يُعتبَر التعليم بوّابة المستقبل وسبيل التقدّم وارتقاء الشعوب، لما له من دور في تكوين الرأسمال البشريّ، وهذا ما تتنافس عليه الأمم كلّها. لذا، لا بدّ من تأهيل العنصر البشريّ الذي يجب أن يستجيب لمتطلّبات المجتمع، والقادر على التفاعل الإيجابيّ والبنَّاء مع محيطه الاقتصاديّ والاجتماعيّ والثقافيّ. وفي هذا السياق، نرى أنّ للمنهاج الدراسيّ أهمّيّة بالغة في الحقل التربويّ، حيث ترتكز ملامح مواطن الغد الذي تنشده الدولة على المنهاج الذي يتمّ اعتماده في المدارس. وعليه، فمن الأهمّيّة بمكان اعتماد منهاج دراسيّ له رؤية مستقبليّة لمواطن الغد، وكيفيّة مواجهته للتغيّرات التي يعيشها العالم.
من هنا، لم تعد المناهج التربويّة ترتكز على المعارف والمحتويات فحسب، بل أصبحت ترتكز بالأساس على العنصر البشريّ وخصوصيّاته. ومن بين تلك الخصوصيّات أنّ الإنسان ابن بيئته، ولا يجدر بالمدرسة أن تبقى في زاوية منغلقة على محيط الطالب. لذلك، يجب إعادة النظر في إعداد مناهجنا التربويّة بما يتلاءم مع هذا المحيط، ويراعي التطوّر الذي بلغه المجتمع الحديث.
بناءً على ذلك، نتحدّث في هذا المقال عن المنهاج الدراسيّ المغربيّ وما يعتريه من مشكلات، مقدّمين بعض الاقتراحات التي يمكن من خلالها الحدّ من هذه المشكلات والنهوض بالمنهاج. لكن، قبل الشروع في الموضوع، لا بدّ أن نطرح بعض الأسئلة التي نحاول الإجابة عليها في هذا المقال: ما المنهاج الدراسيّ؟ وكيف يتمّ التخطيط لبنائه؟ ما المشكلات التي يعاني منها المنهاج الدراسيّ المغربيّ؟ وما السّبل لتطويره؟ هل يراعي المنهاج الدراسيّ المغربيّ الخصوصيّة الجهويّة والجغرافيّة للطلّاب؟
مشكلات المنهاج الدراسيّ المغربيّ
المنهاج الدراسيّ تَصوُّر شامل ومتكامل، ينطلق من مُدخَلات ويصل إلى مُخرَجات محدّدة يتوجّب على الطالب امتثالها في نهاية السنة الدراسيّة أو الفصل الدراسيّ. فالمنهاج جملةُ ما تقدّمه المدرسة من معارف ومهارات واتجاهات، لمساعدة الطالب على النموّ المتوازن في جميع جوانب شخصيّته.
انطلاقًا من هذا المفهوم، نجد أنّ للمنهاج الدراسي مكانة اعتباريّة، بصفته العمود الفقريّ للمنظومة التربويّة، وهذا ما يجعل عمليّة بناء المنهاج الدراسيّ تكتسي طابعًا من الأهمّيّة والدقّة. فهي عمليّة لا ترتكز على الطابع التقنيّ والإجرائيّ فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى الأخذ بعين الاعتبار القضايا الفلسفيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة التي تهمّ المجتمع والوطن، فضلًا عن خصوصيّة المحيط الذي ينتمي إليه الطالب. غير أنّ التخطيط للمنهاج الدراسيّ المغربيّ لا يراعي خصوصيّات المؤسّسات واحتياجاتها واحتياجات طلّابها، للانفتاح على محيطهم المُعاش. هذا ما يطرح مجموعة من المشكلات التي يمكن اختصارها في الآتي:
1. عدم ملاءمة المنهاج الدراسيّ لخصوصيّة المدرسة، إذ يغيب التخطيط العمليّ الواقعيّ الناجع، والذي يكفل توفّر البرنامج البيداغوجيّ والمشروع الخاصّ بكلّ مؤسّسة تعليميّة، والذي يمكن أن يربطها بالخصوصيّات البيئيّة والمجتمعيّة والاقتصاديّة لمحيطها ومنطقتها. من شأن هذا المخطّط الغائب في المؤسّسات التعليميّة عندنا أن ينطلق من تشخيص الوضع الخاصّ بالمؤسّسات، ويستجيب في الآن نفسه إلى احتياجات الأفراد والجماعات المستفيدة من خدماتها.
2. غياب تكافؤ الفرص والعدالة المجاليّة، حيث إنّ المنهاج الدراسيّ الذي تعتمده مدرسة معيّنة في منطقة نائية، هو نفسه الذي تعتمده مدرسة أخرى في منطقة حضريّة، بل وتعتمده مدرسة يتحدّث جلّ طلّابها اللغة الأمازيغيّة أيضًا. أي أنّ المنهاج واحد في مختلف المناطق، رغم الاختلافات الثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة فيها. وهذا ما يجعلنا نتساءل عن مدى تكييف المنهاج مع الخصوصيّة الجهويّة والمحليّة لكلّ مدرسة ولكلّ طالب.
