معنى التعليم التحرّريّ في سياق غزّة اليوم
معنى التعليم التحرّريّ في سياق غزّة اليوم
أحمد عاشور | مدير مكتب مؤسسة تامر في غزة-فلسطين

يبدو الأمر عصيًّا على التخيّل، حين تنفض عن نفسك رماد القصف، وتمسح عرقك في أحد صباحات آب أو تمّوز، عائدًا من طابورِ الماء، ثمّ تقرّر ارتداء أحد قميصَين تمتلكهما؛ قد يكونُ الأوّل هوَ الذي خرجتَ فيهِ وقتَ أُجبرتَ على مغادرة المنزل، والثاني وجدتهُ صدفةً في شارع المدينة الرئيسيّ الذي تحولّ إلى سوقٍ كبيرة يبحثُ فيها النازحون عن ضالّتهم: غذاء أو ملابس واحتياجات عديدة أخرى، بعد أن تركوا خلفهم كلّ ما امتلكوهُ يومًا.

يبدو الأمرُ ممكنًا حين تزيحُ قماش الخيمة، فيلتفّ حولك أطفال المخيّم، عائدين من مهمّاتهم الجديدة تاركين طفولتهم خلفهم. فتقرّرُ نسيان أرق الليلة الماضية وخوفها، لتترك خلفك أعباء خسارتك، وصور من فقدتَ، من زملاء، وأفراد العائلة التي لا تغيب عنك، ولا يمحو مرارة فقدها الوقتُ... فتكون أنتَ الأوّل.

سوف يسجَّلُ في تاريخ الإبادة عندما يُكتب، وحين سنتحدّث عن تجربة التعليم في غزّة، أنّ المبادرين المجتمعيّين كانوا أوّل من بحث عن الأمل فوجدهُ، وبدأت معهُ العمليّة التعليميّة من جديد في قطاع غزّة. بادرَ  الشباب، ولحقت بهم المؤسّسات والوزارات ومنظّمات الأمم المتّحدة. لم يكن الأمر مُتخيَّلًا إلى أن فعلوه. كانت التقاطة الأمل من الشباب، هي ذاتها لحظة التأسيس لزمنٍ جديد: مرحلة ستعيد مع الوقت صياغة المفاهيم وتعيد تشكيلها، على قاعدة أنّه عند تناول ما حدث، فإنّ الفرضيّات التي قامت عليها النظريّات السابقة، والدوافع التي دفعت المفكّرين المعروفين، كانت مختلفة. وأنّ الوصول، وتفسير الحقيقة الموجودة اليوم، بحاجة إلى منهج ونهج مختلفين كذلك.

لم تأتِ المبادرة إلى هذا الفعل، سوى نتيجة طبيعيّة لمجتمع فلسطينيّ أصيل، حمى نفسه بنفسه من الفناء. مدّ المجتمع يدهُ لنفسهِ، وتفوّق على أقصى تصوّراتنا وآمالنا حين سخّرنا العمل المجتمعيّ ليخدم فكرة الترابط والنسيج المجتمعيّ الفلسطينيّ. ولولا هذا التكوين الأصيل الذي استند إلى قيم المجتمع، لأفنتهُ الإبادة.

 

تحت نيرانِ حرب الإبادة التي تحرقُ جلد الفلسطينيّين في غزّة، فقد الفلسطينيّون بيوتهم مرّةً أخرى. وتعرّضت فكرة البيت ورمزيّته في هذه الأرض - من جديد - إلى التهديد والفناء؛ فتاريخ غزّة تعرّضَ - والشواهد الحاضرة دالّة على ثلاثة آلاف سنة منهُ - إلى التدمير المتعمّد، ليغدو الفلسطينيّ بلا بيت يحتويه، وبلا تاريخ ملموسٍ يدلُّ على وجودهُ. وهذا التاريخ والحضور الممتدّ سيكونان مهمّين لأجيالِ لم تولد بعد، وعلينا توريثها الهويّة.

يُقتل الفلسطينيون في غزّة جماعات وأفرادًا. تسقط أسقف البيوت على رؤوس الأطفال، وتُكتب على الجدران أسماء من بقوا تحت أنقاض الركام. يحدثُ هذا أمام الشاشات ومنصّات التواصل، بل ويُسمعُ صوت كلّ تلك الانفجارات، ويُرى وهج ضوئها في مدن ودول مجاورة. تجري إعادة تشكيل الجغرافيا، ويُحصرُ منذ حوالي السنة ما يقربُ من مليوني إنسان، في ما نسبتهُ عشرة بالمائة فقط من مساحة قطاع غزّة، وفي أصعب ظروف إنسانيّة ممكنة في شريطٍ ضيّقٍ ملاصقٍ لشاطئ البحر... البحر الذي شكّل ملاذًا آمنًا، وصديقًا حميمًا لأهل غزّة طوال سنوات. وجودهما جنبًا إلى جنب جعلهما جيران، وأبناء حكايةٍ واحدة شاهدة على كلّ الجيوش التي مرّت، والممالك التي قامت وانتهت أمامهما. لم يعد أهل غزّة يشعرون أو يرون البحر. لم يعد باستطاعتهم الوصول إلى شاطئهِ الذي امتلأ بالأقمشة وما يشبه الخيام، والتي وصلت حتّى آخر نقطةٍ في لسانِ الميناء، أو في حلقهِ تحديدًا: فهو بطن حوتهم، وهُم عصاه على الطرف الآخر، في مدينة خانيونس، فيبدو المشهد وكأنّهُ خرج لتوّهِ من متحفٍ للفنّ السرياليّ!

