متى تصير المأساة فرصة للتغيير؟
متى تصير المأساة فرصة للتغيير؟
علي عز الدين | مستشار ومدرب تربوي-لبنان

تغلغلت الحروب والفوضى في عالمنا وأصبحت جزءًا لا يتجزّأ من حياتنا اليوميّة. بالطبع، لن نناقش هنا موضوع الحروب ببعده السياسيّ، ولكن سنتحدّث عن ثورة تربويّة نحن بأمسّ الحاجة إليها في يومنا. تنبع كردّ فعل على كوننا هدف حروب وساحات لها، بكلّ المآسي والتدمير الحاصل في الماضي والحاضر والمستقبل. 

هو الوقت المناسب للتحدّث عن ثورة تربويّة في ظلّ هذه الظروف الصعبة. فعدد كبير من النظريّات التربويّة التي انتشرت حول العالم ظهرت خلال الحروب أو بعدها، فحوّلت المأساة إلى فرصة حقيقيّة، وهذا ما نتساءل حوله هنا.

 

الحروب وارتباطها بالنظريّات التربويّة في العالم

تعليم والدورف Waldorf 

تأسّس بواسطة رودولف شتاينر "Rudolf Steiner" في أعقاب الحرب العالميّة الأولى. طُوِّر هذا التعليم  لمعالجة الاضطرابات الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي سبّبتها الحرب. وهو تعليم يركِّز على التنمية الشاملة، بدمج العناصر الفنيّة والعمليّة والفكريّة. 

بيداغوجيا فرينيه Freinet

طوّرها المربّي الفرنسيّ سيليستين فرينيه "Célestin Freinet" بعد الحرب العالميّة الأولى، انطلاقًا من تأثير الحرب في المجتمع. ركَّز على التعلّم التعاونيّ، والتعليم التجريبيّ، والمشاركة الديمقراطيّة في الفصل الدراسيّ.

نهج ريجيو إميليا Reggio Emilia

بدأ هذا النهج في التعليم المبكر في أعقاب الحرب العالميّة الثانية في بلدة ريجيو إميليا في إيطاليا سنة 1945، حيث تعاون المربّي لوريس مالاجوتسي "Loris Malaguzzi" مع المجتمع المحلّيّ لإنشاء نوع جديد من المدارس التي تحمل فكرًا جديدًا. فالرغبة في إنشاء نظام تعليميّ متطوّر يركِّز على الطفل ويعزِّز الإبداع والتفكير النقديّ والتعاون، كانت الدافع وراء هذا المشروع. ارتكز عمل ملاجوتسي إلى أهمّيّة النظر إلى الأطفال باعتبارهم أفرادًا قادرين وذوي كفاءة، وروّج لفلسفة تعليميّة متجذّرة في احترام إمكانات الطفل ودوره في عمليّة التعلّم. وقد اكتسب هذا النهج، منذ ذلك الحين، اعترافًا دوليًّا، واستمرّ تأثيره في التعليم المبكر في العالم كلّه.

تعليم السلام

بعد الحرب العالميّة الثانية، وبعد الحروب العرقيّة والطائفيّة والأهليّة، كان هناك دفع كبير نحو تعليم السلام. هدف هذا التعليم إلى معالجة صدمات الحرب، وتعزيز السلام، ومنع الصراعات المستقبليّة بالتعليم. من أهمّ المؤثّرين في هذا المجال كورت هان "Kurt Hahn" الذي كان تربويًّا رائدًا، وأسّس عدّة مدارس، منها كلّيّات العالم المتّحد "UWC". كما ركّزت فلسفته التعليميّة على التعلّم التجريبيّ، وتطوير الشخصيّة، وخدمة الآخرين، بهدف تعزيز الصمود والقيادة وشعور الطلّاب بالمواطنة العالميّة. ترك نهجه المبتكَر تأثيرًا دائمًا في التعليم، مروّجًا فكرة أنّ التعلّم يتجاوز الأكاديميّين، ليشمل النموّ الشخصيّ والمسؤوليّة الاجتماعيّة. واحدة من مدارس كلّيّات العالم المتّحد موجودة في "Mostar" في البوسنة والهرسك، والتي تأسّست بعد الحرب الأهليّة، وتركِّز على تعليم جميع الطوائف والأعراق، فضلًا عن اهتمامها بالانفتاح واحترام الآخر.  

ضمن مؤسّسات تعليم السلام نذكر كذلك منظّمة "Maison Shalom" التي أسّستها مارغريت بارانكيتسي "Marguerite Barankitse"، وهي مربّية من بوروندي. وهي منظّمة مجتمعيّة تهدف إلى دعم الأطفال المتأثّرين بالحرب الأهليّة في بوروندي، قدّمت التعليم والرعاية الصحّيّة والتدريب المهنيّ لآلاف الأطفال؛ ممّا عزّز لديهم الشعور بالأمل والقدرة على الصمود. تؤكِّد جهودها على قوّة التعليم التحويليّة في إعادة بناء المجتمعات وتعزيز السلام؛ ممّا يجعلها شخصيّة محوريّة في مجال الإصلاح التعليميّ والاجتماعيّ في المناطق المتأثّرة بالنزاعات. فتحت حديثًا مدرسة في روندا تؤمّن التعليم مجّانًا لثلاثين طفلًا لاجئًا، وتدمجهم مع الأطفال الآخرين، من دون تفرقة بين لون ودين وعرق.   

