أصبح التعليم عن بعد اختيارًا تربويًّا مكمّلًا للتعليم الحضوريّ. وتبيّن أنّ السلطة التربويّة تراهن مستقبلًا على تعميم هذا الأسلوب البيداغوجّي على كلّ مستويات التعليم، من الابتدائيّ إلى الجامعيّ، بل وإنّ هذا النمط التعليميّ لن يكون فقط خاصًّا بالأزمات، ومنها الأوبئة، وإنّما سيعتمد في برامج الدراسة عامّةً للتخفيف من المعضلات التربويّة خلال الممارسة في الأقسام.
هذا المقال يندرج ضمن هذا السياق، فهو يروم البحث عن بعض الشروط البيداغوجيّة لتجويد التعليم عن بعد، خاصّةً في علاقته بالمقاربات البيداغوجيّة، مثل: الكفايات، والتفكير الناقد، والقيم، في المدرسة المغربيّة. ويتناول التعليم عن بعد ذي الجودة في المدرسة المغربيّة، وكذا فحص الإمكانات التي يمكن أن تساهم في تجويد هذا النمط التعليميّ.
أمّا اختيار هذا النظر، فيستند إلى الدعامة الأولى من الميثاق الوطنيّ للتربية والتكوين التي نصّت بصريح الّلفظ على أنّ من الغايات الكبرى للنظام التعليميّ المغربيّ "تعميم تعليم جيّد في مدرسة متعدّدة الأساليب". والمعنى نفسه أشار له القانون الإطار (51/ 17) بإعلانه في المادّة الثالثة أنّ من بين مبادئ منظومة التربية والتكوين "تعميم التعليم ذي الجودة وفرض إلزاميّته بالنسبة لجميع الأطفال في سنّ التمدرس، باعتباره حقًّا للطفل وواجبًا على الدولة والمجتمع" (الجريدة الرسمية، 2019)، وهذا المعنى هو ترجمة لواحد من الأركان الثلاثة لشعار الرؤية الاستراتيجيّة، والتي هي "الإنصاف والجودة والرقيّ بالفرد والمجتمع" (المجلس الأعلى للتربية والتكوين، 2015).
يظهر إذن من خلال ما تقدم أنّ التعليم في المدرسة المغربيّة له صيغ متعدّدة ووجوه شتّى، كما أنّ تجويده يتطلّب هذا التنويع في الاختيارات التربويّة والمقاربات البيداغوجيّة. هذه الجودة التي عدّها الدستور المغربيّ لسنة 2011 حقًّا، وعمل على جعله دستوريًّا بتصريحه في الفصل 31: "تعمل الدولة والمؤسّسات العموميّة والجماعات الترابيّة، على تعبئة كلّ الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة، من الحقّ في … الحصول على تعليم عصريّ ميسّر الولوج وذي جودة". فماذا يقصد بالجودة التعليميّة عامّةً، وجودة "التعليم عن بعد" خاصّةً؟
مفهوم التعليم الجيّد
تطلّب موضوع "الجودة التربويّة" من السلطة الوصيّة على القطاع إنتاج "المرجعيّة الوطنيّة للجودة في منظومة التربية والتكوين" لتجاوز تضارب التأويلات في تعريفها، وللمشاركة في المعاني الشموليّة والعالميّة لمفهوم الجودة في قطاع التربية والتكوين. من هذا المنطلق، تتوخّى هذه المرجعيّة، إعطاء الانطلاقة لإرساء ثقافة الجودة عبر تطبيق منهجيّة الجودة وتدبّرها بمؤسّسات التربية والتكوين، علمًا أنّ هذه المرجعيّة تتأسّس على ما ذكر في الميثاق الوطنيّ للتربية والتكوين، الذي اهتمّ بالجودة كدعامة أساسيّة من دعائم الإصلاح، بإفراد أحد مجالاته للحديث عن الرفع من جودة التربية والتكوين، واشتمل هذا المجال على ستّ دعامات، ممّا مثّل ثلث دعامات الميثاق، وركّز على "دور المحتوى والمناهج والمكوّنات البيداغوجيّة والديداكتيكيّة لسيرورات التربية والتكوين في تحقّق هذه الجودة"، علمًا أنّ هذا التحقّق له أسس، منها:
الرقمنة في المغرب مدخل إلى تجويد التعليم عن بعد
اعتمدت المغرب على عدد من الآليّات المستمرّة لإدماج تكنولوجيا الإعلام والاتّصال في مختلف مستويات منظومة التربية والتكوين، وهي الآليّات التي تضمّنتها الإصلاحات التربويّة المغربيّة، وهي التي ألحّت على تعزيز إدماج تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات في النهوض بجودة التعلّمات، وتحسين مردوديّتها، وكذا إحداث مختبرات للابتكار، وإنتاج الموارد الرقميّة، وتكوین متخصّصین في ھذا المجال. وهذا التوجّه وقع تبنّيه مع صدور الميثاق الوطنيّ للتربية والتكوين. العائد إلى الوثائق التربويّة والتشريعيّة المؤطِّرة لمنظومة التعليم في المغرب، يجدها غنيّةً بالبنود التي تتحدث عن إدماج الأجهزة التكنولوجيّة الحديثة ضمن الوسائل التعليميّة، وجعلها وسيطةً في التعليم، وهذا ما هدف إليه البرنامج الاستعجاليّ بتوسيعه وعاء التوزيع الخاصّ بالحواسيب في برنامج "جيني" GENIE وغيره. ويتعلّق هذا البرنامج بإدماج تكنولوجيا الإعلام والاتصال في المدرسة المغربيّة وإنعاش الرقميّات، بتوفير قاعات للرقميّات وتزويد المؤسّسات بشبكة الإنترنت والحواسيب.
