بات مصطلح الدراما في التعليم مألوفًا في الآونة الأخيرة، وراج في الكثير من المؤسّسات الداعمة له، بتعبيرات مثل: تدريبات مكثّفة؛ سفر؛ لقاءات بمعلّمين من جنسيّات مختلفة... وهي متطلّبات لم تعد هجينة عند المعلّمين المهتمّين بالانتقال من مرحلة معرفيّة إلى أخرى، تحقِّق تعلّم الطلّاب بطرق جديدة وغير مملِّة. هي رحلة مليئة بالأفكار والأزمات والحلول، وطرقات قد لا نحظى في حياتنا بالسير فيها.
أنطلق من تجربة شخصيّة مررتُ بها، توضِّح أهمّيّة استخدام طرق جديدة في تعليم اللغة العربيّة، ولا سيّما الدراما، في اكتشاف مواطن القوّة والضعف لدى الطلّاب في التعبير، ودوره في اكتشاف مكامن الهشاشة عندهم في بقية فروع اللغة العربيّة، فضلًا عن سبل معالجتها.
ما الدراما في التعليم؟
الدراما في التعليم أسلوب تعليميّ يعتمد على خلق مشكلة وأدوار حقيقيّة للطلاّب، ضمن مخطّط يضعه المعلّم، بهدف اكتساب المعارف اكتسابًا غير تقليديّ، والكشف عن قدرات الطلّاب وأفكارهم في حلّ المشكلات. تتعمّد خلق الأوضاع الخياليّة لاستكشاف تجارب حقيقيّة عند الطلّاب، حيث تتحوّل مائدة الطعام إلى سفينة مبحِرة، أو قاعة المدرسة إلى غابة، أو غير ذلك من أشكال تحويل المألوف إلى قصّة وقضيّة.
تمتلك الدراما في التعليم، وفق هذا التعريف، القدرة على ربط مجالات مختلفة من الخبرة، بجمع أوجه الخيال والحقيقة؛ فالأطفال، خلال لُعبِهم الدراميّ، يُقحِمون أنفسهم في مختلف العوالم الممكنة وغير الممكنة. يكتشفون، بقيامهم بذلك، الحدود عندهم، وبينهم وأقرانهم. ومثلما يُعدّ التعلّم الذي يكتسبه الأطفال بالموسيقى والرقص والفنون من ضمن التعليم واسع النطاق، تعدّ إمكانيّة التعلّم التي توفّرها الدراما أكثر شمولًا ممّا يقترحه مصطلح التمثيل (بويل، 2016).
المخطّط وتطبيقه
انطلاقًا من تجربتي، معلّمةَ لغة عربيّة ودراما في آنٍ (أرى ضرورة تدريب معلّمي اللغة على الدراما)، كتبتُ مخطّط دراما لدرس "رجال في الشمس" للكاتب غسّان كنفاني. هو درس في مادّة اللغة العربيّة للصف السابع. كان عدد الطلّاب 24 طالبًا وطالبةً، ونُفِّذ الدرس في إحدى المدارس العربيّة للتعليم الحديث في فلسطين المحتلّة. اتّفقنا مع الطلّاب على خوض تجربة الدراما وفق الخطوات الآتية:
1. أحضرتُ خبر غرق مجموعة من اللاجئين، بعد محاولة هجرتهم هجرةً غير شرعيّة وغير آمنة. وطرحتُ مجموعة من الأسئلة:
- - ما الذي يدفع أيّ شخص إلى ترك بلده؟
- - ما الذي يدفع الناس إلى السفر بهذه الطريقة؟
- - ما ظروف العيش التي تتوقّعها لهؤلاء الناس؟
- - هل من الطبيعيّ أن يترك الشخص عائلته وحاضره ويسافر إلى المجهول؟
- - ما كانت أحلامهم؟
- - ممَّ كانوا خائفين؟
خرج الطلّاب بجمل، بعضها متوقَّع وبعضها مفاجئ؛ منهم من حدّد أسباب هذه الخطوة بالحرب، والسياسة، والوضع الاقتصاديّ، والعمل، والرغبة في تجربة شيء جديد: "البلد ضيّقة أمام أحلامنا"، "لا يوجد شيء نخسره في ظلّ خسائر الحياة المتراكمة"...
من هنا، تنفصل الدراما عن التمثيل بأنّ الطلّاب لا يعيشون أدوار القصّة التي يدرسونها، بل يخلق لهم المعلّم قصّة تنطلق من ظروف مشابهة لما ورد فيها، ليضعهم فيها وفق تسلسل مناسب.
2. ابتكرتُ قصّة لإدخال الطلّاب في الدور، فكتبتُ قصّة قرية تعيش ظروفًا جيّدة، فيها وظائف مختلفة. تتعرّض القرية إلى ظروف صعبة، ويقرّر أهل القرية تركها بوسيلة نقل غير آمنة، وعلى أهل القرية أخذ قرار كما في قصّة "رجال في الشمس": إمّا البقاء في وسيلة النقل لوقت أطول مقابل تعرّضهم لخطر الموت، أو الخروج منها. وهنا، يُدخَل الطلّاب في القصّة خطوة خطوة.