 

محاولات تربويّة صغيرة في الوطن العربيّ

لا أعرف كيف أبدأ هذه الفقرة ومن أين؟ فكلّ الحروب في البلدان العربيّة المستمرّة منذ عقود لم تنتج فكرًا جديدًا، أو ثورةً تربويّة تفرض نفسها وتنتشر وتحقّق تغييرات بنيويّة في المجتمعات. اقتصر الأمر على المبادرات الخجولة والفرديّة التي تصارع للبقاء وتنمو في الظلّ. لا يُسلَّط الضوء عليها كثيرًا، وإذا سُلِّط فيكون لرفع العتب. فأولويّات الإعلام العربيّ ليست التربية والتعليم، إنّما الترفيه والفن.  

سأشكر منهجيّات وكلّ من يعمل خلف الأضواء لفسح المجال أمامنا للتعبير عن أصواتنا، وعن مشكلاتنا وواقعنا التربويّ الصعب الذي نمرّ فيه. فمنهجيّات خصّصت مدوّنة تحمل اسم "مدوّنة غزّة"، لتنقل وجع المدرّسين والمدرّسات والطلبة تحت العدوان القائم منذ ما يقارب السنة. وبالبحث عن مبادرات أخرى فرديّة، أو ضمن جمعيّات تحاول أن ترسم البسمة في ظلّ هذا الظلام الذي نعيشه، وجدت بعض المحاولات، والتي لا أشكّ بأنّ عالمنا التربويّ العربيّ يزخر بالكثير من هذه المبادرات الفرديّة، ولكن، كما أسلفنا، لا يمسّها الإشهار والإعلام. 

أبدأ من الأردن مع جمعيّة "تغيير" التي تأسّست سنة 2010، هي جمعيّة أردنيّة مستقلّة وغير ربحيّة، مسجّلة ضمن اختصاص وزارة الثقافة، وهي المظلّة التي يُنفَّذ باسمها برنامج "نحن نحبّ القراءة". تهدف جمعيّة "تغيير"، بتنفيذ برنامج نحن نحبّ القراءة، إلى تعزيز دافع حبّ القراءة من أجل الاستمتاع بين الأطفال، حيث يدرِّب البرنامج رجالًا ونساءً وشبابًا من المجتمع المحلّيّ على كيفيّة القراءة الجهريّة، وعقد جلسات قراءة مستمرّة للأطفال في الأماكن العامّة في أحيائهم. كم نحن بحاجة إلى تلك المبادرات التي تزرع حبّ القراءة، ولا تربطه بجوائز مادّيّة أو مسابقات.  

أمرّ بفلسطين المحتلّة ومفاهيم المجاورة والتعليم المجتمعيّ التي تبنّاها الأستاذ منير فاشة، والذي يشدِّد على أهمّيّة تعليم مهارات الحياة. وبسماع ما قاله في برنامج "TED Ramallah" تفهم شيئًا من مفهوم التعليم المجتمعيّ، وكيف نفيد من العلوم الموجودة بالممارسة الحياتيّة، بعيدًا عن الانطواء تحت راية "المؤسّسة" و"النموذج"، وما تشبيهه الصفوف بقنّ الدجاج، حيث يُحشَى الطلّاب بالمعرفة كما يُحشَى الدجاج بالطعام للحصول على بيض وفير، إلّا دلالة على أصالة هذا التوجّه التعليميّ. 

وبالطبع، لا يمكن أن ننسى معلّمات غزة ومعلّميها، والذين سمعنا أصواتهم عالية في "مدوّنة غزّة"، وما شكّلوه من تعليم قائم على رؤية الحاجات اليوميّة، والموارد المتوفّرة، والإرادة التي لا تلين. وأذكر منهم، على سبيل المثال، المعلّمة أسماء رمضان مصطفى والمعلّمة ميسون أبو موسى والمعلّمة هداية جميل البحيصي. تربويّات يعملن ضمن ظروف غير إنسانيّة لنشر العلم والمعرفة، من دون استسلام. هذه الروح المقاومة التي ترفض اليأس والاستسلام تؤسّس برأيي لتعليم قادم مختلف ومغاير.  

وأذكر في لبنان بعض المبادرات التي تركِّز على اللاجئين، مثل "مركز مدى" و"حافلة المرح"، والتي تنشر العلم ومساحات اللعب للأطفال الذين سُلبت أحلامهم وولدوا داخل خيم النزوح.  