وقد أُطلق على ظاهرة هذا الانتعاش الرقميّ في المدرسة المغربيّة مسكوكةُ "اليقظة الرقميّة"، علمًا أنّ هذا المفهوم مستعار من "السوق البيداغوجيّة المغربيّة" (المجلس الأعلى للتعليم، 2010)، إذ نجد ضمن منشورات الموقع الرسميّ لاستخدام الموارد الرقميّة في مجال التعليم المغربيّ نشرةً إلكترونيّةً تحمل اسم "اليقظة الرقميّة". وهي التي تلازم تجربة "المدارس الذكيّة" التي أطلقتها وزارة التربية الوطنيّة منذ 2014. ولآليّات تجويد "التعليم عن بعد" بعد توطّنه في المدرسة المغربيّة شروط عدّة، سنمرّ عليها في القسم الآتي.
بعض الإمكانيّات لتجويد التعليم عن بعد في المدرسة المغربيّة
حدّدت وزارة التربية الوطنيّة المغربيّة في ملحق لمذكرتها الوزاريّة مجموعة من الشروط التي يعوّل عليها في تجويد دروس التعليم عن بعد سواءً من جهة المضامين، أو منهجيّة الاشتغال، أو إنتاج الدروس الرقميّة، أو نشرها عبر البثّ التلفزيونيّ أو عبر المسطّحات الرقميّة.
إضافةً لهذه الشروط، يمكن اقتراح بعض الإمكانيّات التي يفترض بها تجويد التعليم عن بعد، ومن ذلك:
- لا ينبغي للتعليم عن بعد أن يغفل، في أيّ من مراحله، العلاقات الإنسانيّة في الأبعاد التي تتعلّق بشخصيّة المدرّس والمتعلّم، خاصّةً في بعديها الاجتماعيّ والنفسيّ. فخلال سيرورة هذا التعليم ينبغي استحضار المتعلّم الإنسان. هذا المُعطى أشار إليه الميثاق الوطنيّ للتربية والتكوين في المادة 119. فقد نبّه إلى أنّه "لا يجوز بأيّ حال من الأحوال أن يقع أيّ خلط بين السعي إلى هذا الهدف، وبين التصوّر الشامل للوسائط التكنولوجيّة وكأنّها بديل عن العلاقة الأصيلة التي يقوم عليها الفعل التربويّ، تلك العلاقة الحيّة القائمة بين المعلّم والتلميذ والمبنيّة على أسس التفهّم والاحترام".
- توفير العدّة الكافية للتنفيذ الجيّد للتعليم عن بعد. فقد تبيّن من خلال اعتماد هذا النمط التعليميّ، في إطار الاستمراريّة البيداغوجيّة، أنّ الكثير من المتعلّمين، في المستويات كلّها، لم يتمكّنوا من الاستفادة بالصورة المطلوبة من هذه الخدمة رغم جهود الوزارة في تيسير الولوج إلى هذا التعليم سواءً عبر القنوات التلفزيونيّة أو المسطّحات الرقميّة أو وسائل التواصل الاجتماعيّ. ولقد تبيّن أنّ مجموعةً من المتعلّمين لا يملكون الوسائل الرقميّة أو يتعذّر عليهم الولوج إلى المواقع الإلكترونيّة، خاصّةً في المناطق القرويّة البعيدة أو في المناطق ذات الهشاشة. لهذا فالإنصاف وتكافؤ الفرص يقتضيان الاستمرار في ورشات تحسين الموارد الرقميّة وتعميمها، لأنّ الرقميّات مدخل ضروريّ لتجويد التعليم عن بعد.