3. طلبتُ إلى كلّ طالب اختيار مهنة أو وظيفة يراها مناسبة، من دون تفضيل مهنة على أخرى (يعيش الطلّاب دورهم في القصّة كأنّهم يمتهنون هذه المهنة، ويشكِّل معنى المهنة الرمزيّ حياتهم الحاليّة التي يعيشونها في القرية). كتب الطلّاب المهن، وتحدّث كلّ طالب عن مهنته وأهمّيّتها، ثمّ ألصقنا المهن على كرتونة، وصمّم كلّ طالب صورة تعكس مهنته، لتكون هذه المساحة الصغيرة حياتهم الحاليّة.
4. دخل الطلّاب في حياة القرية؛ ومارس كلّ طالب دوره في عالم متخيَّل.
5. طرحتُ مشكلة في القصّة، حيث وجد أهل القرية نبعة ماء، ولم يُرِدوا أن تعرف القرى المجاورة بذلك.
6. كتب الطلّاب تعهُّدًا بعدم إفشاء سرّ وجود النبعة في القرية، ووقّعوا عليه.
7. تعلمُ القرى المجاورة بالسرّ، وتتعرّض القرية إلى هجوم عنيف يؤثِّر في استقرارها وسلامها ومناحي حياتها.
8. توقّفتُ هنا، وسألتُ الطلّاب: ما الظرف الذي يتعرّض إليه الإنسان ليشعر بالضغط في مختلف مناحي حياته؟ ومن هذا السؤال خرجنا بسؤال بحثَ الطلّاب فيه: ما الأساليب التي يستعملها المستعمرون للضغط على الدول المستعمَرة؟ خرج الطلّاب بالكثير من الإجابات، أهمّها وأكثرها بحثًا الحصار الاقتصاديّ.
9. عرض بعض الطلّاب المعلومات التي جُمِعت عن مفهوم الحصار الاقتصاديّ.
10. عدنا إلى الدراما، وقرّر الطلّاب السفر، بعد نقاش طويل بين رافضي السفر والراغبين به. وجّهتُ الطلّاب، من غير إعلانٍ أو إجبار، إلى اتّخاذ القرار بترك القرية، وهو الهدف الأساس من المخطّط.
11. صنع الطلّاب جوازات سفر، إذ حصل الاتّفاق على ترك القرية بسبب ظروف العيش الصعبة.
12. كتب الطلّاب أحلامهم على ورقة، وكانت أحلامًا مختلفة عمّا يعلق بالذاكرة: أن أعيش في أسرة مستقرِّة؛ أن أجد أصدقاء جددًا؛ عيش حياة طويلة وجميلة؛ التعلّم؛ الحصول على فرصة عمل جيّدة... ألصقنا أحلام الطلّاب على كرتونة ورقيّة، كما فعلنا سابقًا في المهن، لتكون المهن هي الحاضر، والأحلام هي المستقبل.
13. يقف الطالب في الوسط، بين كرتونة الحاضر وكرتونة المستقبل، ويقرّر: هل يترك بلده، أم يبقى رغم الظروف كلّها؟
14. فتحتُ باب الأسئلة والنقاش: إذا كنت ستترك البلد، فلماذا؟ وإذا كنت ترفض الرحيل، فما الأسباب؟
اختلفت الإجابات. منهم من قال إنّه يفضّل الموت في بلده، لأنّه شاهد ما حلّ بالناس الذين هجروا بلدانهم.
ومنهم اختار السفر، لأنّ نسبة احتماليّة النجاة الـ1% أفضل من حتميّة الموت في حال عدم مغادرتهم القرية.
15. طلبتُ إليهم كتابة أهمّ ثلاثة أغراض بالنسبة إليهم، ولماذا؟
اختاروا: الهاتف؛ المال؛ القرآن الكريم؛ صورة العائلة؛ الملابس؛ الطعام؛ مفتاح البيت؛ ألبوم صور... اختلفت الإجابات والاهتمامات.
16. طلبتُ إليهم التخلّي عن الأغراض وإبقاء غرض واحد، لأنّ المركبة لا تحتمل حمولة كبيرة. اختلفت الاختيارات والأسباب:
المفتاح: ليبقى متذكّرًا أنّ له وطنًا، وأنّه سيعود إليه يومًا ما.
الهاتف: لأنّه يحلّ جميع مشكلاته، فيستطيع التواصل مع الأشخاص، والاحتفاظ بصور العائلة، وسحب المال.
ألبوم الصور: لأنّ حياتنا قائمة على الذكريات، ومن لا يملك ذاكرة لا يملك حاضرًا أو مستقبلًا.