وأعرف أنّ هناك الكثير من المبادرات التي تنطلق من رحم المعاناة، في تونس وسوريا واليمن والسودان وغيرها، من المناطق التي جرفت الحرب فيها كثيرًا من المؤسّسات. فكانت هناك مبادرات مغايرة تنطلق من المجتمع وحاجاته، لا بدّ وأن يأتي نهار ونسمع أكثر عنها. 

 

الحروب مستمرّة، فكيف نتجنّبها؟ 

السؤال الذي أبحث عن إجابته باستمرار، لماذا الحروب؟ كيف نستطيع أن نتجنّبها؟ هل ذلك قدر؟ هل الحياة على الأرض تعني حروبًا ودمارًا؟ هل هذه طبيعة الإنسان؟  

ولأنّي أعمل في مجال التربية والتعليم أربط الإجابة بالمدارس والمناهج. هل فعلًا المناهج والمدارس هي الحلّ؟ أم ربّما هي سبب رئيس للمشكلة؟ 

هيّا نلقي الضوء على بعض المشكلات التي نواجهها في مدارسنا، ونفكِّر بحلول قد تساعد على خلق عالم أفضل نعيش فيه بسلام: 

 

Photo

 

هذه جولة سريعة حول بعض المشكلات التي تواجه مدارسنا، نكتشف فيها أنّنا نعدّ أجيالًا جديدة تتصارع وتقتل بعضها لأنّها، ببساطة، كبرت من دون أن تتعرّف إلى الآخر وتحترمه، ولأنّها تعتقد بأنّها على صواب والباقون ضلّوا الطريق. هذه الأجيال تكون كذلك عرضة للتدخّلات الأجنبيّة المباشرة بالقوّة، والتدخّلات الثقافيّة التي تغزو مناطقنا تحت شعار "فرِّق تسد"؛ فرِّق اللون والطائفة والعرق والدين... عندما ينمو الجيل مستهلكًا، يحفظ من دون أن يحلّل أو ينتقد، فمن السهل أن يكون فريسة الأقوياء.  

في مناهج البلدان العربيّة نجد غياب الرؤية والتجديد ومواكبة التطوّر، ليس التكنولوجيّ فحسب، بل تطوّر الأحداث. نستورد كذلك المناهج الأجنبيّة ونعلّبها بالشكل الذي نريد، لتستمرّ دوّامة العنف والموت.  

كما تلاحظون، أبحث عن مدرسة تنمّي مهارات التفكير الناقد، وتربط الواقع بعمليّة التعلّم والتعليم؛ أبحث عن مدرِّس لا يخاف السلطة القائمة فوق رأسه، أو المجتمع الرافض إعادة النظر في الأفكار والثوابت؛ أبحث عن مدرِّس أُعِدّ ليناقش الموضوعات الساخنة ويركِّز على البحث والتساؤل داخل فصله، ويستطيع أن يطرح أسئلة التفكير الناقد ويناقشها مع طلّابه:  

1. متى تقاوم؟ ولماذا؟ 

2. ما دوري، باعتباري إنسانًا، وقت الحرب؟  

3. لماذا تستمرّ الاحتفالات وقت الحروب؟ 

4. ما معنى أن تفقد كلّ أفراد عائلتك وتكون أنت الناجي الوحيد؟ 

5. ما الدروس التي نتعلّمها خلال الحروب؟ 

6. كيف نمنع الحروب؟  

7. كيف نخبر الأجيال القادمة عمّا يحصل؟  

8. أيّ صورة ينقل الإعلام عن الحروب؟  

 

في الوطن العربيّ حوالي 6 ملايين مدرِّس. وبالتأكيد، عدد كبير منهم يشعر بالإحباط والحزن واليأس من المشاهد اليوميّة التي ننشرها على وسائل التواصل الاجتماعيّ، عن المجازر والدمار والظلم والإحباط والخذلان الذي يراودنا. نردّد باستمرار: على التعليم أن يرتبط بالواقع، فكيف نستمرّ بالمناهج نفسها والحرب مشتعلة وتطرق جميع الأبواب؟ ماذا سنخبر الأجيال القادمة؟ كيف نوثِّق ماذا يحدث؟

لتكن هذه الحرب ثورة على المناهج المعلّبة كلّها التي تقيّد الحرّيّة والتفكير الناقد. لنبدأ من الآن بالتفكير بقصص الأطفال التي سنكتبها، وبالمتاحف التي ستخلّد ذكرى الشهداء، وبالأفلام الوثائقيّة المبنيّة على قصص حقيقيّة، وبالمناهج التي ستدرَّس. لتكن هذه الحرب فرصة لتغيُّر نحو عالم أفضل نعيش فيه بسلام واحترام.  

 

* * *

لتكن هذه المقالة وهذا العدد من منهجيّات فرصة لكلّ معلّم، ولكلّ وزير تربية، للتفكير بالتعليم التحرّري الذي يقدِّم لنا فرصة ذهبيّة لنغنّي مع السيّدة فيروز، ونردّد معها:  

 

"طلعنا على الضو.. طلعنا على الريح  

طلعنا على الشمس.. طلعنا على الحرّيّة"