- الاستثمار في تكوين العنصر البشريّ القائم على تجربة التعليم عن بعد وتأهيله، سواءً بالتكوين الأساسيّ للمدرّسين في مراكز التكوين، أو عبر التكوين المستمرّ. وينبغي أن يشمل التكوين والتأهيل معارف في التقنيّات الجديدة للإعلام والتواصل والرقميّات، وكلّ ما يفيد في الموارد التكنولوجيّة لتطوير التعليم عن بعد وتجويده. ويستحسن أن يُجمع بين التكوين الرقميّ والتكوين البيداغوجيّ في جعل أنشطة التعليم عن بعد إجرائيّةً. ورغم أنّ الوزارة بدأت هذه التجربة، فإنّ الرأسمال البشريّ مازال يحتاج إلى التكوين في المستجدّات الرقميّة والبيداغوجيّة المرتبطة بالتعليم عن بعد.
- منح الثقة للتعليم عن بعد بوصفه خيارًا تربويًّا مكمّلًا للتعليم الحضوريّ، لا بديلًا له. وهذا يتطلّب فتح قنوات النقاش العموميّ لإقناع المتشكّكين في جدواه، سواءً من فئة المدرّسين وأولياء الأمور، أو من فئة المتعلّمين، بأهميّته ودوره في التكوين.
- تجنّب حصر عمليّة التعليم عن بعد في المعرفة فقط، إذ ثمّة كفايات تلزم كلّ نمط تعليميّ، منها: القيم، والتوجّهات النفسيّة، والتواصل، وطرق التفكير السليم بما فيه الحسّ الناقد، والتفكير الإبداعيّ، ونهج التقصّي. فالمعرفة وحدها ليست كافيةً، إذ يلزم التنويع في المقاربات البيداغوجيّة، والاستفادة من البيداغوجيّة الفارقيّة، وبيداغوجيّة الخطأ والإدماج... إلخ.
- عدم السقوط في التعليم المتحذلق le pédant، أي ملء الرؤوس بالأفكار والمعلومات دون القدرة على استخدامها. كذلك، تجنّب خيار التخزين والشحن للأذهان. إذ إنّ المراهنة على الكمّ في عمليّة التعليم والتعلّم تعوق تحقيق الجودة في "التعليم عن بعد". هذه الجودة التي تتطلّب تعليمًا ذا جودة على مستوى المضمون والمنهج. وتعوق تكوين مواطن حاذق وتعليمه ليكون ذا كفايات تؤهّله للاندماج الإيجابيّ في الحياة.
- تبنّي مقاربات جديدة في التقويم عن بعد تتناسب مع التقويمات الدوليّة مثل "تيمز" و"بيزا"، التي تعتمد معايير دوليّة مشتركة للجودة عالميًّا. وهذا يتطلّب تجاوز عداد التعليم عن بعد مجرّد وسيلة لإعداد الطالب للاختبار فقط. التقويم عن بعد عليه أن يكون فقط وسيلةً لتجاوز التعثّرات والأغلاط التعليميّة، ووسيلةً للدعم والمعالجة.
خلاصة
محصّلة ما سبق أنّ المدرسة المغربيّة تراهن على تعميم تعليم و"تعليم عن بعد" جيّدين. هذه الجودة لن تتحقّق إلّا في مدرسة جديدة مفعمة بالحياة، بفضل نهج تربويّ نشط، يتجاوز التلقّي السلبيّ والعمل الفرديّ إلى اعتماد التعلّم الذاتيّ، والقدرة على الحوار والمشاركة في الاجتهاد الجماعيّ. كما أنّ جودة التعليم عن بعد لن تتحقّق إلّا بإعادة النظر في المقاربة البيداغوجيّة، وفي الطرق المتّبعة في المدرسة، للانتقال من منطق تربويّ سلبيّ يرتكز على المدرّس وأدائه ويكون مقتصرًا على تلقين المعارف للمتعلمين، إلى منطق آخر إيجابيّ يقوم على تفاعل هؤلاء المتعلّمين، وتنمية قدراتهم الذاتيّة، وإتاحة الفرص أمامهم في الإبداع والابتكار، فضلًا عن تمكينهم من اكتساب المهارات، والتشبّع بقواعد التعايش مع الآخرين، مع الالتزام بقيم الحريّة والمساواة، واحترام التنوّع والاختلاف.
المراجع:
- الجريدة الرسمية (2019). قانون - إطار رقم 17.51 يتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي.
http://www.uiz.ac.ma/sites/default/files/doc/loi-cadre-51-17-AR.pdf
- المجلس الأعلى للتربية والتكوين في المملكة المغربية (2015). الرؤية الاستراتيجيّة (2015/2030).
- المجلس الأعلى للتربية والتكوين في المملكة المغربية (2010). دفاتر التربية والتكوين.