الأنشطة اللاصفّيّة: منعطف إيجابيّ في حياة المتعلّم
شُكّلت مجموعةٌ مصغّرةٌ لإدارة النشاط، تضمّ مدير المدرسة وعددًا من المعلّمين، وأُبلغ أولياء الأمور بالخطّة التي لاقت ترحيبهم وتعاونهم لحماية أبنائهم. قُدّم شرحٌ مفصّلٌ للمتعلّمين، واختير منهم 56 من جميع الصفوف بالقُرعة، ليشاركوا في المرحلة الأولى من المشرو
الأنشطة اللاصفّيّة: منعطف إيجابيّ في حياة المتعلّم
شُكّلت مجموعةٌ مصغّرةٌ لإدارة النشاط، تضمّ مدير المدرسة وعددًا من المعلّمين، وأُبلغ أولياء الأمور بالخطّة التي لاقت ترحيبهم وتعاونهم لحماية أبنائهم. قُدّم شرحٌ مفصّلٌ للمتعلّمين، واختير منهم 56 من جميع الصفوف بالقُرعة، ليشاركوا في المرحلة الأولى من المشرو
نسرين كزبور | باحثة ومدرّبة تربويّة ومعلّمة رياضيّات- لبنان

تُعدّ الأنشطة اللاصفّيّة في العصر الحاليّ، جزءًا لا يتجزّأ من تجربة التعلّم الشاملة للمتعلّمين، فهي بمثابة فرصٍ تمكّنهم من النموّ والتطوّر، بمعزلٍ عن المقرّرات والمناهج الدراسيّة. تُسهم هذه الأنشطة في تطوير مهارات المتعلّمين وتعزيز المفاهيم لديهم، وتعمل على ربطهم بمجتمعهم وواقعهم، وتكشف عن مواهبهم وقدراتهم، وتنمّي لديهم القيم الإيجابيّة. ومن هذه الأنشطة: العروض المسرحيّة؛ والأندية الطلّابيّة؛ والنشاطات الرياضيّة؛ والرحلات المدرسيّة؛ والمسابقات الثقافيّة؛ والخدمة المجتمعيّة؛ وحلّ المشكلات العلميّة؛ والتطوّع.  

 

الأنشطة اللاصفّيّة ومعالجة بعض السلوكيّات  

بعد توالي الأزمات على لبنان، وتأثّر التعليم بشكلٍ خاصّ، نتيجة تقليص الدوام المدرسيّ لصعوبة الوصول وغلاء المحروقات، اضطرّت المدارس إلى اعتماد سياسة التخلّي عن الأنشطة اللاصفّيّة، واقتصرت خياراتها على النشاطات المُتاحة أثناء ساعات الدوام. في إحدى مدارس لبنان الشماليّ، لوحظ انتشار ظاهرة التنمّر، وفبركة الأخبار والإشاعات، والمشاركة في نشرها من دون التحقّق من صحّتها. لفت هذا انتباه الهيئة الإداريّة والتعليميّة، ودفعها نحو التخطيط لتدارك الأمر، بالاستعانة بجمعيّاتٍ من المجتمع المدنيّ لتقديم الدعم المعنويّ والمادّيّ.    

يُقصد بالتنمّر أيّ سلوكٍ مقصودٍ لإلحاق الأذى الجسديّ أو النفسيّ أو اللفظيّ بالآخرين، يقوم به المتنمّر (الطرف الأقوى) ضدّ الضحيّة (الطرف الأضعف) التي لا تقوى على ردّ الاعتداء عن نفسها، ولا تستطيع الإبلاغ عن هذا الاستقواء في بيئةٍ معيّنةٍ (أبو عياديّة، 2023). ولمكافحة ظاهرة التنمّر، يُستعان بالأنشطة اللاصفّيّة التي تُسهم في تعزيز التعاون والتواصل الإيجابيّ بين المتعلّمين، وبالتالي الحدّ من الظاهرة.  

 

الأنشطة اللاصفّيّة أنشطةٌ يمارسها المتعلّمون خارج إطار الحصص الدراسيّة التقليديّة، تهدف إلى تنمية مهاراتهم الاجتماعيّة، وتعزيز شخصيّاتهم بالعمل الجماعيّ وروح التعاون. تشجّع هذه الأنشطة على الإبداع، وتسهم في تطوير القدرات القياديّة بالتدريب على تنظيم الأنشطة وإدارتها. يشير أبو عزّام إلى أنّ النشاط اللاصفّيّ مجالٌ حيويٌّ يسمح للمتعلّمين بالتعبير عن اهتماماتهم، وإشباع حاجاتهم التي قد يؤدّي إهمالها إلى تحفيز ميلهم نحو التمرّد. كما يساعد على التوجيه التعليميّ والمهنيّ السليم، ويزيد من دافعيّة المتعلّمين إلى التعلّم، ويسهم في معالجة بعض التحدّيات النفسيّة، مثل الخجل والانطوائيّة والعدوانيّة والانحراف. إضافةً إلى ذلك، يعزّز النشاط اللاصفّيّ روح المواطنة لدى المتعلّمين، ويسهم في تحقيق وحدة المجتمع المدرسيّ، ويُتيح لأولياء الأمور فرصة اكتشاف إمكانات أبنائهم ومستوياتهم، ما يدعم العلاقة بين المدرسة والمجتمع (أبو عزّام، 2020). 

