الانحرافات السلوكيّة الناجمة عن النزوح: دراسة حالة النازحين في غزّة أثناء الحرب
الانحرافات السلوكيّة الناجمة عن النزوح: دراسة حالة النازحين في غزّة أثناء الحرب
2024/12/23
سحر معين درويش | باحثة في المجال التربوي والنفسي-فلسطين

تعدّ الحروب والصراعات أحد أكثر عوامل تفاقم الأزمة الإنسانيّة، والتي تؤدّي إلى نزوح السكّان وتهجيرهم من ديارهم، ما ينتج عنه آثار اجتماعيّة ونفسيّة عميقة. في حالة غزّة، الحروب المتكرّرة والعدوان المستمرّ جعلت النزوح القسريّ واقعًا يوميًّا لمئات الآلاف. يعاني النازحون في قطاع غزّة تحدّيات معيشيّة ونفسيّة هائلة، تنعكس بشكل مباشر على سلوكهم ومجتمعاتهم. هذه الظروف القاسية تسهم في بروز انحرافات سلوكيّة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمآسي النفسيّة والاجتماعيّة التي يعيشها السكّان، وخصوصًا الشباب والأطفال. تسلّط هذه التدوينة الضوء على الانحرافات السلوكيّة الناجمة عن النزوح، مع تحليل العوامل المؤثّرة والآثار طويلة الأمد لهذه الظاهرة. وتداعياتها على المجتمع الفلسطينيّ.

 

النزوح وآثاره النفسيّة والاجتماعيّة 

النزوح يعني فقدان الأمان المادّيّ والنفسيّ، وهو ما يشكّل ضغطًا نفسيًّا هائلًا على النازحين، ولا سيّما الأطفال والمراهقون. في غزّة، ضاعف النزوح القسريّ المعاناة بسبب محدوديّة الموارد، والكثافة السكّانيّة العالية، وانعدام البنية التحتيّة القادرة على استيعاب التدفّق الكبير من النازحين. 

تشير الدراسات إلى أنّ النزوح يولّد إحساسًا بالاغتراب والإحباط، وفقدان الثقة بالمجتمع المحيط. كما يرتبط بزيادة معدّلات التوتّر النفسيّ، والذي يظهر في صور مختلفة مثل العدوانيّة، والانعزال، أو حتّى الميل إلى العنف.

 

طبيعة النزوح وأبعاده في غزّة

منذ سنة 2023، شهدت غزّة موجات نزوح واسعة شملت نحو 400,000 شخص، أجبروا على مغادرة منازلهم نتيجة العمليّات العسكريّة المكثّفة، ما أدّى إلى تفاقم الأزمات المعيشيّة والإنسانيّة. وأدّى حرمان الأفراد من حقوقهم الأساسيّة، مثل الغذاء والمياه والرعاية الصحّيّة، إلى انهيار البنى الاجتماعيّة والنفسيّة للسكّان، مع تسجيل حالات شديدة من الصدمات النفسيّة بين الأطفال والبالغين، ما يُهيئ بيئة خصبة للانحرافات السلوكيّة.

 

تأثير النزوح على الأفراد والأسر

النزوح القسريّ يؤثّر في النازحين من عدّة جوانب: 

1. الصدمات النفسيّة

يتعرّض النازحون إلى صدمات نفسيّة جراء فقدان منازلهم وأحبائهم، إضافةً إلى مشاهد العنف والدمار. هذه الصدمات تؤدّي إلى اضطرابات نفسيّة، منها: 

  • - الاكتئاب والقلق: شعور دائم بالخوف وفقدان الأمان. 
  • - اضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD): كالأرق والكوابيس. 

2. تفكّك النسيج الاجتماعيّ

يدمّر النزوح العلاقات الاجتماعيّة التقليديّة داخل الأحياء والمجتمعات، ما يؤدّي إلى انعدام الدعم الاجتماعيّ ويزيد من شعور الفرد بالعزلة. 

3. ضعف الهويّة والانتماء

فقدان المنزل يترك النازحين في حالة من الاغتراب وفقدان الهويّة، خصوصًا بين الأطفال والشباب، ما قد يدفعهم إلى البحث عن انتماءات بديلة غير صحّيّة. 

 

الانحرافات السلوكيّة الناجمة عن النزوح 

تتفاوت الانحرافات السلوكيّة بين الفئات العمريّة والجندريّة، لكنّها تشمل مجموعة من الأنماط التي ترتبط بالضغط النفسيّ والتغيّرات الاجتماعيّة: 

1. السلوك العدوانيّ

تشير تقارير ميدانيّة إلى أنّ الأطفال والمراهقين النازحين يظهرون سلوكيّات عدوانيّة، نتيجة الإحباط وقلّة الفرص، لتفريغ المشاعر السلبيّة بطرق صحّيّة. في كثير من الأحيان، يتعرّضون إلى اضطرابات، مثل اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، ما يجعلهم عرضة لتصرّفات غير سويّة تجاه الأقران أو أفراد العائلة. 