ولأنّ التعليم، مكانًا وفكرةً، جاءَ في قلبِ النيران، لم تعد هناك مدرسة واحدة صالحة للاستخدام؛ إمّا لأنّها تعرّضت إلى الاستهداف المباشر والتدمير، أو لأنّها ومنذ اللحظة الأولى، تحوّلت مأوى للنازحين. تأوي كلّ مدرسة الآلاف داخل جدرانها وفصولها التي اعتادت اكتظاظ الطلّاب فيها، في فصلٍ دراسيّ عاديّ كانت ساعات الدوام تُضجر الأطفال فيه، وتعقيد الرياضيّات. ثمّ وجدوا أنفسهم فجأةً، مجبرين على النزوح بكلّ مآسيه وتفاصيله، ليعلقوا داخل جدران المدرسة: فالعودة إلى البيت التي كانوا ينتظرونها بشوقٍ بعد ستّ ساعات من الدوام، لم تحدث منذُ أحدَ عشر شهرًا. 

 

وفي الواقع، لا يمكن الحديث عن التعليم من دون الحديث عن سياقه. وفي ظلّ سياقٍ تعرّض إلى التفتيت والتفكيك، وفي وقت أصبحت فيه كلّ عناصر المنظومة التعليميّة غير قائمة، ابتداءً من السياسات التي تحكم العمليّة وتصوغ الرؤية الوطنيّة. غاب صنّاع القرار عن المشهد، وأسهم غياب المنظومة وغياب أيّ تواصل معها، في ترك الأسئلة مشرّعة وحرّة.

انتشرت المبادرات التعليميّة في كلّ أنحاء قطاع غزّة، على رغم الموت الذي يغطّي القطاع كسحابة، والنزوح المتكرّر هربًا من الموت: نزوح يحتوي في تفاصيله كلّ أنواع القهر المتخيّلة، وظروف العيش المفتقد إلى الكرامة الإنسانيّة، وانتشار الأوبئة والأمراض وأعراض سوء التغذية، والمجاعة عند الصغار والكبار التي غيرت حتّى الملامح، وأضافت سنوات جديدة تظهر على الوجوه.

من الخطأ الحكم، أو محاولة تصنيف ما يحدث الآن، في ما يتعلّق بالتعليم. ولكن، يبدو جليًّا أنّ مفهوم التحرّر بات يبحثُ عن ثوبٍ جديد في سياق مثل غزّة؛ فلطالما أثّرت التجربة الفلسطينيّة في هذه المفاهيم، وفرضت أبعادًا جديدةً لها، وأضافت معاني مختلفة. وفي أحيان كثيرة كانت هذه التجربة سبّاقة، مثل تجربة خليل السكاكينيّ التي سبقت تجربة باولو فريري بحوالي نصف قرن. فكلّ النظريّات التي قامت على مفهوم التحرّر، سواء على صعيد المجتمع أو تلك الخاصّة بالتعليم بوصفه مفهومًا، قامت ونشأت في بيئات مختلفة، عانت أنظمةَ حكم اعتمدت التجهيل أداةً لاستمرار حكمها. ودعا منظّروها ومفكّروها إلى الاشتباك معها، بتحرير التعليم وخلق بيئة تُشجّع على السؤال وعلى التفكير، في مواجهة الأفكار المطلقة والمُكبّلة والحقائق السائدة. بحثت هذه المبادرات – ابنة بيئتها - عن سؤال الجدوى: جدوى وجود مدرسة من الأساس، في ظلّ بيئة استهلاكيّة غير منتِجة، تعيد ترديد ما يقولهُ الكبار، وتخلقُ سورًا لا يُسمح للطفل بتخطّيه، ليس في المدرسة فقط، بل في بُنية الأسرة نفسها.

 

ما جدوى أيّ عمليّة تعليميّة تربويّة لا يكونُ فيها الطفل شريكًا؟

أعادت غزّة طرح هذه الأسئلة، ووضعت المفاهيم أمام تحدّيات جديدة، أعادت التعليم إلى كونهِ ما نجهل لا ما نعرف... عاد التعليم في غزّة بالمبادرات المجتمعيّة ليكون تعليمًا شعبيًّا؛ بالمبادرين وأولئك الذين يسهّلون لهم الطريق، ويجمعون لهم الحطب ليدفأ الأطفال؛ وبالأطباء الذين تطوّعوا، والمكتبيّين الذين جاؤوا بقصصهم وحكاياهم... بكلّ هؤلاء عاد التعليم تعليمًا مجتمعيًّا ينطلق من حاجة الناس إلى التعليم وليس حاجة الدولة. أعيد تقديم التعليم وسيلةً للمواجهة والتحدّي والانعتاق من الاحتلال، في منتصف الحرب، وتحت مئات الطائرات مختلفة الأنواع، وليس بعدها.

يبدو التعليم داخل المبادرة تشاركيًّا، فلا فرق بين مساحة المعلّم والمتعلّم. كلاهما جاء من المكان نفسه، والظرف نفسه. يتعاون الأطفال مع أقرانهم، يحضر الطفل شريكًا حقيقيًّا فعليًّا؛ ففي الحربِ يملكُ الطفلُ معرفة حقيقيّة أتت من معرفته بالألم، وأتت حين نظر حولهُ فرأى كيف وصل القهر آخرهُ: في عائلتهُ، وفي معلّمهُ، وفي محيطهُ كلِّهِ. فقرّر التحرّر منهُ، والذهاب في مسارات عديدة وتجارب. امتلك الطفلُ دورًا لا غنًى عنهُ، بدأ من داخل الأسرة، في ظلّ السعي للبقاء على قيد الحياة وعلى قيد الأمل... بقاءً متلازمًا.