 

التحضير للنشاط الملائم 

بعد انعقاد عدّة اجتماعاتٍ داخليّةٍ (جمعت بين المعلّمين والهيئة الإداريّة)، وخارجيّةٍ (جمعت بين ممثّلين عن الجمعيّات وممثّلين عن المدرسة)، لمواكبة المستجدّات والتنسيق مع مختصّين في هذا المجال، ابتُكر نشاطٌ لاصفّيٌّ توعويٌّ، يركّز على تنمية عدّة مهاراتٍ اجتماعيّةٍ وتفكيريّةٍ وتكنولوجيّة. هدف هذا النشاط إلى شرح التنمّر، ومخاطره، وأنواعه، وكيفيّة الوقاية منه. كما شدّد على أهمّيّة التحقّق من الخبر باستخدام وسائل متعدّدة، قبل تأكيده ونشره، محذّرًا من مخاطر فبركة الأخبار الكاذبة وتداولها.  

شُكّلت مجموعةٌ مصغّرةٌ لإدارة النشاط، تضمّ مدير المدرسة وعددًا من المعلّمين، وأُبلغ أولياء الأمور بالخطّة التي لاقت ترحيبهم وتعاونهم لحماية أبنائهم. قُدّم شرحٌ مفصّلٌ للمتعلّمين، واختير منهم 56 من جميع الصفوف بالقُرعة، ليشاركوا في المرحلة الأولى من المشروع. لاحقًا، اختير 16 متعلّمًا بالطريقة نفسها، ليتمّ تدريبهم على أن يصبحوا قادةً، ويقوموا بتدريب المتعلّمين الآخرين بأنفسهم.  

 

انطلاق النشاط 

انطلق النشاط بسلسلة تدريباتٍ استهدفت المعلّمين والمتعلّمين، تضمّنت دوراتٍ حول موضوعَيّ التنمّر والأخبار الكاذبة، واستمرّت على مدار شهرين خارج أوقات الدوام المدرسيّ. اختُتمت التدريبات بالاتّفاق على عدّة مبادراتٍ، منها إنشاء صفحةٍ على منصّة إنستغرام تُعنى بموضوع التنمّر، وأخرى تُعنى بموضوع الأخبار الكاذبة، ينشر من خلالهما المتعلّمون القادة والمعلّمون، منشوراتٍ وفيديوهاتٍ تخدم الموضوع المحدّد.  

وفي إطار التدريب العمليّ، قُسّم المتعلّمون إلى أربع مجموعاتٍ، قاد كلّ واحدةٍ منها أربعةٌ من المتعلّمين القادة الذين تلقّوا التدريب مسبقًا. جرت التدريبات في المدرسة خارج أوقات الدوام، بوجود ممثّلين عن المعلّمين مع كلّ مجموعة. واستخدم خلالها المتعلّمون مختبر المعلوماتيّة الذي أُعدّ خصّيصًا لهذا النشاط. استغرقت التدريبات حوالي ثلاثة أسابيع. في الوقت ذاته، تحمّل المتعلّمون القادة مسؤوليّة إعداد محتوى فيديوهات توجيهيّةٍ للمتعلّمين تمهيدًا لتصويرها، بالتنسيق مع المعلّمين والمختصّين.   

 

التغييرات الإيجابيّة على صعيد القادة 

مع انطلاق النشاط، كان المتعلّمون في حالة ترقّب، فهم لا يعرفون شيئًا عن تنفيذ الأنشطة اللاصفّيّة وأهمّيّتها، ولم يتسنّ لهم سابقًا تولّي مسؤوليّاتٍ قياديّة، أو المشاركة في التخطيط لأيٍّ منها، إضافة إلى الإعداد والتنفيذ. في الشهر الأوّل، أظهر القادة المختارون التزامًا كبيرًا بالقوانين المدرسيّة، وحرصًا على تقديم أنفسهم نموذجًا يُحتذى به. كما زادت دافعيّتهم إلى التعلّم، فتحسّنت طريقتهم في الدراسة، وزادت مشاركتهم داخل غرفة الصفّ، وتحسّنت درجاتهم الأكاديميّة بشكلٍ ملحوظ.  

