تستهدف الحروب، في ما تستهدف، مثلّث التعليم: المدرسة مبنى وإدارة ومعلّمين؛ والمتعلّمين؛ والأهل. تصيب أطراف هذا المثلّث بشظايا وندوب، وربّما بأكثر، فتتعطّل العمليّة التعليميّة بنسب كبيرة. وكلّما زاد عمر الحرب، كبرت الخسائر في التعليم، وقلّت أهمّيّته الراهنة لحساب مفاهيم الأمن وتأمين سبل الحياة، والتعامل مع المشكلات اليوميّة المباشرة، وتأجيل ما يمكن تأجيله على فداحته وخطورته.
من هنا نعيد طرح ملفّ التعليم في زمن الحرب، بعد أن كانت منهجيّات قد نشرت ملفًّا شبيهًا في عددها الرابع (2021) بعنوان "التعليم والتعلّم في ظروف النزاعات"، والذي تناول موضوع اللجوء وما اقتضاه من تعديلات في العمليّة التعليميّة، لكنّ المستجدّات من يومها، واستمرار الحروب في وطننا العربيّ من فلسطين إلى السودان واليمن وسوريا ولبنان، ما زالت تفرض مواضيع مرتبطة بالتعليم في زمن الحرب، تستحقّ المزيد من البحث والتأمّل.
ولا يُخفى أنّ الحرب (قل المجزرة) الماثلة أمام أعيننا اليوم في غزّة، كانت من أسباب إعادة طرح هذا الملفّ؛ فما يجري مقتلة وتدمير متعمّد لأشكال الحياة واحتمالاتها المستقبليّة. من هنا، يأتي العضّ على الجرح، وممارسة التعلّم والتعليم وسط هذا الدمار، فعل مقاومة يجترحه الناس المستهدفون: فمع التدمير الممنهج للمدارس والجامعات، تصير مدرسة الخيمة ونشاطات التفريغ في مدارس اللجوء فعل حياة، يواجه فيه الأطفال بأجسادهم الغضّة حشد الدبابات والطائرات وآلات القتل، وينتصرون لأنّ إرادة الحياة لا تُهزم طالما بقيت حياة.
وبعد الحرب، ومن غير تنظير على الناجين منها، نأمل أنّ الناس ستعيد تدبّر حياتها، والتعليم جزء أساس منها. وهذا يستدعي برأينا: إعادة التفكير في إيجاد أماكن مبدعة بديلة للتعليم؛ وتركيزًا على مداواة نفسيّة للعنصر البشريّ، متعلّمين وأهل ومعلّمين؛ ومناهج مستمدّة من واقع الحال، ومن التعليم المجتمعيّ الذي يشكّل رافدًا أساسًا للتطوير الحقيقيّ؛ والمجاورة بمجالاتها المختلفة؛ والاطّلاع على مفاهيم التعليم التحرّريّ الذي يشكّل غوصًا أكبر في شدّ التعليم نحو الحياة واليوميّ والحاجات الحقيقيّة للمجتمع، واصطفاء الأفكار والقيم المستوردة وتعيينها بمعانيها الحقيقيّة الجامعة للبشر.
قالت أسماء مصطفى، المعلّمة الغزّيّة الصابرة، في محاورة العدد المميّزة: نجونا من الموت لكنّنا لسنا بخير! جملة تختصر وحشيّة الحروب على الناس، فالنجاة من الموت لا تعني السلام، والعمل سيكون مضنيًا لإعادة الناس بعد الحرب، إلى أن يكونوا بخير.
في ملفّ العدد نقرأ: مقالًا عن آليّات التعامل مع صدمات الأطفال بعد الحرب، لجمانة حزبون؛ ومقالًا عن التقاطع بين البيئة المدرسيّة ورفاهيّة الطالب في سياق الحرب والتهديد، ومعنى المشاركة في التعلّم الآمن والداعم أثناء الحرب، لجالا رزق؛ وتفاصيل إرشاديّة نفسيّة للاستجابة للجروح غير المرئيّة عند الأطفال؛ لشادي عمّاري؛ وإشارات مهمّة إلى التربويّين تخصّ التعليم في اليوم التالي للحرب، لنورا مرعي؛ وتأمّلات أساتذة سوريّين لاجئين بدورهم، في مدارس اللجوء في لبنان، لرولا قبيسي وجنفياف أوديه؛ ومقالًا يشرح أثر حرب غزّة في مصطلحات الطلبة الفلسطينيّين الجديدة، لمحمّد شبير؛ ونصائح ضروريّة للتعليم بعد الحرب على مستوى المنهاج وتفاعل المعلّمين، لمحمّد الزعبي؛ ومطالعة مهمّة عن صعوبات التعليم في دول اللجوء، لياسمين حسن.
أمّا في المقالات العامّة، فنقرأ: "التعليم التحرّريّ: نحو وعي نقديّ يتحدّى منطق القوّة والقهر "، لنضال الحاج سليمان؛ و"من التعلّم للحياة إلى التعلّم عن الحياة"، لوليد إمبارك؛ و"بوصلة التفكير: فهم الممارسات التربويّة في ضوء نظريّة في علم الدماغ"، لهنادي نصر الله؛ و"تعزيز تدريس الدراسات الاجتماعيّة في مناهج STEAM"، لمروان حسن؛ و"الإشراف التربويّ: من رقابة الأداء إلى دعم تطوّره والمشاركة فيه"، لجميلة الغول. إضافة إلى المقال المترجم و"أصداء الدردشة"، والأبواب الثابتة في المجلّة.
عادة، كلّ عدد جديد نصدره يكون مدعاة بهجة وفخر لنا. لكن، مع صدور عددنا السادس عشر، سيكون جرحنا ما زال نازفًا في غزّة للشهر السادس، وسنكرّر أملنا بتوقّف آلة القتل، وزوال شبح المجاعة عن أهلنا، ووصولهم إلى نوم قرير لا "تكَوبسُه" أصوات الطائرات والقذائف. وفي هذا، تستمرّ "مدوّنة غزّة" في منهجيّات التي أطلقناها مع بداية الحرب، لرفع صوت تربويّينا في غزّة، ونقل صور صمودهم وإيجادهم إبرة الحياة في كومة قشّ الدمار، حتّى تنتهي ضرورتها بضحكة أطفالهم الرافعين إصبعَي انتصار الحياة في وجه الخذلان.