يعتمدُ تكوين شخصيّة الطالب على عددٍ من العوامل، لا تقتصرُ على ما اكتسب في المنزل. والحقيقة أنّ للمدرسة دورًا لا يمكن إغفاله أو تغييبه، ويُمثّلهُ المعلّم؛ فكثيرٌ من المعلّمين الذين درّسونا في إحدى المراحل الدراسيّة لا ننساهم أو ننسى دورهم في تعليمنا. ولا نتوقّف عند ذلك، بل قد نتأثّرُ بشخصيّاتهم، ونسعى أحيانًا لتقليدهم بتصرّفاتهم أو أقوالهم، ما جعلهم مشاركين في بناء شخصيّاتنا، تاركين فينا أثرًا لا يمكن نسيانه مهما طال الزمن. نتذكّرهم بين فترة وأُخرى، وندعو لهم بالخير، فكلّ معلّم منهم مثالٌ حقيقيّ على المعلّم القدوة.
هل كلّ معلّم يعدّ قدوة؟
الإجابة عن السؤال السابق لا تحتاجُ إلى تفكير، إذ إنّ جميع المعلّمين أمثلة على قدواتٍ يُحتذى بها. أرى، من خلال عملي معلّمًا، أنّ كلّ معلّم يُمثّلُ قدوةً في مجاله، ولكن عليه اختيار الأسلوب المؤثّر، والذي يترك أثرًا إيجابيًّا في طلّابه. فالمعلّم القدوة ليس المُدرّس فقط، بل الأب، والأخ، والصديق، والمُوجّهُ، والمُربّي. وهو القادر على ربط دروسه بواقع الطالب، فيربطُ كلّ جانبٍ في الدرس مع شيءٍ أو موقف أو عادة أو حدث، حتّى يُوصل المعلومة للطلاب بأسهل الطرق وأفضلها. يرى الطلّاب في شخصيّته نافذة تفتح لهم آفاقًا جديدة من العلم، والمعرفة، والبحث، والاكتشاف، والتحليل، والتفكير. وأيضًا، يجبُ أن يتمتّعَ المعلّم بمجموعة صفات، حتّى يعكس الصورة الحقيقيّة لمعنى القدوة أمام نفسه وطلّابه.
صفات المعلّم القدوة
المعلّم القدوة هو الذي يكتسب الصفات الإيجابيّة من محيطه وتجاربه وخبراته، والتي تشكّلت لديه مع مرور الوقت، والنضج، وزيادة العمر. إلى جانب تأثّره بالمواقف والأحداث التي حدثت وتحدثُ معه في المدرسة، والتي تؤدّي إلى بناء شخصيّته التربويّة وصقلها، فتتكاملُ غالبًا مع بعض صفاته الخاصة أو معظمها. ويظهرُ ذلك في عددٍ من الجوانب، كالمظهر اللائق واللباس النظيف، والذي يعكسُ أثرًا إيجابيًّا عنه، ويُعزّزُ من دوره في بيان أهمّيّة النظافة الشخصيّة، والمحافظة على الملابس النظيفة. وأيضًا يكون قدوةً في التزامه بموعد الدوام المدرسيّ، فهو ملتزمٌ بأوقات دوامه وحصصه، ولا يتغيّبُ أو يتأخّر عن الطابور المدرسيّ، فضلًا عن التزامه بالمهام والواجبات المطلوبة منه، سواء المتعلّقة بعمله معلّمًا، أو تلك ضمن العمل المدرسيّ بصورة عامّة.
ووفقًا لمشاهداتي، يكون المعلّم قدوةً عندما يعترف بأخطائه، ويسعى لتصحيحها وعلاجها. فليس هو من لا يخطئ، بل من يتدارك الأخطاء، ويسعى لتحسين نفسه وتطويرها، حتّى لا يُكرّر أيّ خطأ، فيراجع نفسه بشكل دائم. ينعكس ذلك على طلّابه، والذين سيحرصون على عدم ارتكاب أيّ أخطاء، سواء في المدرسة أو خارجها. كما يحقّق المعلّم مفهوم القدوة من خلال التحلّي بالأخلاق والصفات الحميدة، كالصبر، والصدق، والتسامح، والتي تؤثّر مباشرة في طلابه، فيحرصون على التعامل بمثل هذه الأخلاق مع عائلتهم، ومعلّميهم، وزملائهم في المدرسة.