3. تعدّد المدارس والمناهج المطبّقة، فالمنهاج الدراسيّ المغربيّ يخاطب محتواه جميع المدارس بالخطاب ذاته، كما لو أنّها تشكّل وحدة متجانسة، ولكنّ الواقع يضعنا أمام عدّة مدارس مغربيّة. يرجع هذا التعدّد إلى الطبقيّة واللامساواة السائدة في المجتمع المغربيّ، فنجد مدرسة النخب والأغنياء (المدارس الخصوصيّة، ومدارس البعثات الأجنبيّة...)، ثمّ مدرسة الفقراء (المدرسة العموميّة)، حيث تتعدّد أنواع هذه الأخيرة بحسب المنطقة ومحيطها. فهناك مدارس في القرى النائية تختلف تمامًا عن مدارس المدن. تختلف كذلك مدارس المدن في ما بينها، فمدرسة في حيّ مُهمَّش، ليست شبيهة بمدرسة وسط الحاضرة. تتميّز كلّ مدرسة من هذه المدارس عن الأخرى في جودتها التعليميّة، وجودة مواردها البشريّة وبنيتها التحتيّة، ممّا يُغيِّب مبدأ تكافؤ الفرص والمساواة، ويؤدّي إلى ظهور مسافة كبيرة بين اتّخاذ القرار وتنفيذه. وبالتالي، نجد المعلّم مضطّرًا إلى النزول بالمنهاج الدراسيّ إلى أرض الواقع، وهو لم يشارك في صياغته. الأمر الذي يدفع كلًّا من المعلّم والطالب إلى تنفيذ مجموعة من الأوامر دون فهم دلالة الفعل في الكثير من الوضعيّات التعليميّة والتعلّميّة.
4. عدم انفتاح المنهاج الدراسيّ على محيط الطالب. وبالتالي، لا يكون التعلّم متّصلًا بالبيئة، فيغيب الحافز في بناء التعلّم، إذ يصبح بلا دلالة. يدلّ على ذلك عجز معظم الطلّاب عن الإجابة على مثل هذه الأسئلة: لماذا ندرس هذا الدرس في الرياضيّات؟ ما الفائدة من التعرّف إلى أقسام الكلمة؟ فيكون التعلّم خاليًا من المعاني والدلالات الواضحة في ذهن الطالب، ويتمّ تقديم المعارف إلى الطالب كحقائق جاهزة، لم يشارك في بنائها.
مقترحات للنهوض بالمنهاج الدراسيّ المغربيّ
حتّى لا نبقى حبيسي التنظير والتشخيص، لا بدّ أن نقترح بعض الحلول والتوصيّات لبناء منهاج دراسيّ يتماشى مع المشاريع الجهويّة التي من شأنها تحقيق التقدّم في الوطن. ومن أهمّ هذه التوصيّات:
1. اعتماد مُدخَلات المنهاج الدراسيّ المغربيّ لبناء منهاج دراسيّ وطنيّ وجهويّ ومحليّ. ومن بين هذه المدخلات الثلاث نجد مدخل التدريس بالكفايات، حيث وجب على محتوى المنهاج الدراسيّ أن يراعي هذا المدخل، فيتمّ إعداد منهاج دراسيّ يسهم في إكساب الطالب الملامح والمواصفات التي يجب أن يكون عليها، وفق علاقته بمحيطه وجهته ووطنه. وعليه، يتحتّم على المنهاج الدراسيّ أن يتّصف بالمرونة لكي يتكيّف مع متطلّبات الطلّاب واحتياجاتهم. يمكن مثلًا تحديد النسب المئويّة للدروس التي يجب أن تُدرَّس في كلّ مادّة وطنيًّا، ومنح حقّ التصرّف جهويًّا أو محليًّا في ما تبقّى من المادّة، لاختيار الدروس والمحتويات التي تخدم المنطقة. صحيح أنّ هناك مواد، كالرياضيّات مثلًا، يمكن أن تتجاوز وحدة الدروس فيها نسبة 90% وطنيًّا، ولكن، رغم ذلك، يمكن اعتماد وضعيّات بنائيّة للدروس تتماشى وخصوصيّة المحيط. في حين أنّ المواد الاجتماعيّة يجب أن تراعي نسبة كبيرة منها ما هو محليّ وجهويّ، لا أن تكتفي بالوطني العام. الأمر الذي يجعل المنهاج الدراسيّ متكاملًا، يراعي احتياجات الطلّاب ويحفّزهم، ويُحيي فيهم القابليّة للتعلّم.