2. الانعزال الاجتماعيّ 

النزوح يؤدّي إلى تفكّك الروابط الاجتماعيّة، ما يجعل النازحين عرضة للانعزال والانطواء. في مجتمع مثل غزّة، حيث الروابط العائليّة والمجتمعيّة قويّة، فإنّ فقدان هذه الروابط يعمّق شعور الفرد بالضياع والتهميش.

3. الانخراط في سلوكيّات غير قانونيّة

مع تزايد الضغوط الاقتصاديّة والاجتماعيّة، يلجأ بعض الشباب إلى الانخراط في أنشطة غير قانونيّة، مثل السرقة أو تهريب السلع أو العنف الجنائيّ كردّ فعل على الظروف الاقتصاديّة الصعبة، أو لتلبية احتياجاتهم الأساسيّة، أو كوسيلة للتمرّد على واقعهم القاسي. 

4. تعاطي المخدرات

بعض الشباب يلجؤون إلى تعاطي المخدرات وسيلةً للهروب من واقعهم المرير، ما يؤدّي إلى تداعيات اجتماعيّة وصحّيّة خطيرة.

5. تطرّف السلوكيّات والمعتقدات

الضغوط المستمرّة ونقص الدعم النفسيّ والاجتماعيّ، يجعلان النازحين عرضة لتبنّي أفكار ومعتقدات متطرّفة، سواء كانت ذات طابع دينيّ أو سياسيّ. 

6. العنف والجنوح

تشهد مناطق النزوح تصاعدًا في حالات العنف الجسديّ والنفسيّ، سواء داخل الأسرة أو في المجتمع.

7. الاضطرابات السلوكيّة لدى الأطفال

يعاني الأطفال النازحون اضطرابات متعدّدة، مثل فرط الحركة وتشتّت الانتباه، إلى جانب صعوبات في التعلّم نتيجة عدم الاستقرار. 

 

الأسباب المؤدّية إلى الانحرافات السلوكيّة 

1. الظروف المعيشيّة

تعاني المخيّمات التي أُقيمت للنازحين غالبًا اكتظاظًا، وتفتقر إلى الأساسيّات، ما يزيد من حدّة التوتّرات الداخليّة بين العائلات وبين الأفراد أنفسهم. تدهور الأوضاع الاقتصاديّة والتعليميّة وانتشار الفقر، يجعل الشباب عرضة إلى تأثيرات البيئة المحيطة، التي قد تحفّز سلوكيّات غير سويّة.

2. انعدام الأمن الغذائيّ والمعيشيّ

يؤدّي النزوح إلى تدهور الأوضاع الاقتصاديّة، ما يخلق بيئة خصبة للسلوكيّات السلبيّة. 

3. الحرمان التعليميّ

يعطّل النزوح العمليّة التعليميّة، حيث يجد الأطفال صعوبة في الالتحاق بالمدارس أو الاستمرار فيها، ما يزيد من احتماليّة انحرافهم. 

4. التفكّك الأسريّ

أدّى النزوح إلى تدمير العائلات وانقطاع العلاقات الاجتماعيّة الطبيعيّة. الأطفال والشباب في هذا السياق يفتقدون إلى الشعور بالأمان والاستقرار، ما يعزّز لديهم السلوكيّات المنحرفة كالعنف والسرقة. إضافة إلى أنّ فقدان أحد الوالدين، أو العيش في ظروف غير مستقرّة يؤدّي إلى تراجع الرقابة الأسريّة وزيادة السلوكيّات غير المنضبطة.

5. غياب الدعم النفسيّ

يسبّب العيش تحت ظروف النزاع المستمرّ اضطرابات نفسيّة، أبرزها الاكتئاب، واضطراب الكرب الحادّ، وكرب ما بعد الصدمة. ما ينعكس في تصرّفات عدائيّة أو انسحابيّة. وتزيدُ قلّة البرامج النفسيّة والاجتماعيّة المخصّصة لمعالجة آثار النزوح، من احتماليّة تطوّر الانحرافات السلوكيّة.

6. محدوديّة فرص التعليم والعمل

يؤدّي النزوح إلى حرمان الأطفال والشباب من التعليم واستمرارهم في العمل، ما يدفعهم إلى الاعتماد على وسائل غير مشروعة لكسب العيش.

 

التحدّيات والآثار طويلة الأمد 

  • - تدهور الصحّة النفسيّة: النزوح المزمن يزيد من عبء الأمراض النفسيّة. 
  • - فقدان الكفاءات البشريّة: الانحرافات السلوكيّة بين الشباب تحدّ من مساهمتهم في بناء المجتمع. 
  • - تعزيز ثقافة العنف: قد يصبح العنف والانحراف السلوكيّ نمط حياة، ما يعقّد جهود المصالحة وإعادة الإعمار. 

 

التداعيات المستقبليّة

الاستمرار في تجاهل هذه الظاهرة سيؤدّي إلى جيل يعاني نقص المهارات الاجتماعيّة والتعليميّة، مع ميل أكبر نحو الجنوح والعنف. كما قد تمتدّ آثار الانحرافات السلوكيّة لتؤثّر في القيم الثقافيّة والهويّة الوطنيّة.