وفي المقابل، توجد فئة من المعلّمين لا يمتلكون صفات المعلّم القدوة، ويكون هدفهم من مهنة التعليم تنفيذ المهام الوظيفيّة المتعلّقة بها وحسب. فلا يسعى المعلّم منهم للبحث عن أساليب تعليميّة حديثة وتفاعليّة، لتوظيفها في الحصّة الصفّيّة، من أجل زيادة تفاعل الطلّاب، وتشجيعهم على المشاركة مع محتوى الدرس. وقد لا يراعي بعض المعلّمين الفروقات الفرديّة بين الطلاب، سواء من ناحية التحصيل الأكاديميّ أو طبيعة شخصيّة الطالب؛ فبدلًا من أن يشجّعه على التعلّم، من الممكن أن يشكّل سببًا مباشرًا في إحباطه. وكثير من الطلّاب قد تركوا دراستهم بسبب سلوك أو قول أحد المعلّمين، والذي أثّر فيهم سلبًا، وجعلهم رافضين للمدرسة والتعليم بصورة عامّة. من المؤكّد أنّ هذه الفئة تُشكّلُ نسبة قليلة من المعلّمين، مقارنة مع الذين يمتلكون صفات المعلّم القدوة، والحريصين على تعلّم الطلّاب وتعليمهم.
أثر المعلّم القدوة في تعلّم الطلاب
لدى المعلّم القدوة أثرٌ واضحٌ في تعلّم الطلاب، فهو مصدر أساس للمعرفة والمعلومات. يشرحُ لهم الموادّ الدراسيّة، ويساعدهم على فهم المصطلحات والمفاهيم المعقّدة فيها. ولا يقتصر دوره على نقل المعرفة، بل يُشاركُ في تنمية مهاراتهم المختلفة، كالتفكير الناقد، وحلّ المشكلات، والتواصل الفعّال، والعمل ضمن الفريق، وغيرها من المهارات الأخرى التي تكوّن شخصيّة الطالب. كما يبعدهم عن طرق التعلّم التقليديّة، ويوجّههم للاعتماد على أساليب تعلّم جديدة وحديثة، كالبحث والاستقصاء، واستخدام الإنترنت وتطبيقاته بما يدعم حصولهم على المعلومات، والوصول إلى المعرفة المطلوبة بأفضل الطرق والوسائل.
ولا يستطيع المعلّم وحده أن يؤثّر في تعلّم الطلّاب من دون تعاون يعتمدُ على الطلّاب من جهة، وأولياء الأمور من جهة أخرى. يترتّب على الطلّاب احترام المعلّم، وتقدير دوره في تعليمهم، والمشاركة في الحصّة الدراسيّة، والأنشطة المتنوّعة ضمن المادّة، والتي تسهم في تحقيق التفاعل المطلوب. وأيضًا لأولياء الأمور دور مهمّ جدًّا، فوجود تواصل مباشر أو غير مباشر، سواء من خلال اللقاءات في المدرسة أو الهاتف أو تطبيقات التواصل الاجتماعيّ، يساعد على متابعة أداء الطلاب، وإيصال أيّ ملاحظات لأولياء الأمور، تحديدًا المتعلّقة بالتحصيل الأكاديميّ لدى الطالب. وأرى أنّ تحقيق ما سبق يدعم دور المعلّم القدوة في أن يكون المعلّم المثال لدى الطلّاب.
التعليم ليس مهنة عاديّة أو عملًا بسيطًا، فهو يمهّد الطريق أمام بناء أجيال من الطلّاب الذين سينهضون بمجتمعاتهم، ويعملون في مجالات وظيفيّة ومهنيّة مختلفة. وهو يُعدًّ أساسًا من أساسات تنمية الصفات الأخلاقيّة، والاجتماعيّة، والعلميّة، والمعرفيّة لديهم، ورسالة تحتاجُ إلى من ينقلها بأمانة وإخلاص. ولا يوجد أفضلُ من المعلّم لتنفيذ هذه المهمّة، كونهُ يوظّفُ جميع جهودهِ لإيصال هذه الرسالة، فيأخذُ بأيدي طلّابه، وينير دروب العلم والمعرفة أمامهم، ويقوّي عزيمتهم، ويُعزِّزُ طاقاتهم، ويدعم جهودهم، ليصيروا أصحاب عطاء وإنجاز.