أحد أمثلة هذا التحوّل هو أحمد الذي اعتاد أن يهمل إحدى الموادّ الدراسيّة، اعتقادًا منه أنّها غير مفيدة؛ فكان يتجاهل الشرح، ولا ينجز واجباته المدرسيّة، ويحصل على علاماتٍ متدنّيةٍ في الاختبارات. بعد أن خاض تجربة القيادة، بدأ يربط بين المعارف المختلفة، ويطوّر مهاراته في التفكير، ولا سيّما التفكير الناقد، ما جعله يدرك أهمّيّة كلّ مادّةٍ دراسيّة، وأثرها فيه، وانعكاسها على شخصيّته وعلى المجتمع. كما بدأ يشجّع زملاءه على الاهتمام بجميع المقرّرات الدراسيّة، وعدم إهمال أيٍّ منها، مستندًا إلى حُججٍ واقعيّةٍ من تجربته الذاتيّة.  

 

مرحلة التحضير والتخطيط للفيديوهات 

أظهر المتعلّمون وعيًا وحسًّا بالمسؤوليّة عاليَين أثناء إعداد المنشورات والفيديوهات. بدؤوا أوّلًا بتوزيع المهامّ بينهم، وتحديد عدد الفيديوهات لكلّ موضوع، وخصّصوا لإعداد محتوى كلٍّ منها قائدًا ومتدرّبين. تدرّبوا أيضًا على الإلقاء والتمثيل عدّة مرّاتٍ في المدرسة، لاختيار الأداء الأفضل وتنفيذه، ثمّ انتقلوا إلى مرحلة المونتاج والإنتاج النهائيّ. وصلت الفيديوهات في النهاية إلى المعلّمين لتقييمها، قبل نشرها على صفحات التواصل الاجتماعيّ للمدرسة.  

أغنت هذه المرحلة المتعلّمين بمهاراتٍ اجتماعيّةٍ مثل التعاون، ومهاراتٍ بحثيّةٍ مثل جمع المعلومات وتدقيقها وتوثيقها، وتفكيريّةٍ مثل التحليل ونقد الأخبار والمعلومات، وتكنولوجيّةٍ مثل استخدام أدوات الذكاء الاصطناعيّ لإنتاج الفيديو النهائيّ، ومهاراتٍ قياديّةٍ مثل التنظيم. كلّ هذا انعكس في سلوكهم، وفي ما يمتلكونه من مهاراتٍ يتطلّبها العصر.  

 

مرحلة نشر الفيديوهات 

أظهر المتعلّمون أيضًا قدرًا عاليًا من التنظيم والمسؤوليّة في مرحلة نشر المحتوى الهادف، وأشرف على كلّ صفحةٍ قائدٌ ومتدرّبون، عملوا معًا على إعداد المحتوى، واتّفقوا على نشر أوّل فيديو توضيحيٍّ لأهداف الصفحة. بذل الجميع جهدًا لزيادة عدد المشتركين في الصفحة، خصوصًا بين متعلّمي المدرسة، وصاروا ينشرون فيديو أسبوعيًّا عن موضوعٍ يتّفقون عليه، وينتظرون تفاعل باقي المتعلّمين، وآراءهم بالمحتوى والعمل المنجزين.  

أبرزت هذه العمليّة أهمّيّة الحوار وتبادل الآراء بين المتعلّمين في تعزيز تقبّلهم الآخرَ، وفهم الاختلافات داخل البيئة الواحدة، ما يسهم في تنمية شخصيّة المتعلّم، ويعزّز بناء مجتمعٍ واعٍ ومنفتحٍ على الاختلاف. 

   

الملاحظات الأوّليّة للتجربة 

جسّد هؤلاء القادة نموذجًا مثاليًّا للتعلّم والنظام والمثابرة والمشاركة خلال تلقّيهم التدريبات، إذ رصد معلّموهم وإدارتهم هذا التحوّل في حواراتهم، وأفكارهم، وحماسهم المتزايد لاقتراح الحلول. مع مرور الوقت، تغيّرت طريقة تفكيرهم، وازداد وعيهم بواقعهم وما يحدث من حولهم، وتجلّت محاولاتهم للإسهام في التغيير. تجلّى كلّ ذلك في نقاشاتهم مع زملائهم، وفي تعمّقهم في البحث للوصول إلى المعرفة، وابتكارهم للأفكار والوسائل باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعيّ، ما جعلهم أكثر تأثيرًا في بيئة المدرسة.  