2. وجوب الابتعاد عن تقديس الكتاب المدرسيّ، واعتباره أداة ديداكتيكيّة فقط، ومنح الحريّة للمعلّم للاشتغال بما يتناسب مع احتياجات الطلّاب. صحيح أنّ المعلّم غير مُلزَم بالاشتغال وفق الكتاب المدرسيّ حسب المقرّرات الوزاريّة، ولكن أثناء الممارسة لا يجد بديلًا عنه، لعدم التوفّر على عُدد بيداغوجيّة كفيلة بتيسير العمليّة التعليميّة التعلّمية. من هنا، يفرض الواقع الاشتغال بالكتاب لعدم القدرة على توفير البديل في كلّ المواد، ولا سيّما أنّ مدرّس المرحلة الابتدائيّة في المغرب يُناط به تدريس مواد عديدة. ولهذا اقترحنا ما يُسمَّى بـ"الحقيبة التربويّة" التي تضمّ استراتيجيّات ديداكتيكيّة، ووضعيّات تعليميّة مستقاة من الواقع المعاش، تراعي خصوصيّة الطالب المحلّيّة والجهويّة. تسهم في إعداد هذه الحقيبة لجان متخصّصة تضمّ خبراء تربويّين ومعلّمين وأساتذة جامعيّين، توازيها لجان محليّة إقليميّة تهتمّ بإعداد وضعيّات وموارد ومحتويات، تتناسب مع الخصوصيّة الاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة للمنطقة التي ينتمي إليها الطالب. كذلك، تكون هناك لجان تهتمّ بما هو جهويّ، ولجان تهتمّ بما هو وطنيّ عام.
3. تقييم النتائج من خلال المُخرَجات التي يجب أن يكتسبها الطالب، حيث يجب توضيح المواصفات التي يجب أن يتحلّى الطالب بها في نهاية المرحلة الدراسيّة بشكل بارز وواضح المعالم. يترتّب على ذلك أن يكون منهاجنا الدراسيّ، مثلًا، موضِّحًا الكفايات والمواصفات والمهارات التي يجب أن يكتسبها الطالب الحاصل على الشهادة الابتدائيّة. يقتضي ذلك منح الحريّة للمعلّم، وتزويده بكلّ الوسائل التي تساعده على تحقيق المراد. وفي نهاية السنة الدراسيّة، يُقيَّم عمل المعلّم بالمقارنة بين الملمح الذي وجدنا عليه الطالب ومدى توافقه مع الملمح المنشود.
4. تخصيص دورات تكوينيّة للمعلّمين في الشقّ التربويّ، ولا سيّما في ما يتعلّق بإعداد السيناريوهات البيداغوجيّة والوضعيّات التعليميّة، كي يُلائم المنهاج الدراسيّ الواقع بسلاسة. بالإضافة إلى ضرورة تحفيز المعلّمين، ماديًّا ومعنويًّا، لأنّ الشعور بالتقدير الذاتيّ يؤدّي إلى الفعّاليّة الذاتيّة، ويؤثِّر إيجابيًّا في المدرسة والطالب على حدّ سواء. فتتجدّد الرغبة في الإبداع البيداغوجيّ لدى المعلّم، إذ إنّ هذا الإبداع لا يرتكز على التعليم عن بُعد أو إدماج وسائل التكنولوجيا في التعليم فحسب، بل يتجلّى أيضًا في خلق وضعيّات تعليميّة حقيقيّة مُنطلِقة من واقع الطالب، ومتماشية مع رغباته وميوله، ومُحفِّزة له. الأمر الذي يُثير انتباهه ويُحيي رغباته الذاتيّة في التعلّم، فتجعل منه طالبًا كفؤًا يفيد نفسه ومجتمعه.
***
لا يمكن أن ننكر الجهود المبذولة في هذا الصّدد، وإن كانت لم ترقَ للمستوى المطلوب. ولكن، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المنهاج الدراسيّ المغربيّ يعتبر منهاجًا وطنيًّا عامًّا لا يراعي أيّة خصوصيّة جهويّة أو محليّة، ولا يحترم خصوصيّة الطالب باعتباره طفلًا يحبّ اللعب والاستمتاع. الأمر الذي يُغيِّب شرطًا أساسيًّا في إنجاح العمليّة التعليميّة- التعلّميّة، ألا وهو شرط متعة التعلّم. أمّا المدخل الأساسيّ لتفعيل المشاريع الجهويّة الموسّعة في قطاع التعليم، فيتمثّل في تأسيس منهاج يتماشى مع خصوصيّة كل جهة وإقليم، مع تسخير كلّ الإمكانيّات والموارد المتوفّرة لدى كلّ جهة، للرقي بمنظومتها التعليميّة، ولتحقيق مبدأ الاستقلاليّة في اتّخاذ القرارات، وللوصول إلى ما تنادي به الجهويّة الموسّعة من شعار اللامركزيّة.
يهدف ذلك كلّه إلى بناء شخص متوازن وسويّ، ومنفتح على محيطه بصفته طالبًا، ومنفتح على وطنه بصفته مواطنًا، ومنفتح على الحضارات والعلوم الكونيّة بصفته إنسانًا يواكب متطلّبات العصر. يدفعنا ذلك إلى الاستثمار في الرأسمال البشريّ الذي يُعدّ أغلى الاستثمارات المُسهِمة في تقدّم الأمم ورقيّها.