17. كلّفتُ الطلّاب بتأدية دور المسافرين في مركبة، ضمن ظروف سيِّئة، حيث يتوجّب عليهم الوقوف لوقت طويل، بانتظار المرور من نقطة التفتيش. الأمر الذي يؤدِّي إلى شعور بعضهم بالتعب والخوف ونقص في الهواء.
18. سألتُ الطلّاب: من سوف يقرّر دقّ جدران الشاحنة؟ ومن سيختار البقاء حتّى مع احتماليّة موته؟ ولماذا؟
أجابت سينين: أفضّل البقاء في المركبة.
تولين: البقاء في المركبة، لأنّ الموتَ موتٌ، والموت في القرية أصعب.
محمد: علينا أن نقرّر حسب وضع الآخرين، لأنّ القرار ليس شخصيًّا.
ميرال: الموت في الشاحنة أفضل، فأنا هاربة من الموت.
عدَي: البقاء في الشاحنة لأنّه من الممكن أن أموت في القرية.
زينة: الخروج من الشاحنة، ليس مهمًّا أين أموت، لكنّ المهمّ أن أتحمّل مسؤوليّة قرار الهرب من القرية.
أيّوب: البقاء في الشاحنة، لأنّ هناك احتمالًا، رغم ضعفه، في النجاة.
19. عدنا إلى السؤال المركزيّ: ما الذي يدفع الناس إلى ترك حياتهم وحاضرهم وعائلاتهم، واللحاق بحلم قد تكون نهايته الموت؟
اختلفت الإجابات بين الطلّاب. منهم من قال اليأس، ومنهم من قال المستقبل الأفضل. أضافت زينة: لأنّ الحياة الحاليّة سيّئة ولا يوجد فيها استقرار، فالسفر يهدف إلى إيجاد حياة أفضل.
علّق أيوب: الحياة تعاش مرّة واحدة، لماذا لا نلحق بالأشياء التي نحبّها، ونطمح لها.
ميرال: الخوف من الموت.
تأمّلات
استطعتُ بالدراما تأمين مشاركة طلّابي، على مختلف الأصعدة: التفكير، والكتابة، والقراءة، والاستنتاج، والتمثيل، والرسم. كانت رحلة "رجال في الشمس" ممتعة ومليئة بمشاعر الخوف والقلق. مع كلّ تجربة دراما مع الطلّاب، تدهشني قدرتها على التلاعب الجميل بمشاعرنا وأفكارنا، والسير بنا نحو طرقات مختلفة لم تكن ضمن المخطّط، وكأنّ شعارها: التخطيط مهمّ، لكنّ بعض الأمور غير المخطّط لها تزيد من عنصر التشويق والمتعة.
أمّا عن رأي الطلّاب برحلة الدراما، فوصلتني هذه الإجابات العظيمة:
- - الدراما تفتح المجال أمام جميع الطلاّب للتعبير عن آرائهم.
- - الدراما مساحة للتعبير من دون اعتراض أحد على أيّ رأي، ومن دون فرض رأي أحد على الآخرين.
- - الدراما وسط تعليميّ مريح، لا يوجد فيه أيّ نوع من الإجبار. نستطيع التعبير فيه بحريّة وراحة أكثر.
- - هي وسيلة تعبير تسمح باستخدام الخيال.
- - الخروج من نطاق المنطق.
- - من الضروريّ أخذ مساق الدراما، حتّى للطالب الجامعيّ، لأنّها مسلّيّة وممتعة.
- - تستطيع التعبير عن نفسك بصورة أفضل، بعيدًا عن الكتابة واللوح والسبورة.
- - بالدراما نستطيع التحليل.
- - بالدراما سافرنا ونحن داخل الصف.
* * *
أختم تجربتي بما قالته الطالبة زينة، والتي تدخلنا كلّ حصة في متاهة الأسئلة والنقاشات التي لا مخرج منها. زينة اختارت الهجرة لأنّها لن تخسر شيئًا. اختارت أن تأخذ معها حبلًا ووسيلة تواصل وغذاء ومياه وبوصلة. أمّا الشيء الثمين الذي ستأخذه معها فتمثّل في: "إمكانيّاتي وتخيّلاتي". وأمّا المهنة التي ترغب بها: "أن أكون إنسانًا؛ فأهمّيّة أن يكون لديك عمل تأتي من نجاحك في كونك إنسانًا أوّلًا".
أذهلتني زينة بإجاباتها غير المتوقَّعة، والتي تشي بقدر من تعلّم الحرّيّة؛ فتذكّرتُ: يُطلب إلينا، نحن، المعلّمين، أن نعلّم الأطفال مفهوم الحرّيّة في الوقت الذي لا نملك فيه حرّيّة التغيير أو التجديد في المنهاج وطرق تدريسه. هذا الطلب، في مثل هذه الظروف، تحدٍّ ونقطة بداية.
المراجع
- باميلا، بويل. (2016). تخطيط الدراما التكوّنيّة. الأهليّة للنشر والتوزيع. مؤسّسة عبد المحسن القطّان.