إحياء دور المدرسة والممارسين فيها في بناء الإنسان، وتنمية المجتمع العربيّ.
في ظلّ غياب البنى التنظيميّة التي تدعم التطوير المدرسيّ، يقدّم تمام تدخّلًا شاملًا متكاملًا يحرّر الممارسين التربويّين من القيود التنظيميّة التي يرزحون تحتها، ويوفّر لهم الدعم الذي يحتاجونه لتحقيق التغيير الجذريّ في المنحى الفكريّ من خلال شراكة وثيقة بين المدرسة وفريقها القياديّ من جهة، والباحثين الخبراء في الجامعات ومراكز التدريب من جهةٍ أخرى. تؤمّن هذه الشراكة للممارس التربويّ مساحةً آمنةً يسودها الثقة والتعاضد للتفكّر في ممارساته وهويّته المهنيّة، ولتفعيل حسّه المبادر واستقلاليّته. يتلقّى فيها الدعم، والتدريب، والرعاية المهنيّة ليحقّق نجاحاته، ويمتلكها، ويثبّت مكانته قائدًا للتغيير، قادرًا على قيادة التطوير النابع من حاجاته وأولويّاته، مساهمًا أساسيًّا في البحث وإنتاج المعرفة العمليّة.
يوفّر برنامج تمام للتطوير آليّةً لبناء هذه المساحة، تنطلق بدعوة التربويّين إلى تحديد حاجة تطويريّة ملحّة بناءً على دراسة للمشكلات التي يواجهونها، كما تدعوهم إلى تشكيل فهم عميق لخصوصيّة سياقهم، وتاريخ مؤسّستهم، وممارساتهم الحاليّة الناجحة، ثمّ تطلب منهم التحرّر من قيود تحدّياتهم، لا سيّما التنظيميّة منها، وتدعوهم إلى الحلم، ووضع تصوّر بديل مكوّن من أفكار تجديديّة تتناول حلولًا مبتكرةً للمشكلات، منبثقةً من تطلّعاتهم ونسيج سياقهم. مع تبلور رؤيتهم التطويريّة التجديديّة، يدعو تمام الممارسين التربويّين إلى وضع خطط تنفيذيّة تعمل بخطوات صغيرة مدروسة، تأخذ بعين الاعتبار الموارد المتوفّرة، والعقبات التي من الممكن أن تعترضهم، وكيفيّة تجاوزها، أو على الأقلّ تجنّبها وإدارة آثارها على تنفيذ مبادراتهم التجديديّة. في هذه المساحة يحمل التربويّون مسؤوليّة قيادة التطوير النابع من المدرسة، وينطلقون بثقة متسلّحين بالدعم المستمرّ، والمواكبة الدؤوبة التي يقدّمها لهم الخبراء والباحثون التربويّون خلال رحلة التطوير المدرسيّ، فتُجوَّد الحلول، وتُنمذَج استعدادًا لمأسستها ونشرها على نطاق أوسع داخل المدرسة، أو في مدارس أخرى.
بالإضافة للدعم الذي تتلقّاه المدرسة من الباحثين والخبراء التربويّين، تتضمّن مقاربة تمام عضويّةً في شبكة مهنيّة من المؤسّسات التربويّة، والمعنيّين بالشأن التربويّ تضمّ مجتمعًا مهنيًّا من الأقران والشركاء يجمعهم انتماء لمنحى فكريّ يؤمن بأهمّيّة التطوير التربويّ التحوّليّ، وبقيم مهنيّة ملتزمة بالعدالة، والمساواة في الفرص، والرغبة في تبادل الخبرات المتنوّعة للمساهمة في معالجة التحدّيات، والوصول إلى الرؤية المشتركة.
تشكّل هذه الشبكة المهنيّة خزينًا معرفيًّا من المبادرات التجديديّة التي تعمل على مراجعة سمات المتعلّم ليكون متكاملًا، فكريًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا، كما تعمل على تصويب البرامج والمناهج في المدرسة حول تلك السمات، واعتماد مقاربات تربويّة تفاعليّة نشطة تعتمد التعليم المتمايز، وتركّز على الكيف، لا الكمّ، وعلى المفاهيم والمهارات الحياتيّة والقيميّة، وربط التعليم بالحياة، إلى جانب إعداد مديري المدارس في مجال القيادة التشاركيّة، والإشراف البنائيّ الذي يدعم عمليّة التطوير المهنيّ عند الممارس التربويّ، ويزيل التحدّيات التي تواجهه. هذا بالإضافة إلى بناء شراكة حقيقيّة مع العائلة، والمجتمع المحلّيّ تعزّر دورهم في العمليّة التعليميّة، وتجعل المدرسة منسجمةً مع سياقها الثقافيّ الاجتماعيّ.