  

آراء معلّمي الفريق أثناء التدريبات 

أشاد المعلّمون بتفاعل المتعلّمين والتزامهم السلوكيّ والعمليّ أثناء التدريبات، وأشاروا إلى أنّ أهمّيّة التدريب تكمن في بناء فكرٍ نقديٍّ لدى المتعلّمين، وفي تحفيزهم على القراءة والبحث، الأمر الذي يعزّز قدراتهم على الابتكار وتنفيذ الأفكار في المستقبل. كما أثنوا على انضباط المتعلّمين ورغبتهم في التعلّم، وعلى قدرتهم على إبداء آرائهم بحرّيّةٍ ومن دون تردّد، وعلى شجاعتهم في اختيار الموضوعات وطرحها.   

لاحظ المعلّمون أنّ التدريب لاقى اهتمامًا كبيرًا لدى المتعلّمين، نظرًا إلى أنّه حاكى مواهبهم وهواياتهم، مثل الصحافة والتصوير.  

 

آراء المتعلّمين  

أدرك المتعلّمون قيمة التدريب وأثره في توطيد العلاقات بينهم. عبّر أحد المتعلّمين عن ملاحظته تطوّرَ زميله، قائلًا: "في بداية المشروع، كان زميلي - المعروف بتفوّقه الدراسيّ وإحرازه المرتبة الأولى في صفّنا - خجولًا جدًّا ويتلعثم في الكلام، أمّا اليوم، فأراه وقد تغيّر جذريًّا، وأصبح جريئًا جدًّا، وبارعًا في مهارة التقديم".  

وأضاف متعلّم آخر قائلًا: "طالما اعتبرنا زميلنا أكثر ذكاءً منّا جميعًا، وأسرعنا تعلّمًا، وكان دائمًا يحاول أن يشرح لنا المسائل على قدر استطاعته. بعد أن جرّبنا طريقة التعلّم من القادة، لمسنا تغيّرًا كبيرًا في طريقته في الشرح، فقد صارت أكثر وضوحًا".  

 

 الأثر العامّ للتجربة  

بمرور الوقت، ومع زيادة الوعي حول التجربة بالنقاش والحوار ونشر المحتوى الهادف، قلّت حالات التنمّر، وازداد الوعي بمخاطره وطرق الوقاية منه. أصبح المتعلّمون أكثر حرصًا ودقّةً في التعامل مع المعلومات ونشرها؛ إذ قام قادة الفريق بنشر أخبارٍ كاذبةٍ بشكلٍ متعمّدٍ، لقياس وعي المتعلّمين بضرورة التحقّق من صحّة المعلومات قبل تصديقها أو تداولها، وفحص أثر التجربة في مجتمع المدرسة، وتمكّنوا من إثبات تطوّر النتائج نحو الأفضل على أرض الواقع.  

في نهاية العام الدراسيّ، أُقيم حفل تخريجٍ مميّزٌ لمتعلّمي صفوف الشهادات الرسميّة بكلّ فروعها، كما تجري العادة كلّ سنة. لكنّ المختلف هذه المرّة أنّ القادة والمتدرّبين هم الذين نظّموا فقرات الحفل بالكامل، وكان لكلّ قائدٍ مهمّةٌ أتمّها بشكلٍ احترافيٍّ، فاهتمّوا بالاستقبال والتنظيم والكلمات والتقديم، بالتنسيق مع لجنة المعلّمين المكلّفة بمتابعة الحفل. ألقى القائد أحمد كلمةً مؤثّرةً، شرح فيها أهمّيّة التجربة وأثرها في بيئة المدرسة، وأثر احتكاكه المباشر بفريق القادة والمتدرّبين وسائر المتعلّمين. 

 

*** 

يمكن القول إنّه لا يمكن للمعلّم أن ينجح في التعليم من دون فهم دوافع المتعلّم وخصائص نموّه. فهذا الفهم هو ما يساعده في تلبية احتياجات المتعلّمين، وتنمية حماسهم للتعلّم.  

أثبتت الأنشطة اللاصفّيّة مكانتها، باعتبارها من أفضل الوسائل التربويّة في فهم مهارات المتعلّمين، وربطهم بواقعهم وبيئتهم، والكشف عن مهاراتهم ومواهبهم، وعلاج بعض السلوكيّات غير المرغوب فيها لديهم. فبإظهار الاهتمام، وبتقديم التوجيه والدعم اللازمَين، يمكن للمعلّم أن يسهم في تعزيز تطوير المتعلّمين ونجاحهم.  

لكن، يبقى السؤال الأكثر أهمّيّة: هل يمكن لأساليب التعليم الحديثة مواجهة التحدّيات التقنيّة والاجتماعيّة في ظلّ العالم الرقمي؟

 

المراجع 

-أبو عزّام، محمّد خالد. (2020). التربية الإعلاميّة. دار زهدي للنشر والتوزيع. 

-أبو عيادية، هبة. (2023). التنمّر في البيئة المدرسيّة مفهومه وآثاره. مجلة جامعة الزيتونة الدوليّة. (10). 119-135.