 

الحلول والتوصيات 

للحدّ من الانحرافات السلوكيّة الناجمة عن النزوح، يجب تنفيذ استراتيجيّات شاملة: 

1. الدعم النفسيّ والاجتماعيّ

ضرورة إنشاء برامج شاملة للدعم النفسيّ للنازحين، تعالج التوتّرات والاضطرابات النفسيّة الناتجة عن النزوح، خصوصًا الأطفال والشباب، لتعزيز قدرتهم على التكيّف مع الصدمات، ومساعدتهم على تجاوزها.

2. إعادة بناء النظام التعليميّ

 التعليم يجب أن يكون في صلب أيّ جهود لإعادة تأهيل المجتمع، من خلال توفير فرص تعليميّة مرنة للنازحين.

3. تحسين الظروف المعيشيّة في المخيّمات

توفير بيئة معيشيّة ملائمة تشمل الوصول إلى المياه النظيفة، والغذاء، والتعليم. 

4. تعزيز التعليم والتدريب المهنيّ

توفير فرص تعليميّة وتدريبيّة ملائمة يمكن أن تسهم في إعادة تأهيل الشباب النازحين، ومنع انجرافهم نحو السلوكيّات السلبيّة. 

5. تعزيز التوعية المجتمعيّة

تفعيل دور المجتمع المدني في تقديم ورش عمل وبرامج تدريبيّة، تسهم في دمج النازحين مع المجتمع بشكل صحّيّ. 

6. إعادة بناء المجتمعات

إنشاء مراكز اجتماعيّة تسهم في تعزيز التماسك الاجتماعيّ، وإعادة بناء العلاقات داخل المجتمعات النازحة. 

7. تمكين الأُسر

توفير دعم مادّيّ ومعنويّ للأسر النازحة لتخفيف الضغوط الاقتصاديّة والاجتماعيّة عنها. 

8. دعم الشباب وتوفير الفرص

دعم العلاقات الاجتماعيّة عبر مبادرات تطوعيّة، وتوفير فرص عمل للشباب وتعليم للشباب النازحين لتمكينهم من بناء مستقبل مستدام. 

 

***

النزوح في غزّة نتيجة الحروب المستمرّة ليس مجرّد أزمة إنسانيّة، بل تحدٍّ متعدّد الأبعاد يؤثّر في البنية الاجتماعيّة والنفسيّة للمجتمع بأسره. تتجلّى في انتشار الانحرافات السلوكيّة بين النازحين، ولا سيّما الشباب والأطفال.

وتتطلّب معالجة الانحرافات السلوكيّة الناتجة عن النزوح تعاونًا مكثفًا بين الحكومات والمنظّمات الدولية والمجتمع المدنيّ، لتوفير بيئة آمنة ومستقرّة تمكّن النازحين من تجاوز محنتهم والإسهام في بناء مجتمع صحّي ومستقرّ. لا يمكن فصل الحلول عن الجهود المستمرّة لإنهاء النزاع واستعادة حقوق الفلسطينيّين الأساسيّة.

إنّ إعادة تأهيل المجتمع الغزّيّ تبدأ بإعادة بناء الإنسان، وهو ما يستدعي استثمارًا طويل الأجل في الصحّة النفسيّة والتعليم والتنمية الاجتماعيّة، وبناء استراتيجيّات طويلة المدى لتمكين النازحين.

 

المراجع

  • - تقارير الأمم المتّحدة حول النازحين في غزّة.
  • - دراسات ميدانيّة حول الصحّة النفسيّة للنازحين في مناطق الصراع.
  • - مقالات أكاديميّة في مجال علم الاجتماع والصحّة النفسيّة.
  • - تقرير اللجنة الدوليّة للصليب الأحمر حول النزوح الداخلي.
  • - دراسات ميدانيّة لمنظّمة الأمم المتّحدة للطفولة (اليونيسف).
  • - تقرير الأمم المتّحدة لتنسيق الشؤون الإنسانيّة (OCHA) حول النزوح في غزّة.
  • - "الانحرافات السلوكيّة والنزوح في غزّة 2024" (bing.com)
  • - تقرير الأونروا رقم 70 حول الوضع في قطاع غزّة والضفّة الغربيّة، بما في ذلك القدس الشرقيّة.
  • - الهيئة الدوليّة (حشد) تُصدر ورقة حقائق بعنوان "400 يوم من النزوح: تأثير الأوضاع الإنسانيّة الكارثيّة على النازحين في غزّة" – موقع الهيئة الدوليّة لدعم حقوق الشعب الفلسطينيّ (حشد).
  • - "لا نهاية في الأفق: صدمة النزوح المتكرّرة التي يتعرّض لها سكّان غزّة" – أطباء بلا حدود.
  • - "شمال غزّة: بين الموت والنزوح" – هيومن رايتس ووتش.