يبدأ تمام بخطوات صغيرة، لكنّه يعمل على تحقيق أهداف استراتيجيّة تنشر التغيير في المنحى الفكريّ من المدرسة إلى كلّ المعنيّين بالعمليّة التربويّة، بما فيهم صنّاع السياسات التربويّة. يمتدّ عمله من تمكين فرق قياديّة في عدد محدود من المدارس، إلى بناء مجتمع مهنيّ مترابط من أعضاء فاعلين مستعدّين لحمل مسؤوليّة قيادة التطوير خارج نطاق مدارسهم، إذ يتعاونون لمعالجة قضايا تربويّة معقّدة بحاجة إلى جهود متضافرة بين المدارس، تتشكّل منها تجمّعات أساسها التعاون والتشبيك، تتكوّن من ممارسين، وباحثين، وخبراء تربويّين، وأعضاء من المجتمع التربويّ معنيّين بالتطوير، يعملون معًا لتصميم حلول لهذه القضايا التربويّة المستعصية. تسعى هذه التجمّعات إلى المساهمة في حملات مناصرة مهنيّة تتوجّه إلى صانعي القرار حتّى تجعل من تأمين الدعم للتطوير التربويّ المتّصف بالاستدامة مدرسيًّا بوصلةَ مُعدّي السياسات التربويّة، وذلك لإنتاج سياسات تدعم الممارسين التربويّين الذين هم قادة التغيير، وتؤمّن الموارد اللازمة لاستثمار أفكارهم التجديديّة لتطوير التربية.
نحو صناعة المستقبل
ما ذُكر حتّى الآن يرسم الخطوط العريضة لنظريّة تمام للتغيير التي بدأت بوصفها فكرةً عام 2007، ثمّ تبلورت لتكون مقاربةً متكاملةً، وبرامج تدريبيّةً مجذّرةً في السياق العربيّ، وتُرجمت إلى تغيير تحوّليّ في الهويّة المهنيّة للممارسين التربويّين الذين اختبروها، وإلى تعديلٍ في الثقافة المؤسّساتيّة للمدارس التي تبنّت رؤيتها التطويريّة التربويّة. وبعد 14 عامًا، تُرجمت هذه النظريّة إلى ممارسات تتبنّاها، وتتطوّر معها شبكة مهنيّة تشمل أكثر من 850 ممارسًا تربويًّا في 69 مؤسّسة تربويّة حكوميّة وخاصّة في 8 دول عربيّة، بالإضافة إلى 32 باحثًا تربويًّا من 12 جامعة مختلفة، و42 مدربًا. يتحلّى أعضاء هذه الشبكة بالأمل والعزيمة، ويتمتّعون بالقدرات المطلوبة لقيادة التطوير المستند إلى المدرسة، وللمساهمة في البحث وإنتاج المعرفة.
مع تراكم التجارب الناجحة والموثّقة، أصبح بإمكان أعضاء هذه الشبكة أن يقدّموا لصانعي القرار اقتراحاتٍ للتطوير على صورة تصاميم، ونماذج عمليّة مبنيّة على البحث والتجريب، مجذّرة في سياقات متنوّعة، مدعّمة بممارسات يمكن أن تُنقَل وتعتمد في سياقات جديدة.
مقالات هذا الملفّ نافذة على تجارب تشكّل جزءًا بسيطًا من المساهمات الكثيرة لأعضاء شبكة تمام المهنيّة، التي ندعوكم إلى التعرّف عليها أكثر من خلال زيارة موقعنا الإلكترونيّ (www.tamamproject.org). وهذه الدعوة تشمل جميع التربويّين، لا سيّما الذين يسعون لقيادة التطوير في وطننا العربيّ، كلّ من موقعه، للبحث عن حلولٍ مبتكرة، ولتجسير الهوّة بين البحث والتطوير، ورفع اهتمام الباحث بالممارسة، واهتمام الممارس بالبحث، لعلّنا نتقدّم معًا نحو التغيير التربويّ المنشود عربيًّا.
المراجع
- Dhillon, N., Dyer, P., & Youssef, T. (2009). Generation in waiting: An overview of school to work and family formations. In N. Dhillon & T. Yousef, (Eds.). Generation in waiting: The unfulfilled promise of young people in the Middle East. Brookings Institute.
- ESCWA, (2019) Annual Report 2019: Advancing Equality.
- Halabi, S., Kheir, S., & Cochrane, P. (2017). Social enterprise development in the Middle East and North Africa: A qualitative analysis of Lebanon, Jordan, Egypt and Occupied Palestine. Cairo, Egypt and Beirut, Lebanon. Wamda. ]internet[
- Hattie, J. (2012). Visible learning for teachers: Maximizing impact on learning